حملة علاقات عامة واسعة سبقت قرار ملك البحرين حمد آل خليفة بالعفو عن قائمة من السجناء في قضايا متنوّعة، والسياسية من بينها. في عواصم إقليمية ودولية، نشط رموز النظام الخليفي في الترويج لما وصف بأنه «عفو ملكي كريم» سوف يشمل قيادات بارزة في قوى المعارضة من خلفيات إسلامية وليبرالية. أشاع النظام أجواء مبالغاً فيها عن خطوة مرتقبة فارقة، وخُيّل لمن تناهى إلى سمعه في عواصم القرار، ومن بينها طهران وبغداد والنجف وبيروت ولندن وباريس وواشنطن وحتى جنيف (وتحديداً مجلس حقوق الإنسان)، أن الملك مقدمٌ على تحقيق حلم طال انتظاره منذ حراك الرابع عشر من فبراير سنة 2014، بإطلاق مسار الإصلاح السياسي الشامل بالإفراج عن «الرموز» كما ينعتهم الشعب البحريني، وتالياً تدشين مرحلة جديدة بالتأسيس لمصالحة وطنية شاملة يكون عنوانَها الإصلاح الدستوري، والحكومة المنتخبة، وبرلمان كامل الصلاحيات التشريعية. لا بد من الاعتراف، أن في محور المقاومة من وقع تحت وطأة خديعة «معسول الكلام» الخليفي عن خطوة العفو، والإصلاحات المأمولة وساهم، بقصد أو خلافه، في الترويج المجاني لـ«مشروع الملك». أجواء التفاؤل التي غمرت تلك العواصم الإقليمية والدولية، وحرص الملك حمد وابنه سلمان، ولي العهد ورئيس الوزراء، على إرسائها، عكست نفسها في لهجة شخصيات دينية وسياسية وحزبية تواصلت مع قوى المعارضة البحرينية وساهمت هي الأخرى في تعزيز أجواء التفاؤل تلك.
وقبل يوم من إعلان العفو الخاص، زار الملك حمد الرياض، على الرغم من شعوره بمرارة النزول عند رغبة من يعدّه في مرتبة أحد أحفاده، أي محمد بن سلمان، ليتلقّى منه آخر التعليمات. وجرت العادة أن يرسل ابنه سلمان للقيام بمهمة التواصل مع نظيره السعودي. زيارة حمد لـ«الأعمام» كما ينعتهم في مجالسه الخاصة، مخصّصة لوضع اللمسات الأخيرة واستدراك ما فاته، إن فاته ما يستحق الاهتمام غير نيل البركة من الحاكم بأمره في «مملكة الخير»، وولي النعمة.
كان الملك حريصاً على استكمال كل الترتيبات حتى آخر لحظة قبل العرض المسرحي، أي العفو الخاص. وقد أوصل رسالة إلى طهران التي لا يزال يسعى إلى «تطبيع» العلاقة معها، بأن خطوته هذه هي العتبة الأولى نحو الإصلاح السياسي الشامل، وأن لها ما بعدها. وقد بلع بعض المسؤولين في طهران الطعم الخليفي أيضاً، ودخلوا في لعبة الترويج المجاني لمشروع الملك.
وحتى البرلمان البحريني الفاقد لسلطة تشريعية حقيقية أريد إقحامه في «ردح» العفو الخاص، حتى يكون جزءاً من فرقة «التطبيل» لمكرمة الملك، والتباهي بأن ثمة برلماناً قد لعب دوراً تشاركياً في إنجاز مهمة العفو الذي لولا تناغم السلطتين التشريعية والتنفيذية لما قُدّر له الخروج إلى الضوء.
في اليوم المقرّر، نشرت الجريدة الرسمية في العدد 3741 وبتاريخ 9 أبريل/نيسان مرسوماً رقم 28 لسنة 2024 بالعفو الخاص «عمّا تبقّى من مدة العقوبة السالبة للحرية». وشمل العفو الخاص 1584 من المحكومين في «قضايا شغب وقضايا جنائية»، وقالت وكالة الأنباء البحرينية الرسمية إن «مرسوم العفو الشامل» يأتي بمناسبة «اليوبيل الفضي لتولي عاهل البحرين الحكم الذي يتزامن مع الاحتفالات بعيد الفطر المبارك»، وإن العفو يأتي «انطلاقاً من حرص ملك البلاد على تماسك وصلابة المجتمع البحريني والعمل على حماية نسيجه الاجتماعي، وفي إطار إعلاء المصلحة العامة، والحفاظ على الحقوق الشخصية والمدنية، ومراعاة مبادئ العدالة وسيادة القانون واعتبارات صون الاستقلال القضائي، والتوفيق بين العقوبة من جانب والظروف الإنسانية والاجتماعية للمحكوم عليهم من جانب آخر، وإتاحة فرصة الاندماج الإيجابي في المجتمع».
ولأن كل شيء مُعدّ سلفاً، فإن وصلة الإشادات بالعفو الخاص كانت هي الأخرى من «المكمّلات الغذائية» الملحقة بوجبة العفو. فالإدارة الأميركية التي صمتت لسنوات طويلة عن انتهاكات حقوق الإنسان في مملكة البحرين وأعطت أذناً طرشاء لدعوات الإصلاح في مملكة القمع الخليفي، وجدت في عفو حمد ذريعة لتسجيل إشادة مجانية، ونشرت السفارة الأميركية في المنامة بياناً استباقياً على حسابها في 8 إبريل/نيسان على منصة التواصل الاجتماعي «إكس» مؤكدة على أن المرسوم الملكي «يؤكد رؤية تعاطف والتزام جلالة الملك بمستقبل ناجح لجميع البحرينيين». بدت السفارة الأميركية كما لو أنها تخلّت عن انتمائها إلى دولة ديموقراطية، وراحت تتقمّص دوراً متقناً في تجربة «الاستبداد الشرقي»، كما ظهر في نظرتها إلى السجناء، وهي نظرة متطابقة مع آل خليفة، والتي رأت فيهم مجموعة من الخارجين عن القانون، والمتمردين على النظام العام، وتالياً دعوتهم إلى التوبة والعودة إلى بيت الطاعة، بالاستفادة من العفو بوصفه «فرصة جديدة للمفرج عنهم للاندماج في المجتمع ليبدؤوا فصلاً جديداً من حياتهم». ليس مستغرباً في سفارة الأسطول الخامس هذه اللهجة البائسة، فقد أعدّت بيان الإشادة قبل يوم من الإعلان الرسمي عن العفو الخاص، وكأنّ السفارة كانت تتحضر لهذا الحادث «الجلل» قبل موعد وقوعه!
الأجواء المحتقنة في البحرين على خلفية تطبيع النظام مع الكيان الصهيوني، والزخم الشعبي المتصاعد في دعم صمود قطاع غزة، وعملية «طوفان الأقصى»، والتنديد بالعدوان الصهيوني على قطاع غزة، رسمت مشهد الشارع البحريني اليومي


نلفت إلى أنّها هي السفارة نفسها التي رجمها المتظاهرون البحرينيون بالحجارة قبل أيام في رد فعل شعبي غاضب على دعم الولايات المتحدة للكيان الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر.
على نحو إجمالي، قطع البيان حبل الإيحاءات، لناحية حمله على ضغوطات شعبية أو حتى خارجية، وحصره في إطار «مكرمة ملكية»، هي جزء من تقاليد القبائل الحاكمة في الخليج. فما اعتقده بعض المتفائلين في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية بأنّه بداية «تحوّل» في تاريخ البحرين السياسي، بدّده بيان العفو، فلم يكن سوى مجرد مبادرة معزولة ليس لها ما بعدها، وأنّ الرسالة التي أراد إيصالها هي أن السياسة ليست شأناً عاماً، وإنما هي امتياز حصري بالعائلة الحاكمة، وأنّ ما يصدره الملك من «فرمانات» هو بمنزلة «تقديمات» يحسن بها على الرعية المأمورة بالطاعة حتى تنال رضاه، وتدرأ عن نفسها غضب الرب لخروجها على ولي أمرها «ظل الله في الأرض»، وحتى لا تدخل النار وبئس الورد المورود.
في الواقع، إنّ الغمامة التي غشيت البعض عن رؤية المدسوسات في قائمة السجناء المشمولين بالعفو الملكي الخاص تنقشع بمجرد جلاء الحقائق الصادمة بعد الفحص والتدقيق. وأولى تلك الحقائق، أن ثلثي القائمة هم ليسوا بحرينيين، فهم إمّا من الأجانب أو المجنّسين الذين حصلوا على الجنسية البحرينية في إطار مشروع «التجنيس السياسي» الذي أراد منه النظام الخليفي إحداث تغيير بنيوي في التركيبة السكانية، لأسباب محض طائفية.
تعمّد بيان العفو الخاص أن يبدأ بأسماء بحرينية، أي من السكان الأصليين، لإيهام من يقرأ البيان بأن معظم من شملهم العفو هم من أهل الدار ومن السجناء السياسيين، ولكن ما إن نصل إلى الرقم 162 حتى تبدأ القائمة بأسماء كُتبت بالحروف اللاتينية ولاحقاً بالحروف العربية، لأشخاص إمّا هم بحرينيون، أو من بلدان آسيوية (هندية وباكستانية وفيليبينية، وبنغالية...) أو بلدان عربية (يمنية وأردنية وعراقية وسعودية...) حصلت على الجنسية البحرينية في ظروف غامضة.
لناحية الثلث البحريني في قائمة المشمولين بالعفو، فهم إمّا من الذين انتهت محكومياتهم، وإمّا من المحكومين في قضايا جنائية، وحتى من يصنفهم النظام بالمحكومين في «قضايا شغب»، فهم ليسوا من الصف الأول في المعارضة البحرينية (باستثناء نائب وفاقي لزوم الحبكة)، وهذا مؤشر إلى أن النظام حرص على أن لا يُضفى على مرسوم العفو أيُّ بعدٍ سياسي، أو بالأحرى حتى لا يُفسّر على أنه خطوة في طريق الإصلاح السياسي. ولذلك، كان «عفو» الملك من غير تنسيق مع أي من قوى المعارضة البحرينية، وإن كان بعضها على علم مسبق بما ينوي النظام الخليفي عليه.
وجدير بالذكر أن البحرينيين اعتادوا في العقود الماضية على ربط العفو العام عن السجناء بالإصلاحات السياسية، وآخرها كان عام 2001، ولكن الملك شاء هذه المرة أن يفصل العفو عن السياسة، وهذا مؤشر إلى أن النظام الخليفي ليس في وارد تلبية المطلب الإصلاحي الشعبي، بل بدا من البيان إنكاره وجود سجناء سياسيين في سجون البحرين. وبعد حلّ الجمعيات السياسية بعد ثورة 14 فبراير 2011، تكون المعارضة السياسية معدومة، وتالياً تعطيل الحياة السياسية في البحرين بصورة تامة، والعودة إلى الطبيعة القمعية والشمولية التي كان عليها آل خليفة منذ عقود، قبل الاستقلال وما بعده.
وفي هذا الصدد، يقدّم «معهد البحرين للحقوق والديموقراطية» (بيرد) توثيقاً لقائمة السجناء السياسيين (بعد إطلاق سراح مجموعة منهم) في آخر تحديث له في 11 أبريل/نيسان الجاري، والبالغ عددهم 540 سجيناً سياسياً، تمّ توزيعهم حسب المبنى على النحو الآتي:
‏ـ مبنى 1: 12 (السجناء المحكومون بالإعدام)
‏ـ مبنى 2: 5
‏ـ مبنى 3: 12
ـ ‏مبنى 5: 25
ـ ‏مبنى 6: 32
ـ ‏مبنى 7: 81
‏مبنى 8: 147
ـ ‏مبنى 9: 78
ـ ‏مبنى 10: 130
ـ ‏مبنى 14: 10 (مبنى الرموز)
ـ ‏مبنى 12: 6
ـ ‏مركز كانو 2 ( وهو المركز المخصص للمرضى بأمراض مستعصية مثل حسن مشيمع وعبد الجليل السنكيس)
‏ولفت المعهد إلى أن العدد الحالي لا يشمل السجناء تحت مسمى السجون المفتوحة.
أمّا عن دوافع قرار حاكم البحرين بإعلان خطوة العفو، وفي هذا التوقيت على نحو الخصوص، فإنّ الأجواء المحتقنة في البحرين على خلفية تطبيع النظام مع الكيان الصهيوني، والزخم الشعبي المتصاعد في دعم صمود قطاع غزة، وعملية «طوفان الأقصى»، والتنديد بالعدوان الصهيوني على قطاع غزة، رسمت مشهد الشارع البحريني اليومي. ومنذ نصف عام تقريباً، تفرّدت البحرين خليجياً وعربياً في المسيرات الشعبيّة المناهضة للتطبيع والداعمة لصمود قطاع غزة ومقاومته، إلى جانب المنتديات الخطابية العامة التي تنظمها قوى المعارضة البحرينية على مدار الأسبوع دعماً لفلسطين ورفضاً لاتفاقية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
إنّ عودة مظاهر النضال الشعبي إلى الشارع البحريني في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية متردية وارتفاع معدلات البطالة والفقر تنذر بانتفاضة شعبية كان النظام الخليفي على موعد معها مرة كل عشر سنوات، كما يقول قادة المعارضة البحرينية.

* كاتب من الجزيرة العربية