في الرابع والعشرين من مارس/ آذار 2013، حاصر نحو مئتين من المسلحين مكتب رئيس الوزراء علي زيدان، مطالبين باستقالته وفقاً لقانون العزل السياسي الذي يحظر على أعضاء النظام السابق الانخراط في الحياة السياسية. وكان زيدان، رئيس وزراء ليبيا الحالي، قد عمل في السلك الدبلوماسي زمن القذافي. وفي 6 مارس/ آذار 2013، قام مئات المسلحين بتهديد المشرّعين واحتجزوهم رهائن في محاولة لانتزاع موافقتهم على القانون المثير للجدل.
إنّ إرادة الناخبين والسلطة القضائية لا ينبغي قطّ أن تقفا مكتوفتي الأيدي حيال أولئك الذين يلجأون إلى العنف بغية فرض إرادتهم، ولا ينبغي أن تُسبغ الشرعية على الأمر الواقع المفروض بقوة السلاح في مثل هذه الظروف.
يبدي قانون العزل السياسي موضع النقاش شبهاً لافتاً بقانون اجتثاث البعث الذي كانت له عواقب كارثيّة في العراق. فبعد سقوط نظام البعث على أثر الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، جرى حظر حزب البعث وفقد جميع البعثيين وظائفهم. وكانت النتيجة أن غدا مئات الآلاف من البيروقراطيين، والموظفين، وضباط الشرطة وأفراد القوات المسلحة عاطلين من العمل، وهو ما جعل منهم وقوداً لتمرد لا يزال متواصلاً إلى الآن.
ولقد أشارت ميراندا سيسونز، رئيسة برنامج العراق في المركز الدولي للعدالة الانتقالية من 2005 _ 2008، بعد سنتين من الانتفاضات التي انتشرت في أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أنّ هذه البلدان تسعى جاهدة إلى إيجاد السبل لتفكيك البنى السياسية للأنظمة السابقة تفكيكاً ناجعاً. وأنّ لديها الكثير مما يمكن أن تتعلمه من العراق، حيث كان تخطيط اجتثاث البعث ذلك التخطيط البائس شأنه شأن تنفيذه، الأمر الذي أسهم بقوة في انهيار كثير من وظائف الدولة ولا يزال أثره حاضراً في أنحاء البلاد بعد مرور عقد من الزمان.
لا بد من التوصّل إلى إجماع وطني حول ما إذا كان ينبغي من عدد من الأفراد التنازل عن حقهم في المشاركة مباشرة في الحكومة، لفترة محدودة من الزمن، نظراً إلى ما ثبت من كونهم جزءاً لا يتجزأ من نظام القذافي وتواطأوا على لعب دور في إطالة أمد معاناة الشعب الليبي. وإذا ما جرى ذلك، فلا ينبغي أن يكون نتيجة تهديد عصابات مسلحة أفراداً من الجمهور أو أعضاء في البرلمان لتمرير مثل هذا القانون. وإذا ما مُرِّر مثل هذا القانون، فينبغي أن يكون على أضيق نطاق، ورهن مراجعة قضائية، وألا يتعارض مع حق كلّ شخص في محاكمة عادلة قبل إخضاعه لهذا الصنف أو ذاك من صنوف العقاب. ينبغي للعيش في ظلّ نظام شمولي لا يعرف القانون أن يعلّمنا نحن الليبيين أهمية الأمن القانوني بأبسط معانيه، وهو التحرّر من تدابير العقاب التعسفية والانتقائية والجماعية، بما في ذلك العزل السياسي.
ينبغي أن ندرك، في بناء ليبيا ديموقراطية، أنّ لا أهمية تفوق أهمية المساواة في العدالة. وهذا يعني عملياً تطبيق قوانين العدالة من دون تمييز. وما تعنيه المساواة أمام القانون هو معاملة جميع الأشخاص على قدم المساواة لدى إنفاذ قانون من القوانين. انّ عدالة المنتصر يجب أن تكون عادلةً لئلا نكتفي بإحلال شكل من الطغيان محل شكل آخر. حين تضع ثورةٌ عنيفةٌ حدّاً لنظامٍ قديم دام اثنين وأربعين عاماً، لا بدّ للتفسّخ من أن يضرب أطنابه. غير أنّ من واجب النظام الجديد أن يتوصّل إلى استراتيجية تضمن إقامة العدل بطريقة منصفة ومتوازنة.
لقد سبق للفيلسوف الإنكليزي جون لوك أن ألقى الضوء على عاقبة تولّي البشر أمر القانون بأيديهم، وذلك حين كتب عن «تلك الشرور، التي تنبع بالضرورة من لعب البشر دور القضاة في قضاياهم الخاصة»، الأمر الذي يعني «تضخيم الخطأ الواقع، إن وُجِد، وإحلال الثأر والانتقام محلّ القصاص العادل». ويحظى التطبيق الشرعي لجميع القوانين بأهمية أساسية في ليبيا، نظراً إلى الثقافة القبلية السائدة والأهواء الإقليمية. ويتحتم على الليبيين، الذين مارسوا إرادتهم الحرة واختاروا طريق الديموقراطية، أن يرفضوا التطرف والتعصب والدوغمائية.
ثمّة دروس ينبغي تعلمها من تجارب بقية الأمم التي أفلحت في الانتقال من الحكم السلطويّ إلى الديموقراطية. وقد سلكت معظم بلدان ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية والوسطى سبيل تنحية أولئك الذين شكّلوا العمود الفقري للأنظمة الشيوعية وأداروا سياساتها عن المناصب العامة في الحكم الذي تلا الشيوعية مباشرةً.
وجدت هذه الأمم، أيضاً، أنّ من الضروري مواجهة ماضيها وتخطّيه. وبعد سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، عبّر الكاتب الألماني يورغن فوكس لآدم ميشنيك، أحد زعماء المعارضة البولندية أيام الحكم الشيوعي، عن قلقه حيال الجرائم التي ارتكبها النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، قائلاً: «إنْ لم نحل هذه المشكلة على نحوٍ حاسم، فسوف تظلّ تطاردنا».
لا ينفكّ الحاضر يتشابك مع الماضي على الدوام. ولا يني عبء الماضي يحوم حول حاضرنا ومستقبلنا. وما من سبيل يضمن ألّا ننهار تحت هذا العبء سوى أن نجد السبل التي تمكننا من التعامل مع ماضينا والتحرّك قُدُماً بدلاً من البقاء إلى الأبد أسرى لهذا الماضي.
يتمثّل أحد هذه السبل التي ينبغي اتّخاذها في إتاحة المجال أمام الحقيقة كي تحررنا.
في عدد من المجتمعات الخارجة من الصراع وضعت المحافل العامة الجناة والضحايا وجهاً لوجه. ذلك أنّ الاعتراف علناً بآلام الضحايا وأحزانهم يقلّل من احتمال استمرار تلك الحلقة الشريرة من الانتقام والانتقام المضاد ويساعد في وضع حدّ لحالة التحفّز وعقلية الرعاع المستبدة التي ضربت بجذورها، للأسف، في أنحاء كثيرة من ليبيا ما بعد الثورة.
يرى بعضهم أن من الضروري الاعتراف رسمياً بالمظالم التي وقعت. ولا يمكن ذلك أن يتحقق إلا بتطبيق القانون على نحو متساوٍ بغية إغلاق صفحة الماضي وفتح صفحة المستقبل التي هي أهمّ بكثير. ومن النماذج التي قد يكون السير على غرارها بالغ الإفادة، ذلك النموذج الذي استُخدم في ألمانيا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، حيث أتيح للضحايا وأسرهم النفاذ إلى ملفاتهم لدى النظام السابق، كما إلى الملفات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
إذا أردنا أن نطلق سيرورة عدالة انتقالية، فإن جوهر ذلك هو إقامةُ مساءلةٍ عن جرائم انتهاك حقوق الإنسان في الماضي والتعامل الشفاف والمنصف مع الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم ضد من شاركوا في ممارسات منهجية مسيئة. ولعلَّ مجريات هذه السيرورة من العدالة الانتقالية أن تكون المكان الذي يحظى فيه مفهوم «أخذ العدالة مجراها»، بأهمية بالغة في المساعدة على التعجيل بعملية المصالحة الوطنية. والحال، أن رؤية الضحايا من عذّبوهم يُحْضَرون أمام العدالة هو واجب أخلاقي ندين به لجميع الضحايا. ويمكن أن يكون لذلك أثره التطهيري الهائل على المستويين الفردي والوطني.
إن وجود نظام لإدارة العدالة على نحوٍ منصِف هو أمر أساسي لإعادة بناء مجتمع عادل وأخلاقي. ذلك أنّ العدالة لن تقتصر على الحدّ من تصاعد التحفّز ووقفه في نهاية المطاف، بل سيشكل إجراؤها ورؤيتها تأخذ مجراها رادعاً مهماً ضد انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل. وإذا ما كانت مساءلة انتهاكات حقوق الإنسان المدنية لا تحول دون تكرار هذه الانتهاكات، فإنها تضمن مع مرور الوقت إبقاءها عند حدّها الأدنى. كما أنها ترسّخ في الأذهان تلك القيمة، وذاك التقدير الرفيع، والاحترام الذي ينبغي أن يُقْرَن بالدفاع عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان والتمسّك بها مقابل العار والاحتقار اللذين يستحقهما من ينتهكون هذه الحقوق.
لا يمكن التأكيد بشكل جدي على الدور المحوري لسيادة القانون والمساواة أمامه بغياب قضاء قوي ومستقل لا يخضع لضغوط الأهواء الشعبية العابرة وتحيّزاتها ولا يمتثل لضغوط السلطة التنفيذية النابعة من انتهازية سياسية. إنّ وجود سلطة قضائية مستقلة ومخوَّلة أمر أساسي لسيادة القانون، كما أنّ السلطة القضائية المستقلة أمر أساسي أيضاً في تكريس المساءلة الأفقية، التي يستحيل من دونها التطور الديموقراطي.
ولا بدّ من وقف انتهاكات حقوق الإنسان والحقوق المدنية في ليبيا ما بعد الثورة التي يبدو أنّ جماعات ممن قاتلوا ضد النظام السابق قد ارتكبت عدداً كبيراً منها لا يكون ثمة مبالغة في الضرر الذي يصيب مبرر وجود الثورة الليبية في حال استمرار تلك الانتهاكات والانتقال إلى نظام حكم يقوم على سيادة القانون والمساواة في العدالة ونصرة حقوق الإنسان ومعاملة البشر جميعاً على قدم المساواة وبصورة منصفة وفقاً للقانون. ليس ثمة فارق أخلاقي أو قانوني بين العنف والحقد والطغيان حين يمارسها من كانوا مرّةً مستغَلّين ومضطهَدين وحين يمارسها مستغلوهم ومضطهدوهم.
ثمة أدلة متزايدة على أن بعض الجماعات تحاول أن تكسب بالرصاص ما فقدته من خلال صناديق الاقتراع. ومثل هذه المساعي لا بدّ من إحباطها بردّ الدولة الحازم والصارم. ليس بإمكان الشرعية أن تنبع من فوهة البندقية، بل من إرادة الشعب التي يمارسها بحرية عبر صناديق الاقتراع. وما من مكان في النظام الديموقراطي لميليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة.
تقف ليبيا اليوم على مفترق طرق. التاريخ مليء بالثورات، والتمردات والانقلابات التي بدأت بكثير من الأمل والوعد بمستقبل أكثر عدلاً ومساواةً، لكنها انتهت في النهاية إلى مجرد تنويعات على الشكل ذاته من الاستبداد والقمع اللذين سعت في الظاهر لأن تضع حدّاً لهما. لقد أسفرت الأنظمة الجديدة، في بعض الحالات، عن وجه أشد قمعاً وأكثر استبداداً من تلك التي خلفتها. وإذا ما واصلت ليبيا مسارها الحالي، فسوف تشهد الثورة الليبية مصيراً مماثلاً للأسف.
على الليبيين أن يتجنبوا سياسات الانتقام والغلبة العدمية القائمة الآن، وأن يعتمدوا سياسات المصالحة ولمّ الشمل. ذلك هو السبيل الوحيد للخلاص الوطني.
* كاتب وباحث ليبي