الحقوقيون المصريون بدأوا يتشكّكون منذ فترة في الجذرية تلك، ولحقهم في ما بعد النشطاء الذين عاينوا عن كثب تقاعس الجيش تجاه ضحايا الأحداث الأخيرة في المنيل وبين السرايات وسيدي بشر والحرس الجمهوري وأسيوط والمنيا... إلخ.
لنلاحظ بداية أنّ الضحايا الذين سقطوا كانوا من اتجاهات مختلفة، فمن قتل في المنيل وبين السرايات والصعيد حدث له ذلك على يد السلطة الإخوانية الآفلة، ومن سقط عند مبنى الحرس الجمهوري لا يتوقّع أن يكون قاتله خارج دائرة العسكر والشرطة الملحقة به (وهما حتى الآن سلطة الفعل). وحدها الإسكندرية جمعت بين الطرفين، فلقد قتل فيها في أحداث سيدي بشر زهاء سبعة عشر شخصاً، توزّعوا ما بين ست ضحايا للإخوان وثمانٍ لأهالي المنطقة المناوئين لهم. لنقل إنّ أحداث الإسكندرية هي الأقرب بالتعريف إلى فكرة «الاقتتال الأهلي»، أمّا في القاهرة والصعيد، فقد حدث العكس تماما، أي لجوء أطراف سلطوية (الحرس الجمهوري) أو مافياوية (ميليشيات الإخوان) إلى احتكار السلاح واستخدامه في مواجهة «عزل» يحاولون الدفاع عن أنفسهم. لا يمكن مثلاً أن يكون قتال الأهالي في المنيل وبين السرايات إلّا كذلك، فهم لم يعتدوا على الإخوان إلا بحدود معيّنة هي حدود إبقائهم بعيدين عن مناطقهم، وحين ناقشهم البعض في كون هذا الأمر اعتداء قالوا له إنّنا كنا نردّ الاعتداء ولا نعتدي، إذ إنّ الإخوان مسلّحون بالآلي، ونحن لا نملك ما ندافع به عن أنفسنا إلّا الشوم والحجارة وبعض السلاح الأبيض. والحال أنّ هذه الأسلحة البدائية مضافاً إليها الخرطوش هي ذاتها التي لجأت إليها قاعدة الإخوان لدى الاشتباك مع قوات الجيش والحرس الجمهوري قبل أيّام. وبمقارنة الأمر مع ما فعله الإخوان أنفسهم بأهالي المنيل وبين السرايات نكون إزاء معيارية فعلية يمكن على أساسها قياس من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه، أو من هو الأعزل ومن هو المدجّج بالسلاح. في حالة الحرس الجمهوري كان الإخوان «عزلاً بامتياز»، وكانوا في مواجهة سلطة عاتية تحاول سحقهم وفضّ اعتصامهم على نحو دموي. حتّى اشتباكهم مع الجيش لا يمكن اعتباره اشتباكاً بالمعنى الحرفي طالما أنّهم لا يملكون سلاحاً يستطيعون من خلاله إبطال فاعلية السلاح الفتّاك الذي يستخدمه الجيش ضدّهم. لقد استعادوا بالفعل بعد هذه الواقعة «تعاطف» قطاعات ثورية غير محبّذة لأفكارهم، وكان بإمكانهم أن يفعلوا المزيد لولا احتكارهم الدنيء كالعادة لفكرة الضحية، ولقيمة المعيارية التي ظنّوا أنها باتت في جيبهم. البارحة فقط بدأت الشهادات تظهر عن حجم العنف الدموي الذي مارسته ميليشيات الإخوان ضدّ أهالي المنيل وبين السرايات. ليست هذه الممارسة بعيدة عن السلطة عموماً وعن فلول سلطة الإخوان خصوصاً. سبق لفلول مبارك أيضاً أن فعلوا «الشيء ذاته» بمعيّة العسكر في محمّد محمود، والأرجح أن الأمر سيستمرّ ما دامت القواعد التي تحكم عمل السلطة في مواجهة المهمّشين منعدمة وغير معمول بها إلى الآن. من سيعمل بها أساساً إذا كانت القاعدة اليوم هي التخلّص من الفقراء سواء انتموا إلى هذه الجهة أو تلك. إذا كان الجيش - وهو بالتعريف سلطة الأمر الواقع - لا يعلم فضل أهالي المنيل وبين السرايات على الانتفاضة التي اصطفّ خلفها فالأفضل له أن ينصرف إلى تدبير شؤون إمبراطوريته الاقتصادية. هناك فقط يستطيع أن يضبط الأمور كما يريد (بالأحرى كما تقتضي أصول البيزنس)، لا في الأحياء الشعبية التي احتمت به من الإخوان، فخذلها جاعلاً من نفسه قوّة فصل بينها وبين من يقتل أبناءها بالسلاح الآلي! ثمّة حاجة فعلاً إلى تذكير الجميع على هامش ما يحصل حالياً بالتخادم الذي كان قائماً بين العسكر والإخوان طوال الفترة الماضية . من دون هذه الاستعادة سيبقى فهمنا لقواعد اشتغال الطرفين ناقصاً وغير متّسق مع الواقع. لقد ترك فقراء بين السرايات والمنيل وحدهم لسبب بسيط هو أن الجيش لا يتدخّل إلا في حالة الإضرار بمنشآته، وهو بالضبط ما حصل في واقعة الحرس الجمهوري. تعامله مع الإخوان بدا شبيهاً بتعامل النظام الفاشي في سوريا مع كلّ من يحاول اقتحام مفارزه الأمنية أو ثكناته العسكرية. لا يلام الفقراء هنا على رغبتهم في الاستيلاء الرمزي على مواقع السلطة، بل يقع اللوم على من استخدمهم في مواجهة السلطة وباع لهم وهماً يقول بأنّ مرسي سيخرج حالما يتظاهرون بكثافة أمام مكان احتجازه. أيضاً لا يحاسب الجيش في هذه الحالة على نوايا القيادات الإخوانية، وإنّما على تعامله مع فقراء الإخوان كما لو كانوا حثالة يجب التخلّص منها بأيّ طريقة. ليس هذا هو جيش أحمد عرابي وجمال عبد الناصر كما حاولت إيهامنا حملة «تمرّد » أثناء تسويقها لما حصل في 30 يونيو. يحتاج الناصريون إلى من يخبرهم عن ذلك، فهم لا يزالون يتعاملون مع جيشهم كما لو كان حقّاً بوتقة فعلية لصهر التمايزات الفئوية بين المصريين. لا يجرّبون فهمه على ضوء التحوّلات التي طرأت على وظيفة مصر الإقليمية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. لقد حوّلته الاتفاقية المشؤومة إلى سلطة تعتاش على البيزنس فحسب. في أيّام عبد الناصر كان هنالك بيزنس خاصّ بالجيش أيضاً، لكنه لم يتطوّر إلى نسق اقتصادي متكامل إلا مع تحويله - أي الجيش - إلى مؤسّسة لتشغيل العمالة الكثيفة والقليلة الكلفة غالباً. سأترك الحديث عن الاقتصاد السياسي للجيش المصري لمناسبة أخرى، وسأكتفي هنا بالتذكير ببعض الأنماط الاقتصادية الجاري التعامل معها بخفّة لا تحتملها المرحلة. أنماط تخصّ الجيش طبعاً، ولذلك تحديداً يجري غضّ الطرف عنها، فهي أولاً معقّدة بما فيه الكفاية، وثانياً يعد تناولها بمثابة طعنة في ما يسميه البعض المؤسّسة الأمّ أو مستودع الوطنية المصرية. وهذه مشكلة يتعيّن على النشطاء والمنظّرين هناك حلّها قبل أن تتفاقم وتصبح عالة فعلية على من يريد فهم طبيعة تدخّل الجيش المصري في الحياة السياسية. في 30 يونيو صدّقنا فعلاً أنّ العسكر قد تدخّل إلى جانب الانتفاض، لكننا اكتشفنا لاحقاً أنّه تدخّل لا يقيم اعتباراً لحياة البشر، وخصوصا المهمّشين منهم، والمعتبرين خارج حسابات الجيش المعقّدة. من الواضح أنّ هذا الأخير يصفّي حسابه الآن مع شريك المرحلة السابقة (الإخوان) على جثث الفقراء الذين صنعوا لـ30 يونيو قيمتها . لم يحدث في ذلك اليوم أن سقط شهداء تباهي بهم « الثورة الجديدة » العالم، فكان لا بدّ من يوم آخر يكتب فيه الدم عنوان الاشتباك بين «الثورة» وأعدائها. وهذا بالتحديد هو الثّمن الذي لا يريد الجيش تحمّل وزره، فشهداء بين السرايات والمنيل وسيدي جابر و... إلخ لا يعتبرون بالنسبة إليه شهداء. في أحسن الأحوال يعدهم شهداء الثورة التي تدخّل لحمايتها، والفارق بين الأمرين كبير وخطير! لنقل إذاً أنّه لم يتدخّل لتأييد الانتفاض أو مساندته، بل لحفظ موقعه داخل السلطة التي شغرت بخروج الإخوان منها، وهذا واضح من طريقة تعامله مع الطبقات الشعبية التي حصّنت هذا الخروج وحفظته بدمائها. لم تفعل ذلك الطبقة الوسطى التي انتفضت «عن بكرة أبيها » يوم 30 يونيو، فهي بطبيعتها محافظة وغير مستعدّة للتضحية إذا انعطفت المواجهة السلمية نحو العنف والصدام الدموي. ولأنّها لم تفعل فقد حظيت بمباركة طوّافات الجيش التي لوّحت للمتظاهرين من عل، وحيّتهم عبر عروض عسكرية مفتعلة ومكلفة جدّاً. لا مشكلة لدى الجيش في صرف الأموال حين يكون الثمن تغييراً من أعلى، أي بما يضمن عدم مشاركة أطراف تدفع في المواجهة مع الإخوان إلى أقصاها، إذ بمجرّد ظهور تلك الأطراف تصبح حركة الانتفاض عبئاً على المؤسّسة العسكرية التي تفضّل حصر التغيير في الأطر التي حدّدتها له مسبقاً. وما لم يفهمه الجيش حتّى الآن أنّ هذه الأطر قد انكسرت منذ يناير 2011 على الأقلّ، وبالتالي لم يعد ممكناً إعادتها إلى ما كانت عليه أيّام مبارك. فالمتغيّر الآن هو الحراك الاجتماعي الذي يصعد ويهبط من دون أن يستطيع أحد ضبطه أو التحكّم في ديناميته. الإخوان أيضاً لم يفهموا بدورهم، وتعاملوا مع إخراجهم من السلطة كانقلاب فحسب، لا كقرار شعبي صنع في مطبخ الطبقة الوسطى قبل أن يخرج إلى العلن بمعيّة العسكر. وحدها الأحياء الشعبية التي خذلها الجيش أثناء مواجهاتها مع الإخوان تصرّفت على أساس فهمها للمعادلة الجديدة، فهي لم تخرج لدحر الإخوان إلّا بعد اكتشافها عجز الجيش عن حماية مكتسبات «الثورة» التي صنعتها الطبقتان الوسطى والعاملة. الدم الذي أريق هنا الذي عدّه الجيش عالة على 30 يونيو استحال نقمة عليه من جانب « الجميع». ثمّة أيضاً وجه آخر لهذه المعضلة سأحاول إيضاحه بإيجاز: أثناء متابعتي مواقع التواصل الاجتماعي الخاصّة بالنشطاء المؤيدين للموجة الجديدة من الانتفاض اكتشفت أنّ النقمة أعلاه حقيقية فعلاً، فحجم التذمّر من أداء الجيش يتزايد باطراد، ولولا الهجمات التي يتعرّض لها مجنّدوه الفقراء في سيناء لتبدّد رصيده بالكامل لدى هؤلاء . معظمهم - أي النشطاء - وقف ضدّ تجاوزات المؤسّسة العسكرية في الحقبة السابقة (الاعتقالات التعسّفية، فحوص كشف العذرية للفتيات، المحاكمات العسكرية للمدنيين... إلخ)، لكنّهم لا يزالون رغم المرارة مصرّين على اعتبارها الحائط الأخير في بنيان الدولة المصرية، وخصوصاً مع تزايد الهجمات التي يشنّها مناصرو الإخوان على الفئات المستضعفة وغير المحميّة كفاية داخل المجتمع المصري. لنقل إنّها علاقة معقّدة بعض الشيء، فمن جهة يحمّلون الجيش المسؤولية عن تعريض فقراء الأحياء الشعبية في القاهرة للقتل على أيدي عصابات الإخوان (ثمّة من يتحدّث عن « سلخانة تعذيب» يقيمها الإخوان داخل اعتصام النهضة وينكّلون فيها بضحاياهم)، ومن جهة أخرى يعتبرونه الطرف الوحيد القادر على تخليص الأقباط من الجرائم التي ترتكب بحقّهم من جانب التكفيريين وباقي الأجنحة المسلحة داخل اليمين الديني (لم يهتمّ الإعلام كفاية بما يحدث لهؤلاء من عمليات قتل وترهيب في المنيا والأقصر وأسيوط وسيناء بعد 30 يوينو). يعوّل النشطاء هنا على فكرة المؤسّسة داخل الجيش، ويخشون من محاولات الإخوان المستمرّة جرّه إلى حرب استنزاف في مواجهة الجزء الذي يمثّلونه داخل المجتمع، وهو بلا شكّ كبير وعريض (ظهر ذلك من خلال الحشد المستمرّ والمثابر الذي استطاعوا تأمينه على مدى أيام في رابعة العدوية ومحيطها). وهذا يفسّر جزئياً تغاضيهم - أي النشطاء - حتّى الآن عن سلطته المستجدّة، فهي في العمق لا تختلف عن سلطة الإخوان إلّا في عنصر الإجماع الذي تفتقده هذه الأخيرة. يجري تقديم اللحمة الاجتماعية هنا على سواها من العوامل التي تحتاج إليها مصر في هذه الأيام، فقد أحسّ المصريون في الآونة الأخيرة بوطأة السيناريو السوري عليهم، وبخطورته على بنيتهم الاجتماعية المتماسكة نسبياً. بالنسبة إليهم انطوت سلطة الإخوان على عناصر، يمكنها بسهولة استقطاب المجتمع عمودياً، وبالتالي جرّه إلى ما هو أبعد من سياسات الهوية. الطبقة الوسطى هي التي استشعرت هذا الخطر أكثر من غيرها، وفي ضوء هذا الشعور تصرّفت بسرعة واستجابت لنداءات حركة «تمرّد » المهادنة للجيش والداعية إلى تدخّله للتخلّص من سلطة الإخوان. النقاشات بين النشطاء السياسيين حول تصنيف خطوة الجيش تلك ونسبها مرّة إلى الانقلاب ومرّة أخرى إلى الثورة لم تعد مهمّة كثيراً، فالمجتمع هنا هو الذي تحرّك وفرض كلمته. ومن سوء حظّ النشطاء المنتمين إلى موجة يناير 2011 أنّ الحراك هذه المرّة كان متنوّعاً أكثر من السابق، وهذا يعني بالتعريف استعداده لقبول عناصر كانت تعدّ في الماضي «رجعية» و «فلولية ». ليست مصادفة أيضاً أنّها «العناصر ذاتها» التي واجهت الإخوان في الأحياء الشعبية وضحّت بأبنائها لحماية مناطقها من هجماتهم الليلية. حدث ذلك في أكثر من محافظة - وخصوصاً في القاهرة -، وبأكثر من طريقة، وكلّما حصل أسرع كانت تزداد الطبقة التي ينتمون إليها تماسكاً. هؤلاء يدينون بالولاء للجيش من غير أن يكونوا « فلولاً» بالضرورة . لنقل إنّها طبقة لا يستطيع الإخوان تعريفها
فيستسهلون تسميتها الفلول، كما يعجز الجيش عن حمايتها فيتركها لسواعد أبنائها ومهمّشيها. مجزرة المنيل تشهد على ذلك، وكذا شهادة الناشطة والصحافية الشجاعة رشا عزب.

* كاتب سوري

تم تعديل هذا النص عن نسخته الأصلية بتاريخ 15 تموز 2013