بالطبل والمزمار أعلن الانقلاب العسكري باسم الشعب، ومن أجله ولأجل عينيه. من أجل عينيه، عشق الانقلابات. وعندما يجمع إعلام الممانعة وإعلام آل سعود على أمر ما، ترتاب وتقلق. تعلم أن وراء الانقلاب إرادة غير شعبيّة البتة. كان التهليل عارماً: قطاعات كبيرة من الشعب العربي المُناهض للإخوان هلّل لانقلاب العسكر في مصر. لكن التهليل للانقلابات ليس جديداً أو ممنوعاً في بلادنا: إنه طقس ربيعي وصيفي وخريفي. قضى الشعب العربي النصف الثاني من القرن العشرين وهو يهلّل للانقلابات العسكريّة المتوالية.ينسى البعض أن حتى الانقلابات البعثيّة كانت تلاقي الترحيب وكان قائد الانقلاب يحيّي الجماهير المحتشدة من على ظهر سيّارة مكشوفة تجول في الشوارع فيما تتدلّى الجثث الطازجة من أعمدة الكهرباء. لكن الطريف أن التهليل للانقلاب كان باسم الديموقراطيّة: يريدونك أن تفرك عينيك وأن تنسى أن عبد الفتاح السيسي هو الذي أجرى الانقلاب وهو الذي خطف أوّل رئيس مصري مُنتخب في انتخابات «حرّة» ــ هل هناك من يظنّ أن محمد مرسي هو أكثر شعبيّة من عبد الناصر في عزّه؟ فلنكف عن التغنّي بحريّة انتخابات في منطقة تحرّم عليها أميركا وأوروبا وإسرائيل الحريّة. لم يكشف الانقلاب عن نفور العرب من الديموقراطيّة أو عدم تقبّلهم أو استعدادهم لها ــ على ما تشدّق مستشرقون من قبل ومن بعد ــ بقدر ما كشف أن الغربيّين (أو الحكومات الغربيّة) وليس العرب هم عتاة مقاومي الديموقراطيّة في العالم العربي. والتهليل للانقلاب شمل عناصر متنوّعة ومتنازعة في مصر والعالم العربي: من الفلول إلى الناصريّين إلى الليبراليّين وبعض اليساريّين إلى فريق الممانعة الذي ظنّ أن عبد الناصر قد بُعث حيّاً ــ على افتراض أن عبد الناصر والبعث كانا على انسجام ــ أو أن السيسي أعلن انضامه إلى حزب البعث الحاكم (من دون مادة دستوريّة) في سوريا.
لكن الحكم على الانقلاب على أنه ديموقراطي مناف لأبسط المعايير. سارع الليبراليّون وبعض اليساريّين إلى سوق مختلف الحجج غير الدامغة لدعم الانقلاب وتصنيفه ديموقراطيّاً. قالوا إنّ ملايين من الناس وقّعت على عرائض لكن الدستور المصري لا يكرّس العرائض مهما تضخّمت وسيلة للتغيير الإجرائي (ولقد عرفت عدداً من الزملاء الأكاديميّين الأميركيّين من الذين وقّعوا على العرائض غير المُمحصّة عينها، وباسم الشعب المصري الثائر). أما البرادعي فتذاكى: قال إن تغيير الرئيس (وهو غير خطفه) كان عملاً مماثلاً لما يُسمّى في قانون كاليفورنيا الدستوري حق الشعب في نزع الشرعيّة عن حاكم منتخب للولاية بغية عزله: لكن لهذا الحق في كاليفورنيا قوانين وإجراءات محسوبة بعناية دقيقة، ولا تجري اعتباطاً ولا تتدخّل فيها القوّات المسلّحة. قالوا إن الملايين في الشارع هي التي قرّرت: ومتى كانت الملايين في الشوارع هي التي تقرّر، في النظم الديموقراطيّة؟ ما هكذا يتم الاحتكام إلى إرادة الشعب في النظم الديموقراطيّة التي يلهج بحمدها دعاة الديموقراطيّة العرب (وأنا لست منهم، لماركس الحمد). ثم هل كانت الملايين التي خرجت تهتف بحياة هتلر والتي ساهمت في إلغاء العمليّة الديموقراطيّة في جمهوريّة فايمر مُحقة ديموقراطيّاً في فعلها؟ وماذا عن الملايين التي اقترعت لشفيق، هل يحق لها هي الأخرى مثلاً أن تنصّب علاء أو جمال رئيساً؟
قالوا إن مرسي فقد شرعيّته. لكن لا تُفقد الشرعيّة هكذا بمزاج في النظم الديموقراطيّة: حتى عندما افتضح أمر ريتشارد نيكسون في قضيّة «ووترغيت» الشهيرة، فإن استقالة نيكسون أتت فقط بعدما تيقّن أن الكونغرس الأميركي باشر اللجوء إلى الإجراءات الدستوريّة التي على أساسها يستطيع ممثّلو الشعب عزل رئيسهم. أي من هذا لم يحدث في مصر: فقط ابتهاج بأعداد من الملايين في الشوارع والعرائض، مع تجاهل شبه فاشي (وطبقي) لجماهير الإخوان.
لكن المفارقة أنّ الذين (في الغرب والشرق) أيّدوا الانقلاب ضد الإخوان والإسلاميّين في مصر باسم العلمانيّة هم أنفسهم الذين يؤيّدون الإخوان والإسلاميّين في سوريا لكن باسم الديموقراطيّة. لكن لا الديموقراطيّة ولا العلمانيّة هي التي تحدّد مواقف أولئك الأفرقاء.
لم يعد الأمر سرّاً: لقد حضّرت قوى خفيّة مرتبطة بتحالف الفلول مع أصحاب المليارات من أجل عزل الإخوان عن الحكم. روت الـ«نيويورك تايمز» ذلك بالتفاصيل المملّة. كما أن نجيب سويرس (وهو يمثّل ظاهرة بسوء ظاهرة أصحاب المليارات في لبنان) لم يعد يخفي دوره في تمويل الحركات المناهضة للإخوان والديموقراطيّة في مصر باسم الديموقراطيّة عينها مع رشّة من العلمانيّة.
قالوا إن الثورة يحقّ لها أن تفعل ما تشاء لأنها تملك الشرعيّة. حسناً، من هي هذه الثورة ومن يتحدّث بإسمها؟ هل إن أحمد شفيق وجماعة السعوديّة في مصر أحق بالنطق باسمها من الإخوان مثلاً؟ ثم، ماذا لو قامت «الثورة» تلك بتغيير نظام حكم آخر أو رئيس مُنتخب آخر، وقد يكون أفضل من مرسي بكثير؟ ثم، كيف استقام أن «الثورة» تلك لا تقوم بعملها في الإقصاء والتنصيب والقلب والعزل، بل أن الجيش يقوم بذلك. وكيف اكتسب جيش الهزائم والفلول وحامي «كامب ديفيد» شرعيّته الثوريّة تلك؟ هل في قتل المتظاهرين قبل حكم الإخوان وبعده وفي إجراء امتحانات العذريّة؟
قالوا إن الإخوان فشلوا في الحكم. من يقرّر ذلك، وكيف يتقرّر ذلك؟ ثم، هل سنة حكم واحدة تفصل للحكم في الفشل والنجاح، حتى مع أخذ المعوقات الخارجيّة (من السعوديّة والإمارات وصندوق النقد وغيرهما) في عين الاعتبار؟ ولو أن دافع الجيش كان إسقاط مَن فشل في امتحان الحكم فلماذا سكت دهوراً عن حكم مبارك؟ ألم يكن حريّاً به ألّا ينتظر نحو ثلاثين سنة كي تعتدل الأمور؟ ثم أليس للديموقراطيّة أحكام في تقرير الفشل والنجاح تكمن في صناديق الاقتراع المُستوردة من المجموعة الأوروبيّة أو من الراعي الأميركي؟
قالوا إن الإخوان غير ديموقراطيّين وإنهم سيلغون العمليّة الديموقراطيّة بمجرّد وصولهم إلى السلطة. قد يكون ذلك صحيحاً لكنه لم يتحقّق بعد في مصر. أثبت خصوم الإخوان أنهم أقلّ ديموقراطيّة من الإخوان بكثير. إن حريّة الكلمة في عهد الإخوان كانت أوسع منها اليوم. هل سيجرؤ باسم يوسف على السخرية من السيسي ومن الفلولي عدلي منصور مثلاً؟ هل الإخوان عطّلوا العمليّة الديموقراطيّة التي عطّلها خصومهم بواسطة انقلاب عسكري؟
قالوا إن الإخوان غير علمانيّين وإن الدولة المدنيّة تتناقض مع عقيدتهم. لنتفق أن ليس هناك من شيء في القانون الدستوري اسمه الدولة المدنيّة وأن المصطلح هو من اجتراح ألاعيب الإخوان الذين يحاولون التستّر على عدائهم للعلمانيّة، لكن هل أن خصوم الإخوان من العلمانيّين؟ هل مؤسّسة الأزهر والسلفيّون والفلول من فريق العلمانيّة؟ لنذهب أبعد من ذلك ونتساءل إذا كان الليبراليّون والقوميّون واليساريّون في صف انقلاب السيسي هم حقّاً من العلمانيّين. إن العلمانيّة الحقّة تعني شيئيْن: هي إشارة إلى حياديّة الدولة المُطلقة في الشأن الديني (على غرار ما استحدثته الدولة الفرنسيّة بعد الثورة) ــ وهذا يشمل الحياديّة إزاء الإيمان أو عدمه، كما أنها تشير في معناها في علم الاجتماع إلى ابتعاد الفرد والمجتمع عن التديّن بعد انتشار العلم وقيَمه. لا يمكن أن نتحدّث في مصر عن فريق علماني: إن المفاضلة النسبيّة لا تغطّي العورات غير العلمانيّة. إن الأزهر مؤسّسة أداة بيد الدولة تستعملها كيفما تشاء ولغايات الظلم والجور والتعصّب و... التحالف مع العدوّ الإسرائيلي. لحسن حظّ العرب، فإن النظام الناصري سخّر الأزهر من أجل نشر فكر وتفسير تقدّميين للدين، دون أن يكون الفكر الناصري علمانيّاً (وإن كان كذلك بالمقارنة مع أحزاب اليوم بين الإسلاميّين وخصومهم).
لا تطالب أحزاب المعارضة في مصر بفصل الدين عن الدولة: إن الصراع يدور حول دور الدين، وليس حول إبطال عمله بالكامل في السياسة. كما أن فكرة الارتباط بين العلمانيّة والديموقراطيّة فكرة خاطئة: لقد كان النظام الألباني الشيوعي في حكم أنور خوجا من أكثر الأنظمة علمانيّة في القرن العشرين لكنه لم يكن ديموقراطيّاً. كما أن نظام صلاح جديد قد يكون من أكثر الأنظمة العربيّة علمانيّة في تاريخنا، بالرغم من انعدام الديموقراطيّة. وعلى المقلب الآخر، هناك أنظمة ديموقراطيّة، مثل بريطانيا، يكون فيها كنيسة للدولة («كنيسة إنكلترا»). وتطوّرت العلمانيّة في الغرب بمساريْن مختلفيْن بين أميركا وأوروبا: العلمانيّة انبثقت في أوروبا كي تحمي الدولة من الكنيسة، بينما العلمانيّة (الضعيفة جدّاً مقارنة ببعض الدول الأوروبيّة، ووفق التعريفيْن المثبتيْن أعلاه) تطوّرت في أميركا كي تحمي الكنسية من الدولة، ومن دون تطوّر علمانيّة الفرد (التديّن في أميركا يماثل نسب التديّن في الدول النامية). إن التسابق بين أحزاب المعارضة والإسلاميّين في مصر لم يكن حول العلمانيّة، وإنما حول درجة الارتباط بين الدين ومؤسّساته والدولة. لم تجد أحزاب المعارضة غضاضة في الإعلان الانقلابي الصفيق أن يتجاور على المنصّة (مع «الثوّار») شيخ الأزهر وأسقف الأقباط وممثّل عن الحزب السلفي. ما علاقة هؤلاء بالعلمانيّة؟ إن العلمانيّة القاطعة تكون بقطع صلة الدولة بمؤسّسة الأزهر وبالإصرار على عدم إيراد الدين أو الإيمان في الدستور الجديد، وأن يخلو القسم الرئاسي من الإشارة إلى الدين ــ أي دين. لكن أي من هذا لا يندرج في برامج الأحزاب المتصارعة ومطالبها.
وقالوا إن الإخوان تعاملوا مع الخارج وأقاموا علاقات مع أميركا، وهذا صحيح. لقد عقد الإخوان في مصر وتونس وليبيا صفقات خبيثة مع صهاينة أميركا يقومون فيها بواجب حماية مصالح العدوّ الإسرائيلي وغرض السلم معه (والالتزام بمحاربة تجريم التطبيع في الدستور في حالة تونس)، كما أنهم يلتزمون المشي على خطى السياسة الخارجيّة للنظام البائد، إلا إذا ارتأت أميركا وإسرائيل تغييرات طفيفة هنا وهناك. وصحيح أن السيناتور جون ماكين، وهو من أعتى كارهي العرب والإسلام بين ليكوديّي الكونغرس الأميركي، تحوّل في غضون سنتيْن إلى داعية الإخوان في أميركا، وقد استنكر أشدّ الاستنكار الانقلاب الأخير وطالب بتطبيق القانون حول فرض العقوبات على مصر. وقد تلقّى الإخوان دعماً وتأييداً من أميركا وإسرائيل مقابل الخدمات تلك، كما أن حكم الإخوان نشط في جهاد من نوع آخر: في تشديد الحصار على غزة وفي هدم الأنفاق بوتيرة أسرع من الوتيرة التي سلكها نظام مبارك. لا يهم أميركا من يحكم مصر ما دامت مصالحها تحظى بالاحترام والتقدير من قبل الحاكم. وقد اضطرّ مرسي أكثر من مرّة للكذب على مقرّعيه الأميركيّين حول تصريحات سابقة له عن «أحفاد القردة والخنازير».
لكن في المقابل، هل الانقلاب العسكري كان بريئاً من التدخّل الخارجي ومن التحالف مع قوى خارجيّة؟ نظام الحكم العسكري الجديد (لا ممثّلو المعارضة في الحكومة إلا ديكوراً في حكم يسيطر عليه عسكر الفلول) قدّم بسرعة أوراق اعتماده للعدوّ الإسرائيلي من خلال خنق غزّة وهدم عدد هائل من الأنفاق التي تحفظ أعناق أهل غزة وأرزاقهم. أما البرادعي ــ يُراد لنا أن نقبل أن البرادعي هذا هو مثيل كارل ماركس في ثورات 1848 أو مثيل روبسبير في الثورة الفرنسيّة ــ فإنه زها في حديث مسهب مع «نيويورك تايمز» كيف أنه أجرى اتصالاً بوزير الخارجيّة الأميركي وبمفوّضة الشؤون الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي لإقناعهما بأن الانقلاب العسكري ليس انقلاباً. أي أن البرادعي اعترف بأن الانقلاب الوطني تمّ برعاية خارجيّة. ولم يتحدّث البرادعي أو غيره عن التنسيق مع الحكم السعودي الذي تعامل مع الانقلاب على أنه أم العروس. لعلّ الملحق العسكري المصري السابق في السعوديّة، أي السيسي نفسه، هو الذي تولّى أمر التعاون مع الحكم السعودي في تدبير شؤون الانقلاب. ثم يقولون لك إن ما حصل هو «ثورة». إن نفي صفة الثورة لا يعني الاستهانة بالملايين التي خرجت بإرادة ثوريّة، لكن هناك قوى تدخل في لحظة جماهيريّة وتسرق الزخم الشعبي وتحوّره باتجاه مغاير.
تنتاب الانتفاضة المصريّة منازعات لا علاقة للشعب المصري بها (كحالة النزاعات في سوريا) وهي من صميم المنافسة السعوديّة ــ القطريّة، والدولتان تديران الثورة العربيّة المضادة بأمر من التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي. لكن العجب العجاب أنّ هناك فريقاً من الناصريّين واليساريّين ممن هلّل للانقلاب ظنّاً منه أو منها أن عبد الناصر سيُبعث من جديد، أو نكاية وشماتة بالإخوان. لكن الانقلابات العسكريّة هي من «صنف يوم لك ويوم عليك». والذي ينقلب على الإخوان اليوم ينقلب على اليسار غداً، والعكس. وليس السيسي من صنف ثوّار الضبّاط الأحرار الذين فصلوا فصلاً قاطعاً بين السياسة الخارجيّة والداخليّة للنظام المصري الجديد، وبين سياسات الملكيّة.
لكن الحكم على نظام الانقلاب العسكري الجديد لا يحتمل إرجاء أو انتظاراً: فالنزعات التسلطيّة الفاشيّة فيه ظهرت واضحة. النظام الجديد نسّق مع أميركا وأعطى إنباء مبكراً للعدو الإسرائيلي (وسمح لقافلة أمنيّة ــ عسكريّة بالقدوم إلى مصر في اليوم الأوّل من الانقلاب)، كما أنه دشّن حملة عنصريّة لا سابق لها في التاريخ المصري ضد الشعبيْن المصري والسوري. وقد أطلق النظام الانقلابي الجديد حملة عداء شوفيني ترافقت مع توجّهات السياسة الخارجيّة المصريّة المتوائمة مع مصالح إسرائيل.
ولكن ليس على داعمي الانقلاب والمطبّلين له في وسائل التواصل الاجتماعي والطائفي والمذهبي من ضرورة للانتظار: فقد بانت معالم النظام الانقلابي الجديد في شكل الحكومة الجديدة. فالفلول يحتلّون موقع الصدارة، كما أن القيادة العسكريّة التي يمثّلها السيسي هي من صلب الفلول: ونظام كامب ديفيد هو نظام الفلول الذي ترعاه أميركا وإسرائيل وتموّله أميركا من خلال المساعدات العسكريّة السنويّة ــ والتي لا تشكّل خطراً على الكيان الغاصب لأن اللوبي الصهيوني له ملء الحق في وضع الفيتو على أية قطعة سلاح تصدّرها أميركا إلى مصر، مثلما يطلب الجندي المصري في سيناء الإذن من إسرائيل ــ وفق بنود معاهدة السلام والكرامة بين مصر وإسرائيل ــ كي يغيّر موقعه أو كي يذهب إلى المرحاض. لكن المهلّلين للانقلاب أرادوا أن يُلبسوا الانقلاب ثياباً لا تليق به، ولم تُعدّ له أصلاً.
للسلفيّين أن يُعجبوا بزبيبة صلاة السيسي، وللفلول النظر إليه كخليفة لأحمد شفيق، كما لأنظمة آل سعود وآل نهيان وآل الصباح غمر النظام الجديد بالمساعدات إكراماً لذكرى حسني مبارك. لكن الحقيقة لا تخفى حول طبيعة النظام الجديد وأهدافه، والذي اختار نبيل فهمي (الذي أقام أوثق العلاقات مع اللوبي الصهيوني خلال تولّيه منصب سفير حسني مبارك في واشنطن) كي يدير عمليّة وصل ما لم ينقطع بين النظام المتدرّج وأميركا وإسرائيل.
النظام الجديد هو نظام عسكري أعطاه الملايين من كارهي الإخوان شرعيّة ما خوّلهم أحد إعطاءها: إذا كانت الشرعيّة الديموقراطيّة تكمن بالملايين في الشوارع، فإن الأنظمة الشموليّة تستحق الصفة قبل غيرها. سيسجّل التاريخ أن حكم الإخوان ــ على بشاعته وعلى تخلّفه ونفاقه ــ شكّل المرحلة الوجيزة واليتيمة في الحكم الديموقراطي الذي لن تسمح لنا السعوديّة وإسرائيل وأميركا به. هذا هو مكمن القصور الديموقراطي في بلادنا، برسم من يتغنّى بالديموقراطيّة في النهار، ويحصد الانقلاب العسكري في الليل. أصحاب المليارات يقفون بالمرصاد للحفاظ على نظام الفلول في كل الدول العربيّة، وبالتحالف مع أنظمة النفط أو الغاز، لا فرق.
وظهر السيسي مُزيّناً بنياشين اقتناها في دورات عسكريّة متقدّمة في أميركا وفي الرياض. أتى على صهوة جواد أبيض وهتف له الديموقراطيّون قبل أعداء الديموقراطيّة. أما المؤسّسات التي تثق بها قيادة الجيش المصري فهي مؤسّسات حكم الفلول الذي يثق بعدلي منصور (وكان منصور هذا مُعاراً من مبارك إلى آل سعود لـ... تطبيق القانون الدستوري في مملكة لا دستور فيها). ولكن، لماذا طالبت جماهير نواة الثورة في مصر بالانتخابات؟ هذا كان الخطأ الأوّل. ماذا كانوا يتوقّعون؟ أما كان أجدى لو أن مطلب الانتخابات تأجّل إلى أجل غير مسمّى فيما تتطوّر الثورة وتحطّم كل قديم وتدكّ الحصون من أجل إرساء دعائم نظام ثوري جديد؟ ألم تلاحظ جماهير «الثورة» أن هناك من منع ويمنع محاكمة جديّة لحسني مبارك وولديه، بالرغم من المداولات القضائيّة حول تقنيّات؟
قالوا إنها الثورة بحق وإن الرئيس المُنتخب مخطوف لأنه غير ديموقراطي وأن سلالات آل سعود وآل نهيان وآل الصباح تغدق المليارات حبّاً بالثورة وصانعيها. قالوا إن كمّ الأفواه والاعتقالات الاحترازيّة وإغلاق الوسائل الإعلاميّة والكشف عن مؤامرات متشعّبة يسوّغ للثورة. بالفعل، كل هذا سوّغ من قبل لثورات... بعثيّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)