سنتان مرّتا منذ بدء الحراك الشعبي في سوريا ضد نظام حزب البعث الحاكم. في البداية اعتقدنا أنّ التظاهرات السلمية تهدف بحق وحقيقة إلى إجبار الرئيس بشار الأسد على إجراء الإصلاحات، بما في ذلك مصلحة الشعب السوريّ العظيم. وبما أننّا نؤيد حقوق الشعوب بالحريّة، فقد أعلنا عن مؤازرتنا لحق الشعب العربي السوري الذي قدّم الغالي والنفيس من أجل قضية فلسطين في العيش بكرامة وحرية تامّتين، ولكن مع مرور الوقت بدأت خيوط المؤامرة الكونيّة على معقل العروبة الأخير في الوطن العربيّ تنتشر كالنار في الهشيم. أطراف عديدة وجهات أكثر، إن كانت إقليميّة أو دوليّة، وتحديداً عربية، استغلّت الوضع من أجل تفكيك الدولة السورية التي كانت وما زالت شوكةً عالقةً في حلق الإمبرياليين والصهاينة والمستعربين، الذين لا يألون جهداً في تدمير هذه الدولة لتحقيق مآربهم الخبيثة والمبيّتة ضدّ أمّة الناطقين بالضاد. المعارك في بلاد الشام ما زالت مستمرّة، وما زالت النهاية غير معروفة، هل يُمكن حسم المعركة باللجوء إلى الحلّ الأمني العسكري من قبل الطرفين، أم أنّ هناك إمكانية لرأب الصدع بينهما عن طريق الحوار والمفاوضات. ولكن قبل الولوج في سبر غور هذا السؤال الإشكاليّ، علينا تسجيل العديد من الملاحظات حول الوضع، مع الأخذ بعين الاعتبار المستجدّات الأخيرة على الساحة الداخلية والدولية والإقليمية:أولاً: من مميّزات «الثورة السورية» أنّها صُودرَتْ من أصحابها الحقيقيين، وحُوِّلَت بسرعة فائقة إلى ثورة تقودها قوى سلفيّة ترغب بإعادة هذا البلد العربيّ، صاحب حضارة الـ8 آلاف سنة، إلى العصور الحجريّة وإقامة دولة الخلافة الإسلاميّة. هذا النمط من الدول الذي أكل الدهر عليه وشرب، لا يُمكن فرضه على أيّ شعب في العالم، لأنّه يتناقض جوهرياً مع توجهات المسلمين العلمانيين ومعتقداتهم، وحتى المتدينين منهم، فضلاً عن أنّه ليس مقبولاً بأيّ حالٍ من الأحوال على كلّ من لا ينتمي إلى الإسلام، وبالتالي فإنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: إذا صحّ الزعم والافتراض بأنّ الشعب السوريّ الذي يعيش تحت حكم الرئيس الأسد المستبد والظالم والقامع للحريّات، يُريد الانتقال إلى العيش تحت كنف الدولة الإسلاميّة التي تقودها من تُطلق على نفسها جبهة النصرة، المرتبطة ارتباطاً عضوياً بتنظيم القاعدة الإرهابيّ، أو كما يقول مثلنا العاميّ: «من تحت الدلفة إلى تحت المزراب». فهل هذا الانتقال، في حال خروجه إلى حيّز التنفيذ، ينسحب على مقولة كارل ماركس بأنّ كلّ ثورة تُلغي المجتمع القديم هي ثورة اجتماعيّة؟ لكن، حتى هذه الرواية المتوازنة والمحايدة لا تعطي الحقيقة حقها. فقد اتضح منذ حادثة درعا أنّ المخابرات الأردنيّة وراء الحادثة وأنّ الهدف منها كان استدراج الجيش إلى كمين تم قتل مجموعة منه. ومع ذلك زار الرئيس الأسد درعا وعزل المحافظ وطيّب الخواطر. لكن المسألة لم تقف هناك لأنّ المعارضة المسلحة كانت بالمرصاد، وهذه ليست المعارضة السلميّة التقدميّة التي بدأت في دمشق.
ثانياً: بات واضحاً بل مثبتاً بالصوت والصورة أنّ الـ«ثوار» في سوريا، هم في سوادهم الأعظم ليسوا من الشعب السوريّ، فقد تمّ استجلابهم من دولٍ عربيّة وإسلاميّة للـ«جهاد» ضدّ الـ«طاغية». ولم نسمع في التاريخ القديم أو الحديث عن ثورة بالإنابة، أو عن ثورة تقودها مجموعات من الإرهابيين الذين ينتقلون من دولة عربيّة أو إسلامية إلى أخرى لقلب نظام الحكم. في تونس ثار الشعب على الحاكم زين العابدين بن علي، ولم نسمع عن وصول مجاهدين من هذه الدولة أو تلك. في مصر أيضاً تمكّن الشعب المصري من إطاحة حسني مبارك، دون أنْ تصل جحافل المجاهدين لتقديم العون، وبالتالي: لماذا لم يتمّ مثل هذا الأمر في سوريا؟ بل تكالبت الدول العربية الرجعية، وتحديداً دول الخليج، ضدّ بلاد الشام. وما هو السبب الذي يدفع دويلة أوْ بالأحرى مشيخة مثل قطر لتخصيص المليارات من الدولارات لدعم المرتزقة الذين يصلون إلى سوريا للقتال ضد هذه الدولة العربية؟ ما هو السرّ الذي تُخفيه المملكة العربية السعودية عن العالم لتفسير دعمها الكامل لقلب نظام الحكم في سوريا؟ الجواب، باعتقادنا المتواضع، هو أولاً وأخيراً، الحفاظ على أمن دولة الاحتلال التي تحصل على الدعم السياسيّ والاقتصاديّ من الولايات المتحدة الأميركية، والتخلّص من سوريا العروبة التي لم تعترف بالدولة العبرية. يعني فتح الطريق أمام الدول العربية الخجولة، والمتخاذلة والمتواطئة لإبرام معاهدات السلام مع هذا الكيان الاستعماريّ دون الحصول على أيّ مقابل، أي أنّ المعادلة بالنسبة لدول الرجعية العربية الإمعان في التبعيّة لأميركا بغرض حماية العروش المهزوزة والمملكات المأزومة، مقابل تدمير الدولة العربية السورية.
ثالثاً: الأنكى، لا بل الأخطر ممّا ذكرناه، أنّ المجاهدين الجدد، إذا جاز التعبير، استباحوا حرمة الدولة السورية وسيادتها. هذه الدولة التي تعترف بها الأمم المتحدة! هذه المنظمة الأمميّة، عوضاً عن معالجة هذا الملف، باتت تتآمر مع المتآمرين للنيل من سوريا، وأكثر من ذلك، فقد وجدنا أمينها العام، بان كي مون، يقوم بمطالبة النظام السوريّ بالمحافظة على الحريات والمعتقدات على أراضيه. علاوة على ذلك، فإنّ الصلف والوقاحة سجّلا معاً، وكل واحدٍ على حدة، رقماً قياسياً بدعمٍ ومؤازرةٍ من دول تتشدّق بالمحافظة على سيادة الدول واحترام المعاهدات الدوليّة ذات الصلة، فالأخطر أنّ المجاهدين الجدد يُريدون، عن طريق الإرهاب الذي تقشعّرُّ له الأبدان، فرض نظام حكم جديد على السوريين، شاء من شاء، وأبى من أبى. والشارع العربيّ يعيش أزمة موت سريريّ على هذا التوجه، ناسياً أوْ متناسياً، أنّ هؤلاء الإرهابيين سيصلون عاجلاً أمْ آجلاً إلى جميع الدول العربيّة تحت مسميّات مختلفة لتفتيت ما تبقى من هذه الدول التي لم ترتق حتى اليوم إلى مستوى الدول الحديثة، بل ما زالت في طور ما قبل الدولة العصريّة، أو بالأكثر تقترب من الحصول على لقب الدولة الفاشلة التي تعتاش على الفتات الاستعماريّ. ومن جهة ثانية، فإنّ سوريا تمثل التوجه القوميّ الذي لا يمكنه التعايش مع الكيانات الإقليميّة التابعة وخاصة الخليجيّة، وعليه تلتقي تماماً مصالح مشايخ الخليج، والكيان والغرب أجمعه ضد أيّ نظام قوميّ التوجه.
رابعاً: وبمّا أنّنا جئنا على ذكر الموت السريريّ للشارع العربيّ، فلا بدّ من التعريج على المثقفين العرب الذين يلتزمون الصمت حيال ما يجري، لا بلْ إنّ الكثيرين منهم يبتكرون حلولاً سحريّة لتحويل التدّخل الحرام في سوريا إلى حلال، ربّما مستعينين بمقولة لينين المأثورة: «إنّ ﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ ﻫﻢ ﺃﻗﺪﺭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺎﻧﺔ، ﻷنّهم ﺃﻗﺪﺭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺗﺒﺮﻳﺮﻫﺎ». فخيانة المثقفين العرب أصبحت أكثر من مجرّد وجهة نظر، وباتت مدرسة أيديولوجية جديدة في كلّ ما يتعلّق بالأزمة السوريّة. المثقفون الذين يُحتّم عليهم موقعهم في التأثير على الرأي العام وترشيده نحو الأفضل، يعملون وبوتيرةٍ عاليةٍ جداً لتأليب الرأي العام ضدّ سوريا. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه العجالة: كيف يلتقي المفكّر العربيّ بالمكفّر العربيّ؟ ما هو الذي يجمعهما معاً؟ ذلك أنّ المثقف يجب أنْ يكون في وادٍ والمكفّر في وادٍ آخر، وإجماع هاتين الشريحتين يؤكّد لكلّ من في رأسه عينان على أنّ وراء الأكمَة ما وراءها، وأنّ المثقف العربيّ، وبطبيعة الحال ــ ولا نعود باللائمة على جميعهم ــ بات مثله مثل الـ«مجاهد» الذي يتّم عبر المال استجلابه إلى سوريا للـ«جهاد». الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً ويُبيح قتل السوريين الأبرياء من قبل العصابات الإجراميّة بفتاوى دينيّة وأخرى ثقافيّة، مع التحفظ على كلمة ثقافة، لأنّها براء من هؤلاء.
خامساً: ما لا يُثير الدهشة والاستغراب هو قيام قادة الكيان الاستعماريّ بتقديم الأوامر، على شكل نصائح للزعماء العرب حول كيفية التصّرف وآليته من أجل إسقاط الأسد. وقبل التعليق على ذلك، لا بدّ من التذكير بأنّ العديد من أشباه الكتبة ومن مثقفي النصّ كم أشبعونا محاضرات عن أنّ إسرائيل تُريد المحافظة على نظام الأسد، وها هو وزير الأمن المنصرف، إيهود باراك، يقول إنّ سوريا تختفي أمام أعيننا، أمّا معلّمه، الثعلب الأبديّ، شمعون بيريز، جزّار قانا، فيقوم بإسداء النصائح ويُطالب الجيوش العربيّة بالتدخل في بلاد الشام! فعلاً، بات العار يمشي عارياً، وإذا حصل هذا المجرم على جائزة نوبل للسلام، فماذا تنتظرون يا عربان أميركا؟ لماذا لا تقومون بطرح مبادرة لتعيينه في منصب الأمين العام للجسم الهلاميّ المسّمى بجامعة الدول العربيّة؟ ذلك أنّ إسرائيل لن يهدأ لها بال، إلا بعد أنّ تُسيطر على العرب جغرافياً وعقلياً، بمعنى آخر صهينتهم، وعندئذ تكون أميركا وعملاؤها العرب أو المستعربون، اشطب الزائد، قد طبّقت البرنامج الكبير للشرق الأوسط الجديد، الذي يعني السيطرة الكاملة للصهيونيّة على العقل العربيّ عن طريق كيّه، فالمجاهدون موجودون، والمثقفون كذلك والأنظمة التبعيّة ستُرحب ترحاباً كبيراً بهذا المخطط حفاظاً على عروشها.
خلاصة القول: نعم، لإسرائيل الأكبر من الكبيرة، نعم لإسرائيل من المحيط إلى الخليج، ولمَ لا يُخرج هذا المخطط إلى حيّز التنفيذ، لأنّ الأنظمة العربيّة الرسميّة فقدت الكرامة، والشعوب التي تئّن تحت نيرها باتت عبيداً. وهنا يكمن المأزق، فالأنظمة معروفة سلفاً، ولكن المأزق في إيصال الجماهير إلى عمى الرؤيا تحت الاعتقاد بأنّها عامرة بنور الإيمان. أيّ إيمان هذا؟ ومع ذلك، فليس أمامنا سوى مواصلة السير إلى الوعي.
* كاتب من فلسطينيي 48