شهادة طازجة في السياق إن اعتبار بلاد الرافدين هي الحاضن الجغراحضاري للعراق والشام ليس مقولة قديمة انقرضت بل هي حية في لغة البحث العلمي المعاصرة؛ ففي مقالة أركيولوجية باللغة الإنكليزية للباحث فرانز ليدز نُشرت في «نيويورك تايمز» عدد 13 شباط 2024، كتبَ فيها مُعرِّفاً بلاد الرافدين وباللفظ اليوناني «ميزوبوتاميا»، بأنها «العراق وسوريا المعاصرتان» والجملة باللغة الإنكليزية هي: «Mesopotamia modern-day Iraq and Syria»، وهذا يعني في اللغة البحثية المعاصرة أن بلاد الرافدين هي التي تحتوي العراق وسوريا تأريخياً وجغرافياً وليس ما يسميها وجدي المصري ورفاقه «سوريا الكبرى» أو «الهلال السوري الخصيب». ويعني أيضاً أن هذه المعلومة - التي ذكرناها بصيغة أخرى في الجزء السابق من ردّنا - شائعة ومتداولة لدى الباحثين الأجانب المعاصرين ومنهم فرانز ليدز على سبيل المثال لا الحصر.
يضيف المعقب: «يقول الكاتب (علاء اللامي) بعد ذلك بأنّه «عُثر على دليل آثاري يؤكّد عروبة الحضر دون أن يذكر شيئاً عن هذا الدليل». يبدو أن المعقب قرأ المقالة بسرعة فقفز سهواً على الفقرة التالية للفقرة التي اقتبسها، والتي ذكرتُ فيها دليلين وليس دليلاً واحداً على عروبة مملكة الحضر الرافدانية حيث كتبتُ: «عوداً إلى الدليل الآثاري، وهو نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق، ونصّه بالآرامية»... ثم ذكرت نصه، وأضفت: «وثمّة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان (الجيري) يؤكد ما تقدّم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية»... وذكرت النص. كما ذكرت في فقرة أخرى دليلاً أركيولوجياً ثالثاً يؤكد عروبة مملكة الحضر وكتبت: «يمكن القول إنّ دليلاً آثارياً آخر تم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال. وهذا الدليل هو لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم "الحضر" كمركز لمنطقة "عربايا" (مملكة عربايا). والنقش معروض في المتحف العراقي»، ومن محاسن الصدف أنَّ الزميل المحرر في «الأخبار» نشر صورة هذا اللوح مع المقالة، ولكن المعقب لم يرَ أياً من هذه الأدلة الثلاثة!

ليسوا آشوريين ولا كلداناً بل سريان آراميون
يضيف المعقب: «يضرب الكاتب (علاء اللامي) على وتر حسّاس جداً وهو أنّ أبناء الأقليّات القوميّة متشدّدون قومياً، كالآشوريين والكلدانيين». والحقيقة فالمعقب لم يكن دقيقاً في الاقتباس فالعبارة الكاملة كما كتبتها هي «إنّ القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية، كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة، يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلاً للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية (السامية) عرباً لا يجوز التشكيك في عروبتهم...».
ففي هذه العبارة ساويتُ في التقييم السلبي بين القوميين المتشددين من أبناء الأقليات والقوميين المتشددين من أبناء القومية الكبرى (العرب). هذا أولاً، وثانياً، فالعبارة واضحة في تشكيكها بانتساب هذه الجماعات إلى الآشوريين والكلدانيين الرافدانيين القدماء، إذْ إنَّ هذا الانتساب لا يقرّهم عليه مؤرخون وآثاريون وباحثون مرموقون. فالمؤرخ والآثاري د. بهنام أبو صوف والباحث موفق نيسكو، وهما، في المناسبة، عراقيان محسوبان على هذه الجماعات قومياً ودينياً، بقيا وفيين لمنهج البحث العلمي، وتحمّلا الكثير من الاتهامات والحملات الإعلامية الظالمة ضدهما، لأنهما رفضا هذا الانتساب المزعوم وقالا ذلك بصريح العبارة وفي أبحاث ولقاءات منشورة.
سأكتفي هنا بفقرة مما قاله أبو الصوف: إن «الآشوريين والكلدان القدماء شعوب رافدانية انقرضت وزالت من الوجود هي ولغاتها واندمجت بقاياها في جماعات أخرى. والجماعات التي تنسب اليوم نفسها إلى هذين الشعبين هم من الآراميين النساطرة، فهم لا يتكلمون اللغة الآشورية أو الكلدية البابلية إطلاقاً، ولغتهم الحالية هي السريانية. أما تسمية الكلدان فقد أُطلقت في القرن 15 حين قامت الكنيسة الكاثوليكية - في روما - بجهد كبير لغرض تحويل أتباع الطائفة النسطورية الشرقية الى المذهب الكاثوليكي. وقد نجحت جزئياً بذلك وحينما أرادوا إطلاق تسمية على معتنقي الكاثوليكية في العراق أسموهم بـ (الكلدان) باعتبارهم من أرض بابل (الكلدية)، وليس لأنهم من سلالة الكلديين المنقرضين. إذاً، هي لا تعدو كونها مجرد تسمية للتعريف الجغرافي بهم».
وبخصوص الآشوريين يقول أبو الصوف: «أما عن جذور اسم آثور من أشور فإنه في أواخر القرن 19 ومطلع العشرين ظهر مطران مسيحي (كاثوليكي) واسمه أدي شير ومؤلّفه القيم الموسوم (كلدو - أثور)، ومذّاك ابتدأت هذه الأقوام تتداول مصطلح (آثور) كنوع من التأسيس لهوية تحفظ لهم كينونتهم، حيث اشتد الضغط على الأقليات العرقية والدينية واضطهاد الترك والكرد للأقليات وحصول مذابح الأرمن بعد عام 1915». ولا يستثني أبو الصوف ما يسميه «الخبث البريطاني» من المساهمة في تكريس وإلصاق التسمية «الآشورية» بجماعات معاصرة، فيكتب: «وقد أجاد المحتل البريطاني المشهود له بدهائه وخبثه أن يوظف الموروثات والتسميات ويرقع منها ما يناسب كسب الأقليات بالعزف على أوتار التفرقة بنغمة تروق لكل منها، فأخذ يدفع باتجاه استخدام مصطلح آشوري بدلاً من آثوري، وراح يروِّج القول إنَّ جنود فوج الليفي - وهم ميليشيا شكّلها الاحتلال البريطاني من السريان العراقيين، للمساهمة في قمع العراقيين وحماية مؤسسات الاحتلال آنذاك... إنما هم ورثة وأحفاد الآشوريين المقاتلين الأشداء، وتمت عملية التجيير الرسمي لمصطلح "الآثوريين" إلى الآشوريين وتمسك الإخوة النساطرة بهذه التسمية إلى الآن».

من هم المتأشورون؟
أمّا أبو الإركيولوجيا العراقية، العلامة طه باقر، فقد كتب الآتي: «إن كلمة آشوريين على ما هو معروف كانت تُطلق في تأريخ العراق القديم على القوم المعروفين بهذا الاسم، الذين كوّنوا دولة كبرى في شمالي العراق وهم من الأقوام السامية ومن أقرباء البابليين، وجاء اسم الآشوريين في المصادر الآرامية والعربية أيضاً على هيئة "آثور" و"أفور". أمّا التسمية الحديثة التي يطلقها على أنفسهم الآثوريون الآن فإنها استعيرت من الكلمة القديمة مفترضين أنهم من أحفاد الآشوريين القدماء؛ على أنَّ نقطة الضعف فيه هي أنَّ اللغة التي يتكلم بها الآثوريون الآن ليست لغة آشورية ولا هي منحدرة من الآشورية القديمة، وإنما هي إحدى اللهجات الآرامية من الفرع الشرقي في العراق، أي السريانية الشرقية» (رسالة جوابية من طه باقر، هامش 1 في ص 9، كتاب أطروحة ماجستير «الآثوريون في العراق» تأليف رياض رشيد الحيدري).
أمّا الباحث موفق نيسكو، فهو يسمي السريان زاعمي الهوية الآشورية «المتأشورين»، وله كتاب معروف يُقرأ من عنوانه؛ «اسمهم سريان لا آشوريون ولا كلدان»، صدر سنة 2020، وفيه المزيد من الأدلة والشواهد التي تؤكد أن لا صلة لهذه الجماعات والشخصيات السريانية الآرامية بالآشوريين والكلدانيين القدماء.

السامية ومقولات توراتية أخرى
ويضيف وجدي المصري: «إنّ الكاتب (علاء اللامي) كمعظم الدارسين ما زالوا يؤمنون ببدعة السامية دون التدقيق في مفهومها الأساس ومفهومها المتداول حالياً. يعتقد البعض أنّ الشعوب السامية هي الّتي تحدّرت من سام بن نوح بعد نجاته مع أولاده من الطوفان استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم». وهكذا، بجرّة قلم، يحشرني المعقب في جملة من يتبنون الخطاب التوراتي ومصطلحاته دون أن يلفت انتباهه إصراري على استعمال صفة «الجزيرية» ووضع «السامية» بعدها بين مزدوجتين! وإذا كان المعقب الذي يجهل هذه المعلومة عن موقفي من المصطلحات التوراتية ليس ملزماً بقراءة كل ما كتبته بهذا الصدد نقداً وتفكيكاً للخطاب التوراتي ومصطلحاته منذ عدة سنوات، فأنا أيضاً لستُ ملزماً بتكرار موقفي البحثي المتحفظ على مصطلح «السامية» في كل مقالة أكتبها مكتفياً بذكر بديلها الذي أتبناه وكان عليه على الأقل أن لا يتسرع في توجيه الاتهامات.
وفي المناسبة، فالمعقب يكرر الخطأ الشائع في نسبة مصطلح «السامية» إلى النمسَوي شولتزر. ولفائدة المعقب والقراء الذين لم يطلعوا على رأيي بهذا الخصوص أقتبس ما يلي من كتابي «موجز تاريخ فلسطين» (المقدمة، ص 23) الصادر عن «دار الرعاة» الفلسطينية قبل 5 سنوات، وكررته في كتابي «نقد الجغرافيا التوراتية» الصادر عن «دار الانتشار العربي» اللبنانية قبل سنتين، وقد نشرتُ بعض فصوله كمقالات على صفحات «الأخبار» ومجلة «الآداب»:
«سأستعمل، ولكنْ بتحفظ شديد مع ذكر البديل، المصطلحَ الذائع الصيت "السامية". وسأستعمله رغم التحفظات العلمية المهمة والكثيرة عليه. فهو مصطلح توراتي، ابتُكر واستُخدم لأول مرة سنة 1770 من قبل أعضاء مدرسة "غوتنغن" الألمانية. أمّا نسبة ابتكاره إلى شلوتسر، فغير دقيقة. إن المصطلح الذي ابتكره شلوتسر هو "معاداة السامية" بعد عقد من السنوات تقريباً.
وثمة مصادر سريانية قديمة تقول: "إن هذه التسمية "السامية" قديمة جداً، يرتقي تاريخها إلى ما قبل القرن السابع الميلادي، وأول عالم سرياني أطلق هذه التسمية على مجموعة اللغات الشرقية هذه هو يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 708م. وقد جرى العلماء السريان على أثر الرهاوي فاستعملوا هذا الاصطلاح قبل شلوتسر بقرون كثيرة» (عن «السامية والساميون واللغة السامية الأم» - المطران بولس بهنام).
إن "السامية" ليست المصطلح التوراتي الوحيد الذي تحفظتُ عليه في كتاباتي واقترحتُ له بديلاً، بل هناك مصطلحات أخرى يكررها المعقب وسواه، ومنها «الفرعون»؛ وهي كلمة لا وجود لها في السردية المصرية القديمة كلقب ملكي أو معادل لكلمة ملك، ولكن التوراة واللغة الإغريقية أخذتاها محوَّرةً عن عبارة «بر عا» العامية وتعني «القصر الكبير» التي وُجدت كصفة شعبية لا كلقب ملكي في عصر الأسرة 18 والملك تحتمس الثالث 1425ق.م. أمّا كلمة «هيروغيلفية»، فهي ترجمة إغريقية لمصطلح باللغة المصرية القديمة هو «ميدونتروا» ويعني «النقش المقدس»، وكلمة «ميزوبوتاميا» وهي ترجمة يونانية لكلمة بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين نقلاً عن الترجمة السبعينية للتوراة وكلمة «نمرود» التي لا وجود لها كاسم مدينة أو ملك في السردية الرافدانية مطلقاً. (يتبع)

*كاتب عراقي