في الكتاب الجديد الذي صدر أخيراً، وتناول السيرة الذاتيّة لوزير الأمن الإسرائيلي الأسبق، موشيه دايان، كشف المؤلّف مردخاي بار أون النقاب عن أنّ دايان كان بمقدوره في عدوان حزيران 1967 الامتناع عن احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية لأنّ الجيش الأردني لم يؤثر في معاركه على مجرى الحرب. ولكنّ دايان لم يتمكّن من كبح جماح غريزته، ذلك أنّ إسرائيل، بقرارها احتلال الضفّة وجهّت رسالة حادّة كالموس بأنّها تنازلت عن السلام. علاوة على ذلك، خصص المؤلّف جزءاً من كتابه تناول فيه علاقة دايان بفلسطينيي الداخل، حيث قال إنّه عمل من أجل تطوير حياة مشتركة بين الشعبين، ولكنّ وجهة نظره لم تتعدّ تفكير إقطاعي من العصور الوسطى وتعامله مع العبيد في مزرعته.
وعندما كان قائد المنطقة الشماليّة في جيش الاحتلال، استغلّ الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على فلسطينيي الداخل (1948-1966) لكي يُصادر المزيد الأراضي لبناء المستوطنات ضمن مشروع تهويد الجليل الذي ما زال مستمراً حتى يومنا هذا. نسوق هذه المُقدّمة على وقع استمرار حكومة بنيامين نتنياهو في إقامة المستوطنات في الضفة الغربيّة المحتلّة. وللتاريخ يجب التذكير في هذا المقام بأنّ جميع حكومات الدولة العبريّة، منذ عدوان 67، قامت بتشجيع الاستيطان في المناطق المحتلّة، سواء في الضفة الغربيّة أو في هضبة الجولان السورية. بكلماتٍ أخرى، حكومة نتنياهو لا تُغرّد خارج السرب، بل بالعكس، إنّها تقوم بزيادة وتيرة الاستيطان، بناءً على المبادئ التي وضعها كبار قادة الصهاينة، بهدف فرض الأمر الواقع على الأرض. علاوة على ذلك، فقد بات واضحاً اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أنّ أطماع الحركة الصهيونيّة اجتازت حدود فلسطين التاريخيّة، ويكفينا في هذه العُجالة الاستعانة بقول أوّل رئيس لدولة الاحتلال حاييم فايتسمان الذي أرسى مقولته الشهيرة: أعلم أنّ الله قد وعد بني إسرائيل بفلسطين، بأرض فلسطين، إلّا أنني لا أعرف الحدود التي رسمها لفلسطين. وقد قام فايتسمان بترسيم حدوده في مذكراته: المساحة، من وادي النيل إلى الفرات، ونشترط على مدّة انتقالية مع مؤسساتنا الخاصة، ويكون هناك حاكم يهودي في أثناء هذه الفترة، وعندما يُصبح اليهود أكثر من ثلثي السكان، تتحول الإدارة اليهوديّة إلى سياسة، على حدّ تعبيره.

■ ■ ■


وفي هذه الأيّام، تقوم الحكومة الإسرائيليّة باستغلال العجز العربيّ الذي وصل إلى ذروته، وتدفع بالإسرائيليين إلى السكن في الضفّة أو الجولان، ناهيك عن ممارساتها الاستفزازيّة في المسجد الأقصى المبارك. وبما أنّ العلاقات الدوليّة محكومة بموازين القوى، فإنّ هذه الدولة المارقة تُواصل عمليات الاستيطان، من دون حسيبٍ أوْ رقيبٍ، والأنباء التي تنشرها وسائل الإعلام، العربيّة أيضاً، عن وجود خلاف بين تل أبيب وواشنطن،
موافقة عبّاس على مبدأ تبادل الأراضي تمنح إسرائيل الفرصة للمُطالبة بالتبادل السكاني



ما هي إلّا ذر للرماد في العيون. الخلاف المزعوم بين الحليفتين الاستراتيجيتين، لا يتعدّى كونه حلقة أخرى في مسلسل تقسيم الأدوار بهدف «أرضاء» الدول العربيّة ذات التبعيّة المُطلقة لواشنطن. هذه الدول عينها، تُقيم مع الكيان الاستعماريّ علاقات علنيّة وسريّة على حدٍ سواء.
ولا ضرر في هذا السياق التذكير بأنّ الإعلام الإسرائيليّ نشر أنّ المملكة العربيّة السعودية ستسمح للطائرات الإسرائيليّة بعبور أجوائها وهي في طريقها لقصف البرنامج النووي «الإسلاميّ - الشيعي»، كما تُسّميه دولة الاحتلال. وجرياً على العادة، نفت المملكة باستحياءٍ كبيرٍ هذا النبأ. ونحن نميل إلى الترجيح، بأنّ المصادر السياسيّة والأمنيّة في تل أبيب التي قامت بتسريب الخبر للإعلام، كانت صادقة للأسف الشديد. ونُورد هنا تصريحات قائد الاستخبارات السعوديّة السابق، الأمير تُركي الفيصل، قبل أشهر في كلمته المُسجلّة والتي بُثت في مؤتمر إسرائيل للسلام: «هيّا نحلم لفترة قصيرة جداً كيف ستكون البلاد التي ذاقت الأمرين من الحرب، بعد أنْ يتوصل الشعبان لاتفاق. اسمحوا لي أيضاً أنْ أحلم، تخيّلوا لو أننّي أستطيع أنْ أستقّل طائرة من الرياض، والطير مباشرةً إلى القدس، وأنْ أصل إلى قبة الصخرة أو المسجد الأقصى، لكي أُشارك في صلاة يوم الجمعة، وبعد ذلك أقوم بزيارة حائط المبكى وكنيسة القيامة. وفي اليوم التالي أقوم بزيارة قبر أبينا إبراهيم في الحرم الإبراهيميّ بالخليل، ومن هناك، أُسافر إلى كنيسة المهد في بيت لحم، وأُواصل وأزور متحف ياد فاشيم (ضحايا النازية)، كما زرت متحف (الهولوكوست) في واشنطن، عندما كنت سفيراً في واشنطن، وكم سأكون مسروراً بدعوة الإسرائيليين لزيارة الرياض». قال الأمير، وشدّدّ على أنّه ليس راضياً بسبب رفض إسرائيل لمبادرة السلام العربيّة، وهي المبادرة التي وصفها وزير الأمن الإسرائيليّ الأسبق، بنيامين بن إليعزر، بأنّها أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونيّة منذ تأسيسها.

■ ■ ■


وعودُ على بدء: يبلغ عدد المستوطنين الإسرائيليين في كلّ من الضفّة الغربيّة والجولان أكثر من 700 ألف، وعددهم يزداد يوماً بعد يوم. وقبل الولوج في هذه المعضلة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أكثر من ثلاثة آلاف جنديّ من جيش الاحتلال قاموا السنة الماضية بالوصول إلى البؤرة الاستيطانيّة «عمونا» في الضفّة الغربيّة بهدف إخلاء بعض العشرات من المستوطنين. وأقام الإعلام العبريّ الدنيا ولم يُقعدها، أرغى وأزبد، وتباكى على قيام اليهود بطرد اليهود من أراضيهم. كما أنّ السواد الأعظم من ساسة تل أبيب عبّر عن استيائه من هذه الخطوة، ووصل الصلف والوقاحة إلى الذروة عندما بدأ اليمينيون بتشبيه عملية الإخلاء بما حدث لليهود إبّان الحرب العالميّة الثانية من قبل النازيين. وبما أنّ الأمير السعوديّ طلب أنْ يحلم، نحن نُطالب بممارسة المحاكاة (Simulation): إذا كان إخلاء بضع عشرات من قطعان المستوطنين يتطلّب هذا الكّم الكبير من الجنود لتنفيذ هذه المهمّة، فماذا سيجري إذا قررت إسرائيل إخلاء جميع المستوطنات في الضفّة والجولان، مع أنّ هذا السيناريو يبعد ألف سنة ضوئيّة من الواقع؟ والسؤال الأكثر أهميةً في هذا السياق: هل يوجد رئيس وزراء في دولة الاحتلال على قدرٍ من الجرأة لاتخاذ هذا القرار من أجل إقامة الدولة الفلسطينيّة العتيدة؟ باعتقادنا المتواضع جداً، لن يخلق في دولة الاحتلال قائداً يجرؤ على اتخاذ هذا القرار، ولكن، بما أننّا ما زلنا في المحاكاة، فبإمكاننا القول والفصل أيضاً: حتى إذا تمّ اتخاذ القرار، فإنّ حرباً أهليّة ستندلع بين المستوطنين ومؤيديهم وبين الجيش والمُعارضين من جهة أخرى، ولا ننسى أنّ الجيش يضّم في صفوفه عدداً كبيراً من دعاة الاستيطان، وسيرفضون المُشاركة في إخلاء اليهود من منطلقات توراتيّة عقائديّة، كما فلعوا عندما نفذّ المُجرم أرئيل شارون خطّة فك الارتباط أُحادي الجانب عن الفلسطينيين في قطاع غزة في آب (أغسطس) من عام 2005.

■ ■ ■


مُضافًا إلى ذلك، فإنّ موافقة رئيس سلطة أوسلو-ستان محمود عبّاس على مبدأ تبادل الأراضي مع الكيان الاستعماريّ، ومُباركة الرباعيّة الدوليّة هذه الخطوة، تمنح لإسرائيل الفرصة بالمُطالبة بالتبادل السكّانيّ. وهنا تدخل خطّة رئيس الدبلوماسيّة الإسرائيليّة، الفاشيّ والمًستجلب إلى فلسطين من الاتحاد السوفياتي سابقاً أفيغدور ليبرمان، القاضية بترحيل أكبر عدد ممكن من فلسطينيي الداخل إلى الدولة الفلسطينيّة الـ»عتيدة». ولا نستبعد البتّة أنْ تُطبّق هذه الخطّة على النحو التالي: المستوطنون مقابل عرب الـ48، وعددهم يصل اليوم إلى مليون ونصف المليون، ولكن، حتى هذه الخطّة الجهنميّة، لن تُشفي غليل الصهاينة، إنّهم بحقٍ وحقيقةٍ يُريدون دولتين لشعبين: دولة يهوديّة، نقيّة من العرب على أراضي فلسطين التاريخيّة، ودولة فلسطينيّة في الأردن، أوْ ما اصطُلح على تسميتها بخطّة الوطن البديل. فعشية الغزو الأميركيّ للعراق، وصل العاهل الأردنيّ لواشنطن واجتمع إلى الرئيس آنذاك جورج بوش، وطلب منه منع شارون من استغلال الحرب ضدّ العراق، لطرد الفلسطينيين من الضفّة إلى المملكة التي أقامها أحفاد بلفور المنكود والكريه، لتخفيف الضغط الديمغرافيّ العربيّ على الدولة اليهوديّة.
* كاتب فلسطيني