«حيثما لا يوجد إلّا خيار بين الجبن والعنف، ينبغي حسم الأمر لصالح الحلّ العنيف» (المهاتما غاندي)


أمام كلّ مذبحة تحدث في غزّة يعود السؤال حول فاعليّة الردّ الفلسطيني العسكريّ وجدواه. وإن تركنا جانباً المستسلمين والمتخاذلين فهناك أناس يطرحون السؤال بصدق، وهؤلاء ينقسمون إلى فئتين: الأولى تقول بأنّ المفاوضات هي الحلّ، وهو الموقف ذاته الذي اتّخذته السلطة الفلسطينيّة، والثانية تنطلق من اعتبارات مختلفة لتقول بأنّ النضال هو الحلّ. فأين جانب الصواب وجانب الخطأ في كلّ من هذين الموقفين؟

إنّ الإنسان الذي احتفظ بكرامته الإنسانيّة، لا يمكنه أن يختار ألا يفعل شيئاً تجاه الظلم الذي يقع عليه أو على غيره، لا يمكنه أن يتابع حياته كأنّ شيئاً لم يكن، لأنّه لا يرضى بأن يكتفي بالأكل والشرب والتناسل واللهو، وإلا بقي على المستوى الحيوانيّ للعيش من دون تمييز بين الظلم والعدل، حتّى الحيوانات لا تستسلم بسهولة إلى التدجين أو السجن. المقاومة عمل إنسانيّ يولد عليه الأطفال، الذين يشعلون ثوراتهم الخاصّة ضدّ قمع الأهل لهم وعدم احترامهم لهم، ولو اتّخذت تلك الثورات شكل العصيان و«العناد» والسلبيّة. بالطبع، على أرض الواقع قد لا يكون الإنسان قادراً على رفع الظلم في لحظة ما، ولكنّه يبقى قادراً دائماً على المقاومة، ولو كانت مقاومته محصورة في مرحلة ما بالتمسّك بمبادئ محدّدة، وبتعليم تلك المبادئ، وبرفض الانصياع لبعض الأمور الرمزيّة. لقد كان المناضل نيلسون مانديلا يقول بأنّه كان يعصي أوامر سجّانه بأمور بسيطة، إذ كان مثلاً يتباطأ عندما يأمره السجّان بأن يمشي بسرعة؛ وبهذا العمل البسيط كان يحفظ كرامته كإنسان حرّ. إذاً، انطلاقاً من أنّه لا بدّ للإنسان الذي قرّر أن يعيش إنسانيّته من أن يفعل شيئاً تجاه الظلم، نطرح السؤال: ما الذي يمكن للإنسان اليوم أن يفعله من أجل الفلسطينيّين في فلسطين أو في الخارج؟ هل التفاوض هو الحلّ؟ هل النضال بالسلاح هو الحلّ؟ هل النضال اللاعنفيّ هو الحلّ؟

1ـ مفاوضات أم لا؟

ماذا عن المفاوضات؟ لا شكّ في أنّه لا بدّ من التفاوض يوماً ما مع العدو أو الخصم. غاندي تفاوض مع العدوّ مرّات عدّة، لكنّه فعل من دون أن يرمي سلاحه: نضاله اللاعنفيّ. وفشلت مفاوضات وبدأت أُخرى، ولكن كان المحتلّ دائماً تحت ضغط النضال اللاعنفيّ؛ إلى أن جلس مع العدوّ البريطانيّ ليقرّ العدوّ بهزيمته ويوقف الاحتلال مجبوراً. إنّ التفاوض بين الضحيّة والجلاد من دون سلاح النضال هو بكلّ بساطة مهزلة، مهزلة إنسانيّة، ومهزلة سياسيّة، ومهزلة منطقيّة، ومهزلة حتّى من وجهة النظرة العلميّة لأنّ «تفاوضاً» كهذا يستخدم أدواتٍ نعلم مسبقاً أنّه لا يمكننا بواسطتها أن نصل إلى نتيجة لمصلحة المظلوم. عندما يجلس صاحبُ حقٍّ إلى مائدة المفاوضات لا يمكنه أن يأتي صِفْرَ اليدين ليتكلّم.


التفاوض ليس أسلوباً
ناجعاًَ إن لم يكن يستند
إلى عناصر قوّة
المفاوضات ليست كلاماً وتبادل حكمة، ولا هي مجرّد تبادل مُحاججة فكريّة، ولو إنّها توسّلت العقل والمنطق. عندما تأتي الضحيّة لتتفاوض مع الجلاّد، بلا وسائل قوّة تضغطُ بها على الجلاّد، تكون تأتي للتسليم بشروط الجلاد. يجب أن يستخدم صاحب الحقّ وسائلَ القوّةِ لكي يقبل الظالم بالتراجع عن ظلمه والتسليم بحقوق المظلوم، كما يجب ألّا يرمي وسائل القوّة بمجرّد الجلوس للتفاوض، بل عليه أن يظلّ ممسكاً بأساليب القوّة حتّى الوصول إلى الحقوق كاملة. إنّ المحتلّ الصهيونيّ، ومطلق أيّ محتلّ، لن يتراجع عن احتلاله إلاّ مضطرّاً. بلا قوّة لا يوجد تفاوض يوجد فقط استسلام، ولو اتّخذ الاستسلام سنوات ليكتمل. إذ أخذنا مثالاً يوميّاً واضحاً، نرى أنّه بلا ضغط على أصحاب العمل لا أمل للعمّال في أيّة بقعة من العالم بالوصول إلى حقوقهم. هذه مسلّمة بديهيّة في عصرنا، وعليها يقوم كلّ العمل النقابيّ. بلا قوّة لا يمكن الوصول إلى حقوق، ولا حتّى إذا انتهج الإنسان «المفاوضات».
في الوضع الفلسطينيّ، ألقت السلطة الفلسطينيّة السلاح عمليّاً، وحماس كانت بصدد الانضمام إلى مسار السلطة أخيراً، والسلطة تفاوض منذ خمسة وعشرين عاماً، واعترفت بإسرائيل. مقابل ماذا؟ مقابل توسّع المستوطنات، وقضم الأراضي، وتتابع الكذب والتسويف، والاتّهامات الاسرائيليّة للقيادات الفلسطينيّة المتعاقبة بعدم الجدّية، وتسويقها للعالم بأنّه لا يوجد في الطرف المقابل شريك «سلام». لماذا يتصرّف الاسرائيليّون هكذا؟ لأنّهم يعلمون أنّ مَن رمى وسائل القوّة وجلس على طاولة «مفاوضات» ليس له أيّ تأثير، بل هو خاض عمليّة استسلام. وللأسف، إنّ السلطة الفلسطينيّة تصرّ حتّى الآن أن تكون بلا تأثير، لأنّها قرّرت أن تكون بلا قوّة.

2ــ ما هي القوّة؟

لكن ما هي القوّة؟ إضراب العمّال هو قوّة لأنّه تهديد لمصالح أرباب العمل ولأرباحهم، ولهذا يتجاوب أرباب العمل مع العمّال ومطالبهم. كلّ إنسان يعلم أنّ وعظ أرباب العمل بما أتى في الكتب المقدّسة، أو في شرعة حقوق الانسان، لا يكفي وحده لإحقاق حقوق العمّال. هكذا أيضاً، فإنّ المدافعين عن حقوقهم السليبة في فلسطين، الساعين لرفع الظلم والاحتلال، وإلى تفكيك نظام الفصل العنصريّ الصهيونيّ ورميه (وليس رمي اليهود) في قمامة التاريخ، يجب أن يستخدموا وسائل القوّة من أجل الوصول إلى استرداد حقوقهم، واسترداد أرضهم، للعيش عليها بكرامة. ووسائل القوّة التي يمكن للإنسان استخدامها في نضاله هي نوعين: وسائل لاعنفيّة ووسائل عنفيّة، والفلسطينيّون بالفعل يستخدمون هذين النوعين، فهناك وسائل عنفيّة مسلّحة (لا توازي في مطلق الأحوال وسائل المُحتَلّ الصهيونيّ المدجّج بأحدث الأسلحة وأشدّها فتكاً)، وهناك حركة المقاطعة التي أطلقتها النقابات والمنظّمات غير الحكوميّة الفلسطينيّة منذ ندائها الشهير في تمّوز عام 2005.
وإن كانت المقاومة العسكريّة معروفة لدى الجميع ويعتبرها المجتمع عامّة تعبير قوّة، فإنّ المقاومة اللاعنفيّة مثل المقاطعة الاقتصاديّة والأكاديميّة والثقافيّة غير معروفة كفاية، وتثير حفيظة البعض، وتهكّم البعض الآخر. لكنّ الواقع أنّ هذه المقاطعات هي فعل قوّة ولها تأثير بالغ في العدوّ. إذا أخذنا المقاطعة الاقتصاديّة مثلاً، فإنّها تضرب مصالح العدوّ الاقتصاديّة، وهي لهذا موجعة أكثر بكثير من بعض أوجه المقاومة العنفيّة غير الفاعلة، والتي يتّخذ منها العدوّ وسيلة غسل دماغ إعلاميّة يبرّر بها أعماله الوحشيّة لدى الرأي العام في الداخل والخارج. ومن دلائل أهمّية المقاطعة كوسيلة ضغط وتأثير، القلق الذي أبداه رجال الأعمال الاسرائيليون من المقاطعة الاقتصاديّة، ووضعُ المقاطعةِ على جدول أعمال حكومات العدوّ، وصرف المال والجهد السياسيّ لتلك الحكومات من أجل إيقاف المقاطعة، أو الحدّ من مفاعيلها. وجدير بالذكر أنّ الخسارة التي كبّدتها المقاطعة الاقتصاديّة لاقتصاد الاحتلال بلغت العام الماضي 30 مليون دولار، ويعتبر الاسرائيليّون تلك المقاطعة «حرباً مستمرّة» ضدّ حكمهم.
إنّ أكثر صواريخ الفلسطينيّين لا تخيف بالفعل حكومة الاحتلال، بل تستخدمها فزّاعة للاسرائيليّين وللرأي العام العالميّ (وهذا الأخير موجود ويتفاعل مع القضيّة الفلسطينيّة). ولهذا، محقّون هم الذين ينتقدون فاعليّة الصواريخ التي يطلقها الفلسطينيّون في ردّ فعلهم الدفاعيّ، ومدى جدواها بالنسبة لتحقيق هدف التحرير. إلّا أنّ المنتقدين لا يقولون لنا ما العمل إذاً؟ هل يرمي الفلسطينيّون السلاح بالكامل؟ هل يجلسون في بيوتهم ليموتوا تحت ركامها؟ ثمّ إنّ هؤلاء ينسون أنّ إسرائيل التي لا تحسب حساباً جدّياً لصواريخ غزّة من ناحية قدرتها على التدمير، تحسب ألف حساب لصواريخ المقاومة اللبنانيّة وقوّتها العسكريّة، وكذلك للأثر الاقتصاديّ للصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينيّة، فوقوع صواريخ قرب مطار تل أبيب أدّى إلى امتناع شركات الطيران عن التوجّه إلى ذاك المطار مُكبّداً العدوّ خسائر اقتصاديّة كبيرة جدّاً. أيّ من نوعي المقاومة هو الأجدى، إذاً، المقاومة العنفيّة أم المقاومة اللاعنفيّة؟

3ــ المقاومة العنفيّة

يمكن الانطلاق من خلفيّات أخلاقيّة فلسفيّة أو دينيّة لاعتبار قتل الإنسان، مطلق أيّ إنسان، أنّه شرّ، فالإنسان مخلوق على «صورة الله» (مسيحيّاً) والخَلقُ كلّهم «عيال الله» (إسلاميّاً)، وبغضّ النظر عن الرؤية الدينيّة يمكننا القول بأنّ الإنسان مولود للحياة، ويجب أن يتاح له أن يحيا ويخطئ ويعود عن أخطائه، وهذا يفترض احترام حياته وعدم قتله، خصوصاً أنّ هناك عوامل كثيرة، غير ذاتيّة، تؤثّر في انحرافاته. ومن هنا الأفضليّة هي لعدم قتل الآخر، وللمقاومة اللاعنفيّة حيثما أمكن، ولمحاكمة المجرمين.

يعلم الإسرائيليّون أنّ
مَن رمى وسائل القوّة وجلس إلى طاولة «مفاوضات» ليس له أيّ تأثير


ولكن، إن استحالت المقاومة اللاعنفيّة (فلسطينيّاً، برهنت ثورة الحجارة أنّ المقاومة اللاعنفيّة ممكنة)، يمكن خوض النضال العنفيّ بالسلاح من أجل التحرير على أساس أنّه أهون الشرّين: شرّ سحق العدوّ للشعب المعتدى عليه، وشرّ العنف والقتل الذي سيلحق بالعدوّ. وإن كان يمكن لإنسانٍ ما إن يرفض أن يدافع عن نفسه عنفيّاً عندما يتعلّق الأمر بتهديد له بالذات كشخص، فإنّه لا يمكنه تبرير رفضه للعنف بشكل قطعيّ، إذا ما كان مسؤولاً عن غيره، إذ يغدو عليه لزاماً أن يحمي حياتهم، انطلاقاً من مبدأ الدفاع عن حياة الإنسان الآخر المُستَضعَف، وإلّا كان موقفه أقرب إلى الجُبن. لهذا قد نجد تبريراً (مسيحيّاً حتّى) لاستخدام العنف وقتل المُعتدي، كعمل يُعَبِّر عن مسؤوليّة الإنسان الإيمانيّة تجاه عيال الله، وإن كان البعض يعتبر القتلَ بحدّ ذاته شرّاً، فإنّ قتل المُعتدي هو شرّ لا بدّ منه، شرٌّ يضطرّنا إليه شرّ المعتدي الذي يدمّر ويسحق كرامة وحياة شعب بكامله.

أواليّات نفسيّة تسمّم النضال العنفيّ

إلا أنّ العنف يحمل في طيّاته محاذير خطيرة قد تطيح بالأهداف التي من أجلها استُخدِم. فقد بيّن علم النفس أنّ هناك أواليّات (machanisms) نفسيّة تساهم في انحراف النضال العنفيّ، من هدف الدفاع عن الحياة، ليتحوّل إلى عدوان تدميريّ، لا رادع له.
الأواليّة الأولى التي تساهم في هذا الانحراف، هي ما يدعوه الاخصّائيّ النفسيّ د. كوستي بندلي «محاولة تناسي الإنسان لفنائيّته»، إذ يتخيّل الإنسان بأنّ الموت الذي يهدّده لا ينبع من وجوده ذاته وإنّما من عدوان عدوّه عليه، وبالتالي يوهم نفسه أنّه بقتله عدوّه يتخلّص من الموت الذي يهدّده، ما يدفع الإنسان إلى الانجراف إلى قتل وتدمير الآخر حتّى عندما لا يكون ذلك ضروريّاً، أي حتّى ولو لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حياة أبرياء. وبانسياقه إلى هذا النمط التدميريّ يشعر الانسان بأنّه انتقل من وضع الذي يتذوّق الموت على يد الآخر إلى وضع ذاك الذي يذيق الموت للآخر، فيتوهّم بأنّه غدا سيّد الحياة والموت، ولكأنّه أصبح مساوٍ للإله بطريقة مشوّهة. وما يغذّي هذا الانسياق إلى تدمير الآخرين، هو أنّه يُعيدُ الإنسانَ إلى وهمه الطفوليّ بالاقتدار الكلّي، هذا الوهم الذي بيّن علم النفس وجوده في الطفل. كما تؤجّج هذا الانزلاق من مقاومةٍ عنفيّة هدفها الحفاظ على الحياة إلى رغبةٍ بتدمير الآخر مجّاناً، الاحباطاتُ الحياتيّة المختلفة (احباطات عائليّة، اقتصاديّة، إلخ) التي تُشعِرُ الإنسان بهشاشة وجوده، ما قد يدفعه إلى الانزلاق إلى التسلّط على الآخرين وإلى إبادتهم تأكيداً لوجوده، مكتسباً بذلك شيئاً من الشعور الوهميّ بأنّه كلّي القدرة، وبأنّ وجوده بالتالي غير خاضع للهشاشة والفناء، فيُسكِتُ هكذا في ذاته رهبةَ الموت.
الأواليّة النفسيّة الثانية هي تلك المعروفة بـ «التماهي بالمعتدي»، حيث يستبطن المظلوم موقف المعتدي الظالم، وطريقة تصرّفاته ويتبنّاهما. وإذا به يمارس التدمير، ليشعر بأنّه يتحوّل من موقف الضعيف إلى موقع «القويّ». وإذا به يتوجّه بعدوانه إلى مَن هو أضعف منه (عوض أن يتوجّه إلى المُعتدي)، فيتحوّل هكذا المظلومُ إلى ظالمٍ، صغيراً أو كبيراً، لمن هو مظلوم مثله من العدوّ المشترك، وإذا المظلوم يتمثّل بالعدوّ الذي من المفترض أن يحارب ظلمه ويتسلّط على الذين يقاتل من أجلهم!
وهناك أواليّة «الإسقاط» التي ينتهجها الإنسان، بشكل لا واعٍ، لتبرير ظلمه ومواقفه وتصرّفاته العدوانيّة تجاه فرد أو مجموعة. والإسقاط هو عبارة عن عمليّة لاواعية، يهرب فيها الإنسان من مواجهة حقيقة مشاعره (عدائيّة، رغبة بالتدمير) ويضعها في الآخر، موضوع تلك المشاعر. إنّها عبارة عن تخلّصٍ من كل ما هو سيّء فينا باتّهام الآخرين به. هكذا، وبواسطة الاسقاط، قد يصوِّرُ الإنسانُ عدوَّه على أنّه شرٌّ مطلق، ورمزٌ للشرّ، فينزع عنه إنسانيّته، ويبرّر بذلك انطلاق عدوانيّته ضدّه بلا رادع، لا بل تصير تلك العدوانيّة مهما كانت وحشيّة (تعذيب، قتل الأبرياء والأطفال والأمّهات، حرق الآخرين وهم أحياء) مبرَّرَة على أساس أنّها خير مطلق، ودفاع عن النفس، بل وعملُ صلاحٍ.
أخيرا هناك أواليّة الأمْثَلَة (idealization)، وهي نزعة الإنسان الى المُماهاةُ بين ذاته وبين المثال الأعلى الذي يدين به (دين، فكر، عقيدة، إلخ)؛ بحيث يصير المثال الأعلى مرآة للذات، يتأمّل فيها المرء ذاته كما يتوهّمها، عاشقاً ذاته بنرجسيّة. هذه المماهاة بين الذات والمثال الأعلى تَجعلُ الإنسان يتوهّم أنّه والمثال الأعلى واحد، وإذا بعشقه للمثل الأعلى مرآة ينظر بها إلى ذاته ولكأنّها صارت مُطلَقَة ومثاليّة ومُتَخَطّية للمحدوديّات والنقصان. ولهذا فإنّ صراع الإنسان الخاضع لأواليّة الأمثَلَة، يكون أشرس ما يكون مع أناسٍ ينطلقون من منطلقاته الفكريّة أو الدينيّة نفسها، ولكن يختلفون معه في الفكر والتصرّف. شراسته هذه تنبع من كون هؤلاء المنطلقين من مبادئه نفسها، والمختلفون عنه في النتائج (فكر، تصرّف) التي توصّلوا إليها، إنّما يبرهنون أنّه يمكن أن يكونَ على خطأً، وأنّ رؤيته للمثال الأعلى كما يفهمه يمكن أن تخضع للنقاش. كلّ هذا يجعله يفقد رؤيته لذاته ولكأنّها مطلقة وعظيمة، ويفقد بالتالي تلك الأرضيّة الوهميّة التي ارتكز عليها، بنرجسيّةٍ، لكي يعلّي شأنه تجاه مَنْ لا يدينون بمثاله الأعلى، ومن هنا يخوض أشرس الصراع مع هؤلاء الذين اختلفوا معه إذا كانوا منطلقين من نفس الدين، أو الطائفة، أو المبدأ.
شروط للمقاومة العنفيّة
من أجل ذلك كلّه، يجب أن يفرض المقاومون الذين ينتهجون أسلوب النضال العنفيّ، على أنفسهم شروطاً صارمة في النضال، وذلك كي لا تحيد المقاومة عن أهدافها، فالعنف كما رأينا يجنح بسهولة عن هدف التحرير المرسوم، ليصل الى ممارسات عدوانيّة تدميريّة وبالتالي لا اخلاقيّة، باسم الدين، أو باسم «الحرية»، أو باسم الحفاظ على «الأمن»، وهو ما رأيناه مراراً في لبنان، وفي فلسطين، ونراه يوميّاً في سوريّا، ومرّت به ثورات كثيرة (فرنسا، روسيا).
إنّ الشرط الأساس الذي يجب أن تُخاض المقاومة العنفيّة على أساسه هو حصر العنف في إزالة الظلم والقهر، لكي يبقى التركيز على هدف الدفاع عن الإنسان، وينزع المقاومون من ذواتهم فتيل الانزلاق إلى مواقف لا إنسانيّة. وينتج من هذا الشرط الأساس الشروط التالية:
1. اجتناب احتقار الخصم وتجريده من إنسانيّته، خصوصاً أنّنا نعرف في أيّامنا أنّ الظلم الواقع على مجموعة من الناس هو وليد البنى الموضوعة أكثر ممّا هو وليد فرد محدّد أو أفراد
2. محاولة كبح الخصم وتجنّب إبادته ما أمكن
3. احترام حياة الخصم إلى أبعد حدّ ممكن، ولهذا يجب الامتناع القطعيّ عن قتل الجريح. فعدم احترام حياة الخصم يُفُعِّل في الإنسان عدم احترام الحياة الإنسانيّة بشكل عام، ما ينعكس لاحقاً على التعامل مع الخصوم السياسيّين ذوي الرأي المختلف في المجموعة المقاوِمة.
4. استبعاد كل عمل يُقصَد منه التشفّي والانتقام. لكي لا ينسحب هذا النمط من التفكير على حياة المقاومين وتصرّفاتهم، فتدمّرهم إنسانيّاً، إذ يصيرون شبيهين بجلاّديهم، فيتصرّفون بنفسيّة الجلاد وخصاله مع شعبهم نفسه، وهو ما شهدناه بين فتح وحماس، وشهدناه في صراعات بلاد مختلفة، كسوريا ولبنان.
5. الامتناع عن تعذيب الخصم
6. الامتناع عن التمثيل بجثّة الخصم بعد الموت
7. الامتناع عن تقديس الموت بحدّ ذاته، خوفاً من جنوح النضال العنفي إلى التسلّط والتدمير
8. تجنّب مَذْهَبَةَ العنف وتمجيده، فالعنف وسيلة اضطراريّة وليست هدفاً، هو وسيلة للتحرير وليس شيئاً يعتدّ به بحدّ ذاته. ولهذا فالتركيز يجب أن يبقى على الهدف، ألا وهو تحرير الإنسان وحماية حياته وكرامته.

4ــ المقاومة اللاعنفيّة

ماذا الآن عن المقاومة اللاعنفيّة؟ المقاومة اللاعنفيّة تكون أفضل وأجدى عندما لا تكون المقاومة العنفيّة مُمكنة أو ضروريّة. المقاومة اللاعنفيّة قد لا تعود مجدية إذا ما استفحل عنفُ عدوٍّ ساحقٍ (مواجهة النازية لاعنفيّاً بعد استتبابها لم يكن ممكناً، بينما مواجهة إسرائيل في الضفّة بثورة حجارة كان ممكنا)، وهي غير ضروريّة عند الشعوب غير الخاضعة للاحتلال، فالمناصرون للقضيّة الفلسطينيّة في أوروبا والأميركيتين اليوم، يقاومون إسرائيل بتظاهرات لاعنفيّة، ويضغطون على حكوماتهم. لقد كان العالم متعاطفا أكثر مع القضيّة الفلسطينيّة عندما كانت ثورة الحجارة قائمة، وهو متعاطف اليوم بسبب فداحة القتل والتدمير الذي يمارسه الاحتلال. ولأنّ حكومة العدوّ لم تكن قادرة أن تسحق ثورة الحجارة بقوّة السلاح، اضطرت أن تحاول القضاء عليها بواسطة المفاوضات وخديعة أوسلو، التي انطلت على الجانب الفلسطينيّ إذ سلّم بسلاح المقاومة اللاعنفيّة قبل الوصول إلى حلّ نهائيّ، وتمكّن العدوّ هكذا من وضع حدّ، ولو إلى حين، لثورة الحجارة، وعملت السلطة الفلسطينيّة في الضفّة وكأنّها شرطة للاحتلال، بذريعة المفاوضات وعمليّة «السلام». إنّ للمقاومة اللاعنفيّة، عندما تكون مُتاحة، فوائد جمّة تتفوّق فيها على المقاومة العنفيّة، فهي:
1ــ تسمح بوجود تجانس بين الوسيلة والغاية.
2ــ تسمح بمواجهة تفوّق الخصم بالسلاح، ويبقى ثمن المواجهة اللاعنفيّة أقلّ من ثمن المواجهة العنفيّة.
3ــ تسمح بمشاركة واسعة من الشعب في عمليّة تحريره ما يسمح للشعب بتبنّي الانتصار والدفاع عنه، وذلك عوض أن تنتصر للشعب مجموعة مسلّحة صغيرة تنقلب لاحقاً على الشعب باسم الثورة والنضال، فتستأثر بالسلطة ويتحوّل المنتصرون إلى مجموعة مستغِلّة وساحقة للشعب.
4ــ تنزع من جمهور العدوّ ذريعة القمع، وتثير الانقسام في صفوفه:
أــ تفضح الطبيعة اللاعقلانيّة والجرائميّة المستترة لنظام المُعتدي.
ب ــ تُكسب القضيّة العادلة مصداقيّة لدى الأكثريّة الصامتة أو المتردّدة.
ج ــ تنزع الخوف من العدوّ أو الخصم، هذا الخوف الذي قد يدفع العدوّ أو الخصم إلى الاستئساد في الدفاع عن مواقعه.
دــ تسبّب الاحراج للعدوّ أو الخصم، ذلك أنّه من السهل على أيّ حكم تعسّفي أن يقمع مقاومة عنفيّة يعرف تماماً كيف يواجهها ويمتلك وسائلها أكثر من المظلوم، من أن يقمع مقاومة لاعنفيّة لا يعرف ماذا يفعل تجاهها، وإن قمعها بالعنف (اللغة الوحيدة التي يتّقنها) ألّب الرأي العام عليه، وكان هناك حظ لشقّ صفوفه نفسها تمهيداً لانهياره.

5ــ ما الحلّ

إذاً في النهاية، نستخلص أنّ التفاوض ليس أسلوباً ناجعاًَ إن لم يكن يستند إلى عناصر قوّة تفرض شروطاً على الظالم، وأنّ القوّة لا بدّ أن تستند إلى النضال وليس إلى الاستكانة، وأنّ النضال له وجهان عنفيّ ولا عنفيّ. وإن كان النضال العنفيّ لا بدّ منه أحياناً على أساس أنّه أهون الشرّين، شرّ سحق المظلوم وشرّ قتل الظالم، فإنّه يجب أن يُخاض في إطار جملة من القوانين الصارمة كي لا ينحرف عن هدفه، ولا ينقلب المحرّرون إلى ظُلاّمٍ لشعوبهم، أي كي ينجح النضال العنفيّ بالفعل وليس بالشكل فقط. ونستخلص أنّ النضال اللاعنفيّ (وليس اللاعنف السلبيّ الخاضع)، عندما يكون ممكناً وضروريّاً، هو الأسلوب المفضّل والأنجع لأنّه يوائم الوسيلة والغاية، ويسمح لأوسع قطاعات من الشعب بالمشاركة في عمليّة التحرير الذاتيّ، ويسمح بمواجهة التفوّق العسكريّ للعدوّ، وينزع الخوف من صفوفه فيُضعف من استئساده في الدفاع عن مواقعه، ويشقّ صفوف جمهوره، ويسبّب الاحراج لحكّامه، وأخيراً فإنّ النضال اللاعنفيّ لا تتخلّله جملة المحاذير الخطيرة التي ذكرناها والتي يعاني منها النضال العنفيّ.
هكذا، وعلى سؤالنا الأوّلي ما هو الحلّ تفاوض أم سلاح أم لا عنف، نقول إنّ الجواب يكمن في النضال العاقل الذي يبقى واعياً إلى جوانب القصور والفائدة في كلّ أسلوب نضاليّ، لكي يستخدم الأسلوب الأنجع والممكن، أو بالأحرى خليط الأساليب الأنجع والممكنة، للوصول إلى التحرير المُستدام، الذي يستمرّ بعد التحرير، هذا التحرير الذي نراه آتياً في فلسطين.
(ملاحظة: يمكن الاستزادة من المرجع التالي، الأساس للمقالة:
كوستي بندلي، «نضال عنفي أم لا عنفي لإحقاق العدالة؟»، منشورات النور، بيروت، 1988)
* أستاذ جامعي