إذا كان الفضاء العام الديني قائماً على مديات التعامليات الفردية والجماعية وإبرازها لنضج الوعي وحسن تمثّل جوهر المعتقد، فوفق هذا المنطق تكمن الأهمية في تفاعل الشخص مع ما يحمل من قناعات والتزامات ترخي بظلالها على لحظاته المعيشة، بما تعكسه من فهمه وتشبّعه السلوكي والمعرفي وتوجّهه في ربط الأمور ومسارات تحليلها وما يستنتجه.كل ذلك يأخذ بيد الإنسان كي يكون مؤثّراً ولكن -قديماً وإلى الآن- لم يتشكّل هكذا فضاء على أسس متينة تنبعث من عمق الإنسان وروح الجماعة في همومهما المشتركة، وقلقهما المتوالد من رحم رؤى خلّاقة، ومنع ذلك تشابك العناصر الشخصية، وتداخل الهوى الحزبي والأمزجة الجهوية التي تتحكّم بمساره تاركةً أثراً سلبياً على صعيد تفتّق الوعي وترقّيه، وتحرّره وسيرورته الطبيعية في الأخذ أو الرفض. فالفرد يقوم بدور البوق للجماعة، والجماعة تتناغم مع انفعالات الفردانية وعصبياتها حفظاً لكينونتها؛ فغابت الحدود والإسهامات التي ترفع من قيمة الفعل وأصبحنا تالياً أمام حرفية دينية صارمة مع انعدام فرص التجديد، إلا في حدود فردية استثنائية، إذ البيئات الحاضنة غارقة في مخيالها المنغلق على نفسه وعن نفسه، سارحة في ضوضاء طقوسية احتفالية كما نرى ونسمع للأسف كل يوم.
عملياً، ليس صعباً اعتناق معتقد ما، بقدر ما هو الصعب إمكانية هضمه، والاستدلال على قابليته للحياة من خلال ما يطرحه من أدوات لاقتحام التجارب وتصويب الاتجاهات. ولنا أن نتساءل عن هذا التمركز المخيف حول ذهنية، لا يمكن لها، بحسب بناءاتها، إلا أن تتغذّى على أنانياتها وصدى إملاءات وإسقاطات، فأمسينا بلا هموم سوى ما يخدم لملمة الخطاب واستثارة البيئات التي تتلوّى من مشاكلها. وبدل التوحّد حول كيفية وقف الانهيار، أقلّه، والتخفيف من المعاناة اليومية، بات الوضع الاقتصادي في آخر الأولويات ما دام الناس اعتادوا كل ذلك فليساكنوا هذا الوضع. في ظل انزلاقنا إلى مستويات متفجّرة على الصعد كافة؛ فالقسم الساحق معْدمون، ومن بينهم كثر يخفون جوعهم، في لحظة يأس من الاشتباك السياسي والطائفي، المقصود منه وغير المقصود، امتُنع السؤال والتعبير عن الوجع مع أنّ الناس يُساقون إلى الموت وهم ينظرون إلى جراحاتهم وعذاباتهم اليومية، إذ التحرّك من أجل أبسط حقوق العيش الكريم شيء فطري يندفع إليه الإنسان، ولا يحتاج إلى كثير علم ووعي، حتى بتنا نشهد على أزمة أخلاقية كبرى تعمد إلى تغييب النصوص الدينية التي تتحدّث صراحة عن حقوق الفقراء والمحرومين، وما تدعو إليه هذه النصوص من أهمية النهوض في وجه الظالمين والفاسدين، وما تتقوّله عن هؤلاء الزمرة المحتكرة لكل شيء التي تخنق الحياة بجشعها.
في المدار التأويلي هناك عقلان حكما ويحكمان مسيرة البشر: عقلٌ لديه القابلية لتلقّي المعارف والعلوم -وهذا مشترك بين كل الناس- وعقلٌ يبحث دوماً عن الأثر النافع لكل تجربة وموقف يغنيان الإنسان مستفيداً من نشاطه وحركته وانتباهته، عقل يسأل عن الحق والباطل والمعرفة الحقيقية والبحث الجاد المعبّر عن قلق وجودي فعّال ومنتج لا العقل السائل عن مسائل الحلال والحرام حصراً في الدائرة الفقهية.
ويمكن لنا أن نتساءل عن التعطيل المتذاكي للعقل المسموع عبر تجميد آليات السمع والبصر والتفكير، فالسمع مَبيع لهذا وذاك، كما اللسان مأجور يتحرّك بالفتنة، والبصر ناشط في تتبّع العثرات، والتفكير الحر منعدم سوى في ابتكار وسائل السرقة والإفساد وتأليه الأشخاص والجهات والأفكار مهما كانت وتدمير الروح الجمعية لصالح الفردانية الجشعة التي تبتغي السلطة وتكديس الثروات على حساب دم الفقراء وجوع الأطفال.
إشارة إلى ذلك ما نسبه البعض من أدبيات إلى الإمام علي عن العقل المطبوع والمسموع، وبهذا العقل العملي الحسي (المسموع) يكتب الإنسان تاريخه الفردي والجماعي ويسجّل فصول حضارته وتنافسه بين الأمم عبر الإفادة من الحس والتجربة من أجل تصحيح الخطوات وبناء الذات والانطلاق نحو غايات قيمية ترفع شأن النوع الإنساني، لا بل تشمل الكون كله.
من هنا يستحوذ البعد التطبيقي في حياة المؤمنين على الأهمية القصوى والغاية النهائية، ويفضح تالياً كل من تسوِّل له نفسه معايشة القشور والمظاهر على حساب الفعل القيمي السلوكي الأصيل، إذ لا تزلّف ولا مخادعة ولا بيع للضمائر، يفصح عن كثير من تجليات الشرك.
يقوم التديّن الفعلي بتعرية الفرد أمام منسوب وعيه وإلى أين صار وجوده، وكأنه منبّه لحظوي ورقيب على حركته كي تكون حرة منظّمة منضبطة في خط متصاعد نحو العطاء اللامتناهي في سبيل الإصلاح والتكامل الإنساني شعورياً وإنسانياً ومعرفياً.
يتضمّن «التديّن» إطاراً مرجعياً حياً لا بد من أن يعيش فيه أبناؤه حتى تجاربهم الماورائية كشيء موجود الآن ماثل أمامهم، وكأنّ دنياهم صورة مصغّرة عن نعيم طالما يتغنّون به، هنا نقرّب معنى الآخرة أكثر، فهي لم تعد مصيراً غيبياً، بل أضحت شيئاً يتحسّس المرء أبعاده ومعانيه في ذاته قياساً على ما يقدّمه من إسهامات بنّاءة ومؤثّرة على صعيد الفكر والقيمة، وإغناء الحياة بكل ما يلزمها.
ما يعقّد الأمور هو التديّن الشكلاني الفقهي الفارغ، كما الالتزام السياسي لأي انتماء خاوٍ من التطبيق العملي للمسؤوليات، بما يزيد من غربة الذات والجماعة ويغرقهما أكثر. فثمة حاجة ملحّة إلى مسيحية متمرّدة مسكونة بالحياة، كما إسلام متمرّد، هدفهما النهوض ونبذ الرسمية المكرّسة لخدمة سياسات معينة، وانسحاب التمرد ليطاول مقاومة القراءة الحرفية للنص، واختزال تأويله وجعله محصوراً في الهامش من دون تأثير فعال في حركة الفكر والروح والواقع بما يسمح للخارج بكل دوائره المشبوهة من التحكّم بالواقع وخرقه وتحوير مساراته، لا بل رسم هذه المسارات، في بلاد تحتاج إلى قوى خارقة كي تبدأ نقل البعض إلى مرحلة أكثر نضجاً وأهليةً للتغيير. فلقد اعتاد هؤلاء لغة الموضة والمشهور وظنوا أنها واضحة، فإذا ما أتت لغة تحاول رفع الغموض والالتباس عنهم ووضعت الوضوح في نصابه الصحيح، رجموها بحجارة جهلهم.
هنا تترنّح المشكلة بين واقع مأزوم، نحن شركاء في تمزيقه وتأزيمه، وغياب روح النقد البنّاء، بيد أن الأهم هو تربية النفس والآخرين على حسّ المسؤولية الأخلاقية، ومن أسسها المحاسبة، التي غابت وراء خيوط عنكبوت نفعية بين نظم دينية ودوائر مالية وسياسية وعائلية. والغريب أن الجميع يطالب بالمحاسبة وكشف الفاسدين ويعاتب الدولة على تقصيرها وتخليها عن واجباتها تجاه مواطنيها، ثم يبذل قصارى جهده من أجل حجز حصصه وتكريسها في بنيتها عبر توليد الأزمات وافتعالها متلطّياً بمظلته الطائفية والمذهبية، ويدفع عن نفسه وحزبه تهم الفساد وكأنه تربّى في بيوت الأنبياء.
ما لنا إلّا أن نترحم على دولة مسكينة تحوّلت بفعل سياسات مالية واقتصادية نفعية متعاقبة إلى دولة مدمّرة ومتسوّلة، حتى القضاء فيها منشطر. وعلى شعب تحوّل إلى مجموعة جائعين خائفين على حاضرهم ومستقبلهم، لا بل هو المسؤول وحده عن الأزمات في النهاية.
قلة لديها صحوة ضمير ونظافة روح وكفّ، بيد أنّ التعويل يبقى على اتّساع هذه الدائرة في يومٍ ما حتى داخل الدوغمائيات الدينية والسياسية التي تحتاج إلى أعجوبة سماوية، عسى أن نصل إلى روح جمعية تصنع مجتمعاً، وتخرجنا من تجمّعٍ متفجّر سياسياً وطائفياً عند أقل حدث أو موقف منذ مئات السنين.

* أكاديمي وحوزوي