فور إطاحة حسنى مبارك في شباط (فبراير) 2011 انطلقت الدعوات للعمل والإنتاج، وبدأ هجوم شرس ضد الاحتجاجات العمالية التي اصطلح عليها في مختلف وسائل الإعلام «الإضرابات الفئوية» واتهمت إضرابات العمال بأنها مدفوعة من فلول مبارك وتهدف لوقف «عجلة الإنتاج» وتقويض الاقتصاد. وفي أعقاب ثورة رفعت العيش والحرية والعدالة الاجتماعية كان أول تشريع يصدر عبارة عن مرسوم بقانون من المجلس العسكري يجرم الإضرابات والاعتصامات ويحيل المضربين للمحاكم العسكرية، وهو ما جرى بالفعل لمعتصمين من العمال أمام مجلس الشعب ساعتها. لم تتحرك القوى المنادية بالديموقراطية ساعتها ضد هذا القانون، على الرغم من الدور الذي لعبته الإضرابات العمالية في السنوات السابقة على الثورة في تهيئة الشارع المصري للثورة، والدور الذي لعبته إضرابات العمال خلال الثورة نفسها، والذي عجل بسقوط مبارك وفتح الطريق أمام قوى المعارضة للوصول لمؤسسات الحكم والمشاركة في صنع القرار. موقف محمد مرسي من الحركة العمالية لم يكن أفضل بل بالعكس، فعام واحد في الرئاسة كان كافياً لإطلاق الكلاب البوليسية على العمال المضربين واستخدام الجيش لفض الإضرابات ومحاولة التراجع عن كل مكاسب الحركة العمالية، فضلاً عن أن سياساته الاقتصادية لم تعن أي تحسن في أوضاع العمال بل شهدت أوضاع العمال تدهوراً ملحوظاً في هذا العام.
مع انتفاضة 30 يونيو وإطاحة مرسي بدأت دعاوي أخرى لوقف الإضرابات العمالية. فبمجرد عزل مرسي صدر بيان عن الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، والذي تأسس في 30 يناير (كانون الثاني) 2011 في ميدان التحرير أي أثناء الثورة، يؤكد أن من كانوا أبطال الإضرابات سيصبحون أبطال العمل والإنتاج. ما اعتبر تراجعاً عن حق الإضراب من جانب الاتحاد الذي بني باضرابات، وهو ما استدعى توضيحاً تالياً أكد فيه الاتحاد تمسكه بحق الإضراب. والتوضيح نفسه فسر على أنه تراجع عن البيان الأول. تلى ذلك دعوة مباشرة من الاتحاد الرسمي للعمال، والذي يعرف دائماً بانحيازه للسلطة، لوقف كل الإضرابات لمدة عام لإعطاء الفرصة لإنجاز الإصلاحات، ثم جاءت دعاوي مماثلة من كيانات أقل قيمة. ومع هذه الدعوات بدأت تلميحات إلى أنّ الإضرابات العمالية أو «الفئوية» في هذه اللحظة تخدم مصالح جماعة الإخوان، وأن الإخوان سيبذلون جهدهم في صفوف الطبقة العاملة ليعطلوا عجلة الإنتاج ويعيقوا السلطة الجديدة. يشبه هذا الحديث الذي تردد في 2011. الملاحظ أن ما يعرف بالقوى الديموقراطية تعاملت دائماً بتجاهل مع اضطهاد الحركة العمالية كما لو كان حق الإضراب ليس من ركائز الديموقراطية. لكن المفارقة الكبرى هي أن الموقف من الإضرابات العمالية كان يختلف حسب الحاجة. فمثلاً في الذكرى الأولى لتنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) 2012 ظهرت دعوة للإضراب العام دعمتها أغلب القوى السياسية للمطالبة باستكمال أهداف الثورة، وهي الدعوة التي لم تستجب لها الحركة العمالية رغم أن معدلات الإضرابات العمالية كانت قد تزايدت بشكل ملحوظ في تلك الفترة. كذلك ظهرت دعوات عدة للإضراب العام موجهة للحركة العمالية لتدعيم انتفاضة 30 يونيو، كما طالبت العديد من القوى المعارضة الحركة العمالية بالمشاركة بقوة في الأحداث. هكذا يغلب الطابع النفعي في تعاطي القوى السياسية مع الحركة العمالية أحياناً. فبينما تهرول أحيانا نحو الحركة العمالية وتطالبها بالحشد والإضرابات ضد النظام، تتجاهل تماماً ما يتعرض له العمال في أوقات أخرى من اضطهاد وتعسف وتجاهل لقضاياهم. ليس مستغرباً إذن أن تسود علاقة من عدم الثقة بين الحركة العمالية والحركة السياسية وأن تتجاهل الحركة العمالية دعوات الإضراب التي تطلقها قوى سياسية من خارج الحركة العمالية وقت الضرورة.
هذا التعاطي مع الحركة العمالية سواء من قبل السلطة أو من قبل القوى السياسية لا يعكس فقط ازدواجاً في المعايير لدى القوى السياسية، ولكنه أيضاً يعكس عدم إدراك وفهم من تلك القوى لحجم وتأثير الحركة العمالية. لقد كان عدد الإضرابات والاحتجاجات العمالية والاجتماعية في عام 2012 وحده أكبر من مجموع عددها طوال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك. وتجاوز عددها في الشهور الخمسة الأولى من 2013 ما شهده عام 2012. هكذا يبدو أن أصعب ما واجهه محمد مرسي خلال عام في الرئاسة كان حركة اجتماعية عنيدة ومنتشرة في أنحاء مصر. وربما كان إضراب عمال مجلس الوزراء ومنعهم رئيس حكومة مرسي من دخول مبنى الحكومة في الثلاثين من يونيو إشارة هامة إلى الدور الذي يمكن للطبقة العاملة أن تقوم به. عدم الفهم هذا هو ما يجعل دعوات الإضراب ودعوات عدم الإضراب بلا أي قيمة حقيقية، حتى تلك الصادرة عن تنظيمات نقابية. إن السمة البارزة لاحتجاجات العمال في مصر أن الغالبية الكاسحة منها لا تنظمها النقابات، ويقوم بها عمال المنشآت خارج أي تنظيم نقابي أو سياسي. الاتحاد الرسمي للعمال الذي دعا لوقف الإضرابات وسماها «فئوية» لم يسبق له قيادة أو تنظيم إضرابات من قبل من تأسس في عام 1957 بقرار من السلطة السياسية سوى في استثناءات نادرة لا يمكن اعتبارها قاعدة. وبالعكس، لم تفلح في السابق مقاومته للإضرابات العمالية من تقليلها. كذلك فإن الدعوات التي أطلقت لتنظيم الإضرابات من خارج الطبقة العاملة لم تفلح في إقناع العمال لأنها لم تكن تضع أولويات الحركة العمالية في اعتبارها ولأنها أطلقت من خارجها. لا تحمل دعاوي وقف الإضرابات قيمة حقيقية ولا تعني أي تأثير في الحركة العمالية، لكنها قد تعكس التوجه القادم نحو الحركة العمالية والذي يبدو حتى الآن مشابهاً للتوجه الذي سيطر عقب 11 فبراير 2011 والذي ناصب الحركة العمالية العداء. لكن إشارة أخرى لا ينبغي تجاهلها، وهي تولي أحد أهم قادة الإضرابات قبل الثورة لوزارة القوى العاملة وهو كمال أبو عيطة، الذي قاد إضراب الضرائب العقارية في نهاية 2007، والذي أسس أول نقابة مستقلة وأسس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة أثناء الثورة والذي طالما قاد مظاهرات تطالب برفع الحد الأدنى للأجور وتضييق الفارق بين الحدين الأدنى والأقصى للأجر. الرجل الذي رفع مطالب الطبقة العاملة على مدار سنوات أصبح في مركز اتخاذ القرار. قد يرى البعض أن تولي أبو عيطة لهذا المنصب يهدف بالأساس لاستيعاب الحركة العمالية والسيطرة عليها وليس لتلبية مطالب الطبقة العاملة. لكن السؤال: هل بالإمكان فعلاً خداع الحركة العمالية والسيطرة عليها؟ الحقيقة أن الحركة العمالية تمكنت من مواجهة أساليب قمع وحشية سواء أثناء حكم مبارك الذي استخدم المدرعات والرصاص الحي لفض الإضرابات، أو المجلس العسكري الذي أحال المضربين للمحاكم العسكرية، أو محمد مرسي الذي أطلق الكلاب البوليسية على المضربين. كل هذا والحركة العمالية آخذة في التصاعد! كذلك لم تفلح آليات الاستيعاب والسيطرة المختلفة، سواء تقديم مسكنات لمطالب العمال يزول أثرها سريعا، أو تقديم تعهدات يتم التراجع عنها لاحقاً. لقد أثبتت الحركة العمالية أنها أكثر صلابة وصبراً مما يعتقده الجميع. وفي الوقت الذي لم يتأكد فيه بعد الاتجاه الذي ستسلكه سلطة ما بعد 30 يونيو تجاه مطالب العمال المرفوعة منذ ما قبل ثورة يناير، فإن توجه الطبقة العاملة يبدو مؤكداً وهو رفضها للقمع ورفضها للاستيعاب وإصرارها على تلبية مطالبها.
* كاتب مصري