عادة ما يروّج الغرب لفكرة الديموقراطيّة وكأنّها مثال أعلى لا يملك أمامه الإنسان سوى الإعجاب. وإن كانت الديموقراطيّة بالفعل جيّدة من حيث إنّها تسمح بتجنّب العنف الفجّ في المجتمع عند تداول السلطة، وإنّها طريقة بالحكم تسمح للناس بشكل أوسع بكثير من الديكتاتوريّات بالتعبير عن أنفسهم وتنظيم شؤونهم الخاصّة والعامّة بحيث إنّهم يشعرون بأنّهم يتحكّمون بمصيرهم إلى حدّ كبير، فالتحكّم بالمصير يبقى محدوداً، إذ إنّ الدول الديموقراطيّة تقوم بممارسة عنف معنويّ وحتّى جسديّ (إلى حدّ صغير أو كبير) بهدف التحكّم بقرارات الشعب، والوصول إلى حماية مصالح المتنفّذين الماليّة، لا مصالح الشعب المشتركة (انظرْ مقالتنا الأسبوع الماضي). بالإضافة إلى هذه العلاقات الداخليّة بين الناس في الدول الديموقراطيّة، هناك العلاقات الخارجيّة مع شعوب ودول أخرى. فالحروب التي شنّتها وتشنّها الدول الديموقراطيّة على دول وشعوب أخرى أكثر من أن تُحصى في مقالة قصيرة، ويكفينا أن نذكّر بالحروب التي شنّتها تلك الدول الديموقراطيّة على المنطقة العربيّة، ومنها حرب الإبادة الاسرائيليّة المدعومة بشكل كامل من دول «الغرب» الديموقراطيّة والاستعماريّة في آن، والتي قتلت ديموقراطيّاً ملايين من الناس وهجّرت عشرات الملايين منهم حول العالم في العقود الأخيرة.
وإن اعتبرنا الدولة الصهيونيّة «ديموقراطيّة» إلى حدّ ما - مع أنّ المؤرّخ إيلان بابي يفنّد هذا الادّعاء ويبيّن لاديموقراطيّة دولة الاحتلال - فإنّ حكومة تلك الدولة تشنّ حرب إبادة جماعيّة على الفلسطينيّين في أرضهم المحتلّة بالذات، والشعب الصهيونيّ، كما تشير الإحصائيّات، موافق بأكثريّته المطلقة على المذبحة هذه. أمّا الدول الديموقراطيّة الغربيّة، فهي تشنّ علينا الحرب تلو الحرب، ومشروعها واحد هو استغلالنا.
ليس بالديموقراطيّة وحدها يحيا الإنسان. فإن كانت كفكرة مناسبة كطريقة حُكم فإنّ تبنّيها لا يعني الوصول إلى نظام جيّد للبشر. هناك مبدأ أعلى من الديموقراطيّة يجب أن يقيّمها ألا وهو مبدأ احترام الحياة: حياة الإنسان والطبيعة. فالديموقراطيّة يمكنها أن تكون مدمّرة لشعبها (إفقار، سجن، ظلم وتمييز عنصريّ) كما لغيرها من الشعوب (حروب عليهم، استغلال لخيراتهم وحيواتهم، إخضاعهم بالقوّة، قمعهم وقتلهم).
لكي تكون الديموقراطيّة جيّدة ينبغي أن ترتبط بخدمة البشر، شعب الدولة وكذلك شعوب العالم، أي ينبغي للديموقراطيّة أن تخدم حياة الإنسان لا أن تدمّرها. في الحدّ الأدنى الديموقراطيّة الجيّدة لا تدمّر حياة شعوب العالم بالاستغلال أو بالقتل، وبالحدّ الأقصى يمكن التفكير بمشاركة خيرات الأرض بحيث يتضاءل المستوى المعيشيّ في الدول التي استغلّتنا حتّى الآن مقابل صعود في المستوى المعيشيّ في الدول المسحوقة اليوم.
مقياس جودة نظام حكم، ديموقراطيّاً كان أو لا، هو مدى خدمته للإنسان، أي لحرّيته ولحاجاته المادّية والنفسيّة من طبابة وتعليم وعمل وتعاون جماعيّ، أي بعبارة أخرى بمدى قدرتها على خلق بيئة حاضنة للمحبّة والمحبّة دائماً تشاركيّة وتحترم التنوّع. ليس فقط الدِّين، وإنّما الديموقراطيّة أيضاً قد تكون أفيوناً للشعوب، بحيث يقبل الناس وهم القبض على المصير بينما هم يرزحون تحت نظام قمعيّ ناعم يُنتِجُ إفقارهم وقتلهم البطيء بالأمراض الناتجة عن الفقر، أو قتلهم السريع بالحروب، من أجل مراكمة الأرباح.
نعم، الديموقراطيّة أفضل إلى حدّ كبير من الديكتاتوريّة، إذ تسمح بمجال واسع من التعبير الطبيعي عن الذات الفرديّة والجماعيّة. ولكن حين يتكلّم أحدهم عن الديموقراطيّة لا ينبغي أن ننخدع ونظنّ أنّها المبدأ الأعلى الذي لا يُناقَش، أو أنّ المتكلّم -وهو السياسيّ «الغربيّ» عادة- أعلى أخلاقيّاً، بل ينبغي دائماً القيام بنقد صارم لمحتوى أيّ حكم لمطلق أيّ ديموقراطيّة في عنفَيْها الداخليّ والخارجيّ على الإنسان والطبيعة، فالديموقراطيّة جُعِلَت من أجل خدمة الحياة لا الحياة من أجل خدمة الديموقراطيّة، أو أيّ مبدأ آخر. بالنسبة إلى دولة الاحتلال الصهيونيّة، لا يهمّنا إن كانت ديموقراطيّة أو لا، ما يهمّنا أنّها مدمّرة لحياة شعوبنا.

* كاتب وأستاذ جامعي