انتهى العدوان الإسرائيلي «الجرف الصلب» على قطاع غزة، بعد مرور 51 يوماً، لكن مفعول الجرائم الصهيونية لم ينته، والإفلات من العقاب سيستمر إذا لم يلاحق المسؤولون الصهاينة عن هذه الجرائم لا سيما قصف المنازل السكنية. لم يعد يكفي الحديث فقط عن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ـ على الرغم من أهمية تبيان هذه الانتهاكات ـ فلا بد من البحث عن آليات توقف هذه الجرائم.
مع انتهاء عدوان «الجرف الصلب»، يجب المسارعة إلى منع المسؤولين الصهاينة من البناء على سياسة الافلات من العقاب، التي يمكن تعريفها بأنها غياب العقوبة عند خرق قاعدة من قواعد القانون الجنائي، أو غياب المسؤولية الجنائية عن المنتهكين لحقوق الإنسان والقانوني الإنساني الدولي.
بعد الآن، يجب ألا تهدر الحقوق الأساسية للفلسطينيين، ويجب عدم القول بأن المجتمع الدولي لا يحاكم الصهاينة، وإلا فإننا نضيع عمل المقاومة البطولي وتحمّل وتصبّر أهالي غزة بوجه العدوان، وأفضل وسيلة لذلك اليوم هي الانضمام الى نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية.

أولاً: لماذا الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

لقد علت المطالبات للسلطة الفلسطينية، بالإسراع في الذهاب نحو التوقيع على نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، وبعد ان اشترط رئيس السلطة محمود عباس قبول جميع الفصائل الفلسطينية، أعلنت المقاومة وعلى رأسها حركة حماس القبول بالانضمام للمحكمة، فالمقاومة لا تخشى ذلك لأنها تقوم بحقها بالدفاع عن أهالي غزة أمام عدوان غاشم حصد مئات المدنيين الفلسطينيين (لقد تحدثنا عن حق المقاومة في الدفاع عن غزة وتحرير فلسطين في مقال في «الأخبار» تحت عنوان «نظرة على العدوان الصهيوني على غزة»)، وبالتالي لم يعد أمام الرئيس عباس اية حجة لعدم الاسراع بالانضمام الى المحكمة لرفع دعاوى ضد المسؤولين الصهاينة، خصوصاً أنه شكلت لجنة تحقيق دولية في الجرائم التي ارتكبت خلال هذا العدوان على القطاع.
لقد ارتكب الإسرائيليون جرائم الحرب وضد الانسانية والإبادة التي نص عليها نظام المحكمة الجنائية الدولية (ورد ذكرها في المقال السابق) وبالتالي لا بد من ملاحقة المسؤولين عنها دولياً، لأن نفاذ نظام روما والالتزامات الناشئة عنه من شأنها أن تضع حداً لإفلات هؤلاء المجرمين.

يجب عدم القول بأن المجتمع الدولي لا يحاكم الصهاينة وإلا فإننا نضيّع عمل المقاومة


تعتبر فلسطين دولة شأنها شأن بقية دول العالم، وفي يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية على قرار الاعتراف بدولة فلسطين وأعطيت صفة عضو مراقب. وقد أعاد هذا القرار تأكيد «حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحقه في أن تكون له دولته المستقلة على الأرض والتخلص من الاحتلال». وبالتالي من حق فلسطين أن توقع على المعاهدات المتاحة أمام «جميع الدول».
لقد نص نظام المحكمة على أن الدولة التي تصبح طرفاً في هذا النظام الاساسي تقبل بذلك اختصاص المحكمة في ما يتعلق بالجرائم المشار اليها، ويجب أن تصبح فلسطين عضواً فيها، لأن هذه الجرائم التي يرتكبها الصهاينة، يمكن احالتها على المحكمة في حال لم توقع فلسطين على نظام روما عبر ثلاثة طرق:
1: يمكن الاحالة عبر مجلس الأمن ولكن هيمنة أميركا على المجلس بسبب استخدامها لحق النقض الفيتو لمصلحة «اسرائيل» ستمنع ذلك.
2: يمكن إحالة هذه الجرائم عبر الجمعية العامة، بفضل استخدام قرار الاتحاد من أجل السلام، ولكن ايضاً ليس هناك ما يضمن أن لا تؤثر أميركا في الدول في الجمعية العامة وتمنع إحالة الجرائم الصهيونية على المحكمة الجنائية الدولية.
3: يبقى فقط أن هناك إمكانية أن تدعي الدولة المتضررة أمام المحكمة ويجب أن تكون دولة عضو، أو أن يحرك المدعي العام هذه الشكوى ويجب أيضاً أن تكون هذه الدولة عضواً في المحكمة إلا في حالات قد تكون استثنائية.

ثانياً: اختصاص المحكمة

إن المسؤولية عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يتحملها، إلى جانب الحكومات، الأشخاص الطبيعيون المتهمون بالتخطيط لارتكاب هذه الجرائم. ويكتسب نظام المسؤولية الجنائية الدولية للأشخاص الطبيعيين أهمية كبيرة للحيلولة دون اقتراف هذه الجرائم، لذلك طالب الكثيرون بإنشاء محكمة جنائية دولية، حيث كانت ثمرة ذلك التوقيع على نظام روما الذي انشأ بموجبه المحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورةً في سياق انتهاك القانون الدولي.
لقد نصت المادة 11 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه: ليس للمحكمة اختصاص إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي. هذا يعني أنه لا اختصاص للمحكمة على الجرائم التي وقعت قبل بدء النظام الأساسي.
كما تنصّ الفقرة 2 من المادة نفسها على أنه: إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، ما لم تكن تلك الدولة قد أصدرت إعلاناً أودعته لدى سجل المحكمة، تقبل بموجبه ممارسة المحكمة اختصاصها في ما يتعلق بالجريمة قيد البحث المرتكبة قبل نفاذ النظام بالنسبة لتلك الدولة.
وقد سبق لفلسطين أن قدمت عام 2009 إعلاناً، بـ«اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لغايات تحديد وملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن الأفعال التي ارتُكبت في إقليم فلسطين منذ يوم 1 تموز/ يوليو 2002 والمشتركين معهم في ارتكابها».
وأشارت المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة، إلى أن اختصاص المحكمة يطبق على الأشخاص الطبيعيين، أي المسؤولية الجنائية فردية، وأن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية... ولكن تبقى مسؤولة عن الضرر الذي يلحق بالآخرين نتيجة لأعمالها غير المشروعة، وتلتزم الدولة التعويض عن هذا الضرر على النحو المقرر في أحكام المسؤولية الدولية.
وبحسب المادة (27) والمادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة يمكن أن ينقسم الاشخاص إلى فئتين:
الفئة الأولى: رؤساء الدول وذوو المناصب العليا.
الفئة الثانية: القادة والرؤساء العسكريون المسؤولون عن أعمال مرؤوسيهم.
لقد نصت المادة 28 –أ على مسؤولية القادة والرؤساء وأن القائد العسكري أو من يقوم مقامه يكونان مسؤولين مسؤولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة...
أما في ما يتعلق بعلاقة الرئيس بمرؤوسيه، فقد نصت الفقرة «ب» من «المادة 28» عليها، وأن الرئيس يسأل جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته...» وكانت واضحة المسؤولية الجنائية التي تقع على عاتق رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه موشيه يعالون وبعض المسؤولين والقادة العسكريين، وذلك من خلال تصريحاتهم وتصرفاتهم التي تعتبر دليلاً على جرائمهم، بالإضافة الى ما ارتكب من جرائم ضد المدنيين، بخاصة النساء والأطفال.

ثالثاً: فعالية المحكمة الجنائية

يمكن الجزم بأن للمحكمة الجنائية الدولية، دوراً كبيراً في تحقيق العدالة الجنائية، لولا التدخلات السياسية الدولية، لكن ذلك لا ينفي أن للمحكمة دوراً كبيراً يمكن أن تلعبه على صعيد تحقيق هذه العدالة.
ونعم يمكن أن يأتي أحد ويقول، إن انضمام فلسطين إلى المحكمة لن يؤثر في الصهاينة، لأن لمجلس الامن صلاحية ارجاء التحقيق والمقاضاة للمحكمة وهذا ما نصت علية المادة 13 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية بقولها: ــ لا يجوز البدء في التحقيق او المقاضاة بموجب هذا النظام لمدة 12 شهراً بناءً على طلب مجلس الامن الى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها.
ولم تنص المادة صراحةً على صلاحية مجلس الامن بعدم الموافقة على رفع دعاوى اما المحكمة الجنائية الدولية حفاظاً على استقلالية هذه المحكمة. كما قد يكون من الصعب ملاحقة المسؤولين الصهاينة في الدول التي وقعت مع «إسرائيل» اتفاقات لمنع ملاحقة مسؤوليها قضائياً مقابل علاقات اقتصادية او امنية وغيرها.
ولكن ذلك لا يمنع تحقيق دعاوى ضد الصهاينة والسير بهذه الدعاوى حتى النهاية وحتى تحقيق مبتغاها، أو على أقل تقدير عدم النسيان بأن هناك جرائم بشعة جداً يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين، وتبقى المحكمة الجنائية أفضل من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية التي تحاكم الدول. كما أن هناك آمالاً كبيرة معلقة على المحكمة من اجل الانتصار لحقوق الضحايا الابرياء وفضح الوجود الغير الشرعي للاحتلال وممارساته الاجرامية، خصوصاً أن هناك تعاطفاً دولياً كبيراً مع فلسطين نتيجة العدوان الصهيوني الغاشم.
ويعتبر هذا الانضمام مهماً لمعرفة مدى اهتمام النظام الجنائي الدولي بتحقيق العدالة والإنصاف لضحايا الحروب والنزاعات المسلحة على المستوى الدولي، بالإضافة الى فضح المعايير المزدوجة في المجتمع الدولي. لذلك يجب العمل على الانضمام فوراً لنظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وخلق بيئة إعلامية وسياسية لفضح هذا الكيان الاحتلالي.
* صحافي لبناني