بدأ طرح إشكالية المساواة التامة والمحافظة على الوجود والدور الفاعل في هذا الشرق منذ أيام «النهضة» العربية في القرن التاسع عشر، حين بادرت النخب المسيحية العربية إلى البحث عن حلول لهذا التحدي. وبينما كانت هذه النخب السياسية والفكرية المسيحية متفقة على المبادئ الأساسية، المساواة التامة والحفاظ على الوجود والمصير، اختلفت حول النهج الذي يجب اتباعه في سبيل تحقيق هذه الأهداف.
وبرز اتجاهان رئيسيان: الأول رفع لواء الإيديولوجيات التي كانت صاعدة في الغرب، وشكّلت في نظر أصحاب هذا الاتجاه حلولاً لمسألة إدارة التنوع الاجتماعي، كالقومية والاشتراكية والشيوعية. أما الاتجاه الثاني فنشأ خاصةً في لبنان، ورأى أنَّ الحفاظ على الخصوصية المجتمعية والثقافية وعلى مواقع رئيسية في النظام السياسي، هو السبيل للحفاظ على وجود المسيحيين ودورهم الفاعل.
المرحلة التي سادت في بداية القرن العشرين أظهرت جانباً كبيراً من صحة وجهة نظر الاتجاه الذي رفع لواء القوميات والإيديولوجيات. فلم يكن المسيحيون في الدول العربية (باستثناء لبنان) إلا مرحبين بالمساعي لتحقيق الوحدة العربية، ولعبوا أدواراً مهمة في نشر هذا الاتجاه وتعزيزه، ما خفف كثيراً من حدّة معضلة الدور المسيحي الفاعل، وأظهر أنه بالإمكان إحياء هذا الدور من خلال المواطنية ورفع لواء المطالب القومية والوحدوية.
بداية التغيّر في الأجواء السياسية والاجتماعية المؤثرة على المسيحيين كانت في الانقلابات العسكرية التي أعقبت نكبة فلسطين. إذ إنَّ الحكم السلطوي العسكري، كان له تأثيرات سلبية على المسيحيين ونخبهم المتأثرة بالنمط الليبرالي السياسي والاقتصادي والثقافي، لكن المنعطف السلبي الأساسي تمثّل بتداعيات هزيمة 1967، فالحركات الإسلامية السياسية التي قمعتها الأنظمة، بدأت تبرز بعد ذلك التاريخ ويتصاعد نفوذها رافعة شعار «الاسلام هو الحل».
التجسيد الأبرز لهذا الواقع كان في مصر، حيث تصاعد الفكر المتشدد، و«ترافقت بعض التدابير الرسمية بحق القيادات الدينية المسيحية مع موجات أصولية استهدفت المسيحيين جسدياً في أكثر من مناسبة»، وحصل تهميش لما تبقى من دور سياسي للمسيحيين. أما في سوريا والعراق، حيث سيطر حزب البعث على الحكم، فنعمَ المسيحيون بمساواة من حيث المبدأ مع مواطنيهم المسلمين، لكن هذه المساواة على الصعيد الرسمي اقترنت بمساواة في التسلط أيضاً، وانعدام حرية التعبير التي تشاركوا بها مع سائر مواطنيهم.
في كل الأحوال، غاب أيّ خطاب خاص بالقيادات السياسية المسيحية حتى في ظلّ وجود شخصيات مسيحية مؤثرة في محيط النظام، لأنّ الخطاب السائد، والذي تدافع عنه هذه الشخصيات، هو خطاب النظام والحزب الحاكم وليس خطابها الشخصي أو المكونات التي تنتمي إليها. لم تسمح الأنظمة في معظم دول المشرق العربي ببروز قيادات سياسية ممثلة للمسيحيين أو لغيرهم من المكونات على أساس الخصوصية الطائفية. لكن الحالة المصرية كانت مختلفة، إذ كان الأقباط أكثر محافظة على خصوصيتهم وإعلاءً للصوت من غيرهم.
وعندما بدأت الأزمات الحادة تواجه مسيحيي المشرق، وبالأخص بعد اجتياح العراق، واليوم بعد انهيار الأنظمة السلطوية فيما عرف بـ«الربيع العربي» ووصول الإسلام السياسي إلى الحكم، ارتفع منسوب الخصوصية لدى المسيحيين وباتوا يعرّفون أنفسهم بالهوية المسيحية من ضمن الانتماء الوطني، بعدما كانت هذه الخصوصية غائبة في الفترات السابقة. ونتيجةً للتصحير السياسي الذي ساد الدول العربية، وفي مجتمعاتهم أيضاً، فإن العبء الأساس للحفاظ على المصير والدور والتعبير عنه وقع على القيادات الدينية.
فكل التغيرات التي حصلت في العالم العربي، أتت لتزيد من خوف المسيحيين على الوجود والمصير، وخاصةً في ظلّ إعداد دساتير جديدة لا تكرس المساواة على قاعدة المواطنة، وفي ظل انتشار أفكار متشدّدة تكفيرية للآخر المختلف، واستمرار الهجرة المسيحية. وبات الهمّ الأساس في الجماعات المسيحية العربية الحفاظ على الوجود والاستقرار، وإن أمكن الحفاظ على دور سياسي محدود. وبحسب بعض المراقبين فإنّ مصير المسيحيين المشرقيين وتفعيل دورهم، بات اليوم الى حدّ بعيد، «إشكاليةً إسلامية».
الحالة المسيحية اللبنانية تشكّل نموذجاً مختلفاً لا بل منعزلاً ومتمايزاً عن أوضاع مسيحيي المشرق العربي، وبقيت منهمكة بقضاياها اللبنانية إلى الأمس القريب. أتى تأسيس لبنان الكبير في العام 1920 نتيجة لديناميكية مارونية وإرادة بتأسيس وطن للمسيحيين يعيشون بأمان فيه وليس وطناً مسيحياً، وبناء دولة تكرس احترام الحريات والآخر المختلف والحفاظ على التنوع والديموقراطية. وارتبط الدور المسيحي منذ ذلك الحين، بالدور الفاعل في السلطة السياسية وتميّزت فترة الثلاثينيات بانقسام سياسي بين كتلتين كبيرتين من النخب، كلتاهما بزعامةٍ مسيحية، كما اختفت الهواجس وتراجع خطر الوحدة العربية مع تأسيس الدولة وقبول المسلمين بالكيان اللبناني بعد تحقيق الاستقلال.
مظاهر الخطر بالنسبة للمسيحيين عادت لتبرز في الخمسينيات، بعد صعود المدّ القومي العربي لجمال عبد الناصر، والذي توّج بالوحدة بين مصر وسوريا، فأدت التفاعلات العربية واللبنانية إلى أحداث عام 1958. واستكان المسيحيون بعد نهاية الأحداث لنحو عقد من الزمن، قبل أن يبرزَ في النصف الثاني من الستينيات وبالتحديد بعد هزيمة عام 1967، تحدي المنظمات الفلسطينية المسلحة التي بدأت تنفيذ عمليات فدائية انطلاقاً من جنوب لبنان، فكان الخلاف بين اللبنانيين حول سيادة الدولة وحرية العمل الفدائي، والذي تدرج لاحقاً في السبعينيات ليطال مسائل المشاركة المتوازنة وإصلاح النظام السياسي.
في هذه المرحلة، وبالتحديد أثناء وبعد حرب السنتين (1975-1977)، وتفكّك الدولة والجيش، بدأ ينحسر الخطاب الوطني اللبناني لدى الزعامات المسيحية ليبرز مكانه خطاب مسيحي صريح، ينحو في اتجاه طروحات الفدرالية الجغرافية والتقسيم ولبنان الصغير، اعتباراً أنَّ هذه الحلول تكفل لهُم الحفاظ على وجودهم وأمنهم وحريتهم. وارتبطت هذه المرحلة أيضاً، بتحالف قسم كبير من الحالة المسيحية العسكرية مع إسرائيل في ظل الحصار المطبق على المناطق المسيحية والتهديدات بالحسم.
أما المرحلة التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، فقد شابتها الهزائم العسكرية وانحسار وجود المسيحيين التاريخي في الجبل، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية على السلطة وصولاً إلى أواخر الثمانينيات التي كانت فاصلة في مسار المسيحية السياسية. ففي انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1988، لم تتفق القوى والشخصيات المسيحية واللبنانية على مرشح رئاسي، وفشلت المحاولات السورية والأميركية لفرض اسم الرئيس، فوقع الفراغ الرئاسي. وبعد اندلاع النزاعات الداخلية بين المسيحيين وحرب التحرير، بدأت محاولات عربية ودولية لحلّ الأزمة اللبنانية، انتهت إلى اتفاق الطائف وأدّت إلى زيادة الانقسام المسيحي حول هذا الاتفاق. لكن في النهاية تمّ الدخول في مرحلة جديدة أصبح فيها الطائف دستور البلاد، وتحت رعاية سوريا التي تفردت بالوصاية على لبنان بتفويض أميركي وسعودي.
وشكَّلت مرحلة الطائف بدايةً لتراجع كبير في السلطة السياسية. فعلى الرغم من أنّ الاتفاق لحظ مناصفة فعلية في مجلسي النواب والوزراء، فإنَّ التمثيل المسيحي الحقيقي غُيّب بفعل الوصاية السورية وتقاسم قيادات المذاهب الأخرى تركة المسيحية السياسية. وأدّى تقليص صلاحيات رئاسة الجمهورية وما رافق من تغييب للحريات والديموقراطية، وسنّ قوانين انتخابية غير عادلة، إلى بروز ما سمي «الإحباط» المسيحي. أضف إلى ذلك اختصار المؤسسات الرسمية بأشخاص رؤسائها وبروز مصطلح «الترويكا»، وتنامي دور رئيس الحكومة على حساب مؤسسة مجلس الوزراء.
لكن عبارة «الإحباط» لم تكن دقيقة في تعبيرها عن الديناميكيات السياسية للجماعة المسيحية. إذ إن الاعتراض الصامت والنهج السلبي خاصة في مقاطعة الانتخابات النيابية، تطور مع السنوات إلى حركة اعتراض إيجابية في الشارع، وسياسية قادتها بكركي خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 مع النداء الشهير في أيلول من العام نفسه، والذي استتبع بتأسيس لقاء قرنة شهوان عام 2001. كانت تلك الظروف دافعاً لتعاون زعماء المسيحيين وأحزابهم للحفاظ على الوجود والدور، بالتعاون مع بكركي التي رعت في ذلك الحين الحركة الاعتراضية.
حملت معها المرحلة الجديدة التي بدأت بعد صدور القرار 1559 في أيلول عام 2004، أملاً بتحقيق السيادة واستعادة الحياة الديموقراطية. وانعكس التلاقي المسيحي الإسلامي بعد هذا القرار، اطمئناناً لدى المسيحيين وطغت على الخطاب السياسي المسيحي آنذاك شعارات التمسك بالوحدة الوطنية والتلاقي مع شركائهم في الوطن، من ضمن التفاؤل بدخول عصرٍ جديد يقود، بحسب ما اعتقدوا، إلى تحررهم من الوصاية والقمع وإلى تمثيل صحيح لهم، والعودة إلى المشاركة الحقيقية والوازنة.
التفاؤل المسيحي أوجد حالاً من الاطمئنان إلى درجة تغاضوا فيها عن الكثير من المحاولات التي كانت تحصل من أجل استعادة تجربة التسعينيات. وهذا الاطمئنان هو ما جعل المفاجأة والصدمة يخيّمان على الوجدان المسيحي بعد التحالف الرباعي بين القوى الإسلامية الرئيسية عشية انتخابات عام 2005، التي اعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان.
انقسمت القوى المسيحية السياسية بين فريق رافض للتحالف الرباعي، طغت على خطاب قياداته مقولات «التوازن» و«رفض التهميش» و«التمثيل الصحيح»، مدعوماً من بكركي التي أيدتها في هذه المواقف، وبين فريق ساير التحالف الرباعي، واعتبر أنّ الأولوية هي لتثبيت الوحدة الوطنية التي وحدها تضمن حقوق المسيحيين.
الانقسام المسيحي كان يترافق مع واقع الانقسام الإسلامي المتزايد بين السُنة والشيعة. وفي العام 2006 تكرّس الانقسام السياسي بين فريق مسيحي يتحالف مع أكثرية سنية ودرزية، وفريق آخر يتحالف مع أكثرية شيعية، وأصبحت هذه الانقسامات هي المحرك الأساسي للديناميكيات السياسية حتى اليوم. واعتبر كلّ فريق مسيحي أن تحالفاته ونهجه هي الأفضل لتمثيل المسيحيين وعودتهم إلى لعب دورٍ فاعل. ونتيجة لهذا الواقع، استطاعت القوى المسيحية أن تعود إلى المعادلة تدريجياً ابتداءً من انتخابات العام 2005، والبدء بمسار تصحيح التمثيل النيابي والحكومي، على الرغم من الخلافات فيما بينها، فالانقسام بين السنة والشيعة، عزّز من الحاجة إلى المسيحيين. وعلى الرغم من التمثيل الضئيل للأحزاب المسيحية الفاعلة في أول حكومة بعد انتخابات عام 2005، فإنَّ التطورات اللاحقة أدّت إلى تحسين نوعية التمثيل المسيحي.
طغى على الخطاب السياسي المسيحي، آنذاك، التنافس بين القوى والقيادات على إظهار فاعلية كل طرف لتحالفاته ومدى تعبيرها عن متطلبات الوجدان المسيحي اللبناني، وعن مساهمة هذه التحالفات في تثبيت الدور المسيحي.

ما هو حال المسيحيين اليوم؟

بداية يجب الإشارة إلى المواقف الإسلامية من الحضور المسيحي في لبنان. فالنخب الإسلامية، وبعض القوى الأصولية، تصرّ على التمسك بوجود المسيحيين ودورهم، تأكيداً عن اقتناعها بأنّ لبنان من دون المسيحيين يصبح كأيِّ بلد عربي آخر، وبأن التعددية مصدر غنىً. غير أنَّ ذلك، بحسب اعتقاد الأفرقاء المسيحيين، لا يقترن بالضرورة بالتخلي عن مكتسبات مرحلة التسعينيات التي يعتبر المسيحيون بأنها كانت على حسابهم.
يظهر الواقع أنَّ المسلمين في لبنان، على اختلاف، مذاهبهم يراوح موقفهم بين علاقاتهم الوثيقة بقوى عربية وإقليمية إسلامية وبين انتمائهم إلى لبنان السيد المستقل، وهم يدركون جيداً أنّ التنوع منحهم تميزاً خاصاً عن إخوانهم المسلمين في العالم العربي. من جهة المسيحيين، كانوا لوقت قريب يعتبرون أنّ حماية الغرب هي مصدر اطمئنان، لكن التجارب التاريخية والتحوّلات الدولية تؤكد أنّ الضمانات تكمن في الداخل وليس في الخارج.
إنّ المسيحيين اللبنانيين على اختلاف شرائحهم، يتمسكون اليوم بخطاب واحد لكن بتعبيرات وسياسات مختلفة. فثوابتهم الأساسية ما زالت هي هي، سيادة لبنان والمشاركة المتوازنة في السلطة والحفاظ على دورهم الفاعل. لكن خلافهم هو حول آلية تحقيق هذه الأهداف، وانقسامهم يدفع كل فريق منهم إلى اعتبار أن تحالفاته هي الأمثل. وبما أنه لم يبقَ لهم سوى الاعتماد على أنفسهم، فإنّ تكريس دورهم الفاعل في الدولة هو الركيزة الأساس لحمايتهم. وتبدو ملفات عالقة مثل قانون انتخاب عادل واللامركزية الإدارية ومحاربة بيع الأراضي وتصحيح مرسوم التجنيس، وغيرها ذات أولوية كبيرة.
إلى ذلك، أدّت التحديات الكبرى والتغيّرات الإقليمية التي بدأت مع حرب العراق وصولاً إلى الربيع العربي، إلى انخفاض نسبة التمايز بين الهموم المسيحية اللبنانية وتلك الخاصة بمسيحيي المشرق خارج لبنان. إذ بات الاشتراك في الهواجس والحفاظ على الدور والوجود عاماً ومشتركاً. إنّ مسؤولية المسيحيين التاريخية تقتضي منهم بذل كل الجهود للحفاظ على دورهم المميز في المنطقة، والذي لعبوه تاريخياً وساهم في الثراء الحضاري للعالم العربي، ونشر قيم المواطنة والحرية والاعتراف بالآخر المختلف والعدالة والحفاظ على التنوع وحقوق الإنسان. وهذا يتطلب منهم جهوداً على الصعد المختلفة، والتشبيك بين مختلف مرجعياتهم ومؤسساتهم، والتمتع بالحنكة والذكاء اللازمين. ويكتسب ذلك أهميته من كون المرحلة الراهنة تحمل معها الكثير من الغيوم والهواجس في المنطقة، والكثير من احتمالات الصراعات والفتن.
* سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة ومدير مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية