العبارة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما في بدايات الانتفاضة السورية (أيام الأسد باتت معدودة)، كانت بمثابة حلم يقظة يعيشه السوريون بين الحين والآخر. فما إن يخرج الرئيس الأميركي ليعدَّ أيام الأسد، أو تخرج وزيرة خارجيته آنذاك، هيلاري كلينتون، لتعلن أن على الأسد التنحي حتى يبدأ الشارع السوري المعارض ــ المثقف وغير المثقف ــ بتحليلاته السياسية المتضاربة التي يجمع بينها شيء واحد: بشار الأسد سيرحل قريباً، لكن كيف؟ وما تبعات هذا الإعلان الأميركي الهام؟ هل هو مؤشر على تدخل عسكري قريب كما حدث في ليبيا؟ أم على حل سياسي عاجل تفرضه الولايات المتحدة بعد التفاوض مع إيران وروسيا والصين؟كان السوريون يعدّون شهداءهم يومياً منتظرين تلك الأيام المعدودة التي تبنتها المعارضة الخارجية، فوعدت الشارع بتدخل عسكري قريب يطيح النظام، مما أسهم بتدفق السلاح إلى أيدي السوريين المطمئنين للتدخل القريب، ليتحول العنف إلى مجازر، وتغرق البلاد في حرب أهلية ولَّدت فظائع لا يحتملها العقل البشري إضافة إلى الضمير الإنساني ــ وقد أسهم النظام بجزء كبير من هذا
التحول. يشبه أوباما كثيراً من المثقفين السوريين الذين يتقنون اللعب على الحبال، فهو جاء إلى السلطة مستغلاً شغف الناس بالخلاص من «الاضطهاد»: رجل أسود من أصول أفريقية، عانت أسرته من العنصرية ضد السود، نشأ في بيئة فقيرة، لهذا فإنه بالتأكيد سينحاز إلى الفقراء والمستضعفين. هكذا عملت الآلة الإعلامية على الترويج لأوباما (المضطهَد) وكأنه مارتن لوثر كينغ القادم. وها هو بعد اطمئنانه إلى أنه ما من ترشيحات رئاسية مقبلة يوجه نداء من فلسطين: على الأسد أن يرحل لكي يكون بإمكان مستقبل سوريا أن يبدأ. لقد انتهت الأيام المعدودة، وانتهت موضة «المُضطهد» التي يعزف عليها المثقفون السوريون إياهم، فهم في الخارج فارون من بلادهم لأنهم مضطهدون ومهددون من النظام، مع أن أغلبهم من أبناء النظام، لكن الأمر يتعلق الآن بالظهور الإعلامي وحصد الجوائز وتحقيق أكبر نسب من مبيعات الكتب. هكذا يريد السوق!
ما من حاكم «عسكري» أيامه معدودة، فقد يُقتل هذا الحاكم خلال ساعات من انتفاضة شعبه، وقد يبقى سنوات، وقد يتسلم منصباً آخر. التاريخ شاهد على ذلك، أما السيد أوباما فإنه لم يقصد من عبارته تلك أنه يتوقع سقوط الأسد خلال أيام، بل كان يغمز من قناة حرية الشعب السوري. ويشير إلى أنّ حلاً تتم صياغته في الغرف المغلقة وسوف يفضي إلى رحيل الأسد عما قريب. والمقصود من هذا الغمز تعليق الشارع السوري بقشة الوهم ريثما تكمل الولايات المتحدة والدول العظمى صياغة المناسب لمصالحها بعد أنّ يتم إسقاط «سوريا الدولة».
بقي الشارع السوري منتظراً السيد أوباما وكأنه البطل الوطني الذي سيقدم الحل، هذا لأن الانتفاضة لم تغيّر من التبعية الفكرية المتغلغلة في عقول السوريين كما في عقول باقي العرب شيئاً، أما المعارضة ــ التي يُفترض بها أن تكون أكثر وعياً من الشارع ــ فلم تكتف بتجارب العراق وليبيا وأفغانستان وفييتنام ونيكارغوا وغواتيمالا وبنما والسلفادور لتتأكد من صحة أنّ الولايات المتحدة لا تنشل بلداً من جحيم القمع إلا لتضعه في جحيم التقسيم والحرب الأهلية ونهب الثروات، بل كانت بحاجة إلى تجربة أخرى على شعبها السوري. هكذا تحولت المعارضة إلى بوق للولايات المتحدة كما تحوّل إعلاميو النظام إلى أبواق له. بعد انتخابه لولاية ثانية، رمى الرئيس الأميركي بالآلة الحاسبة التي كانت في يده، والتي كان يوهم العالم بأنه يحسب من خلالها أيام الأسد المعدودة، في حين أنه كان يحسب عدد الأصوات التي سيكسبها من الجالية العربية في الولايات المتحدة، لتظهر آلة ثانية مخصصة لحساب أيام ولايته الجديدة ــ والتي أصبحت معدودة الآن ــ، فالسيد أوباما أمامه ملفات كثيرة لن يكون أحدها إنقاذ الشعب السوري، بل حروب الوكالة على الأراضي السورية. أيام أوباما باتت معدودة، وعلينا أن ننتظر مزيداً من الكوارث، ليس أولها ما ستتمخض عنه زيارته المتملقة لإسرائيل، وليس آخرها تهديد إيران بالحلّ العسكري. علماً بأنه من غير المنطقي أن نلوم أوباما، إذ من غير المعقول مطالبة الذئب بأن يتحوّل إلى غزال، لكن من المنطقي أن نلوم المعارضة التي تبنت خطابه.
يستطيع أصغر مواطن في دولة ديمقراطية عدَّ أيام رئيسه القادم إلى السلطة عن طريق الانتخاب والدستور، أما المواطن العربي فإنه لا يعدّ سوى أيامه في ظلّ حاكم لا يزول، وإن زال خلَّف حاكماً آخر، لأن الفكر لم يتغيّر، أما الشعب السوري فما زال يعد أيامه فاقداً عدَّاد جراحه وشهدائه ومفقوديه.
* كاتب وشاعر سوري