كما كلّ شيء دينيّ، هناك التطبيق الآليّ لأمور الدين، والتطبيق الناتج عن معنى. الصوم قضيّة حبّ. في صوم المعنى، يفرض الإنسان المحبّ لله على نفسه الاستغناء عن الطعام والشراب، أو بعضه (المنتج الحيوانيّ بالنسبة للأرثوذكس) لفترة محدودة، ليتفرّغ أكثر للصلاة، أي للحديث مع الحبيب. يشبه هذا شيئاً من حياة عاشقٍ وَلِهٍ، يحبّ حبيبه كلّ يوم، ويعبّر عن حبّه له بطرق شتّى كلّ يوم، فيتكلّم إليه، ويفرح بوجوده، ويشاركه الآفاق نفسها، ويسعيان لعيش مبادئ مشتركة، ويحملان هموماً مشتركة، ويعتبر كلّ ذلك تفاصيل من كون الآخر هو «حياته» كما يعبّر أحياناً. ولكنّه كذلك، ومن وقت لآخر، يخصّص للحبيب وقتاً لكلام أكثر عمقاً وكثافة وحميميّة، أثناء عشاء مثلاً. وبالطبع، يبقى بانتظار ذاك العشاء طوال النهار، ويكون الانتظار جميلاً، يشعل الشوق فيه دفء اللقاء بشكل استباقيّ. وإن تأخّر الحبيب للعشاء ينتظره المحبّ حتّى ولو جاع قليلاً. إن لم ينتظر ويقبل على نفسه جوعاً ممكناً لكان ذاك متضارباً مع تأكيده الكلاميّ أنّ الحبيب هو حياته، وَلَظلّلت الخيبةُ ذاك اللقاء.
الجوع الطوعيّ في الصوم شبيه بهذا المشهد؛ هو تأكيد بالجسد الذي يطلب الإشباع الفوريّ بأنّ الآخر الإلهيّ هو أولويّة على الطعام، أنّ طلب العلاقة مع الله هو أولويّة على ما قدّمه الله لنا من طعام، أنّ المُعطي أهمّ من عطاياه (الدنيا بما فيها عطيّة إلهيّة في عينَيّ المحبّ)، ولهذا يتقدّم الشخص على عطاياه، تتقدّم العلاقة على الجوع وطلب الإشباع الفوريّ، كما في مثل العشاء الذي ضربناه فوق. الصوم تأكيد على أنّ المعنى يكمن في تلك العلاقة بالآخر الإلهيّ، والجوع الطوعيّ هو عيش فعليّ لمقولة أنّه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» لأنّ كلام الله، أي الله نفسه، هو المصدر الفعليّ للحياة. هدف صوم المعنى هو أن يعلو الإنسان من مستوى العيش إلى مستوى الحياة، من مستوى الحاجة الغريزيّة إلى مستوى العلاقة، إلى مستوى الشخص، فالشخص هو ذاك الذي في علاقة محبّة مع آخر مقيماً وزناً لنفسه وللآخر.
لكنّ مفتاح معنى هذا الجوع في الصوم هو في أنّه طوعيّ. الجوع القسريّ ليس صوماً، هو ظلمٌ. فإن كان الجوع مفروضاً على إنسان بسبب إفقاره، أو لأنّ هناك من يقصد تجويعه بشكل حرفيّ كما في الحالة الفلسطينيّة اليوم، كان الإنسان مظلوماً. الظلم يدين الظالم، ولكنّه يدين أيضاً مَن تغافل عن الظالم فحيّد نفسه وغسل يديه من دم المظلومين مُشيحاً بوجهه عنهم على عكس ما أوصى يسوع (متّى ٢٥: ٣١ - ٤٦) وردّد فحواه حديث شريف، فـ«إنّ الله، عزّ وجلّ، يقول يوم القيامة:.. يا ابن آدم: استطعَمتُكَ فلم تُطعِمْني، قال: يا ربِّ، وكيف أطعمُكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ قال: أما علمتَ أنّه استطعمَك عبدي فلان، فلم تُطعمه؟ أما عَلِمتَ أنّك لو أطعمتَهُ لوجدتَ ذلك عندي. يا ابنَ آدم: استسقيتُكَ، فلم تُسقِني، قال: يا ربّ، كيف أُسقيكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ قال: استسقاكَ عبدي فلانٌ فلم تسْقِهِ، أمَا إنّك لو سقيتَهُ لوجدتَ ذلك عندي» (الأربعون القدسيّة، الحديث الثامن عشر).
مفتاح معنى هذا الجوع في الصوم هو في أنّه طوعيّ. الجوع القسريّ ليس صوماً، هو ظلمٌ


إنّ الموقف الملموس لأيّ إنسان في منطقتنا من الفلسطينيّين هو جزء أساس ممّا سيحدّد مصيره يوم القيامة. إنّ جوع الفلسطينيّين في غزّة يدين حضارة الذين يشاركون بشكل لا لُبس فيه بالتجويع، لكنّه أيضاً يدين أولئك من المسيحيّين والمسلمين الذين سيدخلون فترة جوع طوعيّ غير آبهين بأولئك الذين فُرِضَ عليهم جوعهم. دون الاهتمام الفاعل بجوع الفلسطينيّين يبقى الصوم شكليّاً لأنّ القلوب والعقول تكون قد تعامت عن ربّ العالمين الجائع والعطشان في وجوههم.
ماذا يمنع المسيحيين والمسلمين في بلادنا من التجنّد لحملة مقاطعة إسرائيل، ليس كترف ثقافيّ وإنّما كالتزام إيمانيّ ملموس مُتَرجم بأعمال ملموسة؟ ماذا يمنع كنائس بلادنا أن تجنّد قسوساً أو مطارنة ليكونوا في الغرب مبشّرين بأنّ وجه يسوع اليوم يكمن بشكل مميّز في الوجه الفلسطينيّ؟ كنيستي الأرثوذكسية الأنطاكيّة، مثلاً، تعيّن مطارنة اسميّين (أساقفة) لكي يساعدوا مطراناً أو بطريركاً، ما الذي يمنعها من تعيين أساقفة سفراء للمسيح الجائع في وجوه الفلسطينيّين، ليدعوا مجامع الكنائس الغربيّة إلى مقاطعة إسرائيل؟ ماذا يمنع كلّ الكنائس في منطقتنا من اتّخاذ هكذا خطوات؟ أهو الخوف من انقطاع سيل المساعدات من الكنائس والمنظّمات الأوروبيّة والأميركيّة؟ أهو التضييق من السلطات في الخارج أو الداخل؟ لا نعرف، ولكنّنا نعرف أنّ الكنيسة نشأت وانتشرت في الاضطهاد وأنّها كنيسة شهداء. أجلى شهادة للمسيحيّين العرب اليوم تكمن في شهادتهم للحقّ الفلسطينيّ.
«مَن لا يجمع معي فهو يفرّق» يقول يسوع، وكذلك يقول: «أنا هو الحقّ»؛ مَن لا يعمل لكي يُرفَع الظلم ليجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحد في العدالة والحقّ، لا معنى لصومه لأنّه لم يطلب «الخبز الحقيقي النازل من السماء» - يسوع. يُخشى أن يكون هكذا إنسان قد حكم على نفسه بالبقاء في مستوى العيش ولم يرقَ إلى مستوى الحياة، مستوى العلاقة مع وجه الله الساكن في المظلومين. مَن لا يأبه من الصائمين المسلمين والمسيحيّين بالفلسطينيّين لمّا يدخل الإيمان قلبه بعد.

* كاتب وأستاذ جامعي