وأخيراً، نجح جون كيري، وزير الخارجية الأميركية، بإقناع قيادة حركة فتح بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل بعد عشرين عاماً من توقيع اتفاقيات أوسلو الذائعة الصيت، التي أدت إلى تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة فتح في رام الله وبعض مدن الضفة الغربية، وإلى دخول حركة حماس، الإسلاموية التوجه، بطريقة غير مباشرة في العملية السياسية الناتجة من هذه الاتفاقيات. ومن خلال ما أُعلن بوضوح، كان معظم أعضاء اللجنة التنفيذية التي تمثل جميع فصائل منظمة التحرير قد عبّروا عن رفضهم العودة إلى المفاوضات دون التزام إسرائيل حدود عام 1967 مرجعيةً وأساساً للمفاوضات المنتظرة ووقف الاستيطان. وكانت وكالة «معا» للأنباء قد نقلت عن أحد قادة الفصائل الفلسطينية المرموقة أنّ «جميع أعضاء القيادة بلا استثناء أبدوا تحفظاتهم على مقترح كيري، وحين سُئِل الرئيس أبو مازن عمّا إذا كان يملك ضمانة خطية من كيري حول حدود 67 أجاب بالنفي، وحين سئِل عن أية ضمانة أميركية حول الأمر أجاب بالنفي، وحين سئِل عن أي التزام خطي أو شفوي معلن من نتنياهو حول حدود 67 أجاب بالنفي». بناءً عليه، بات من الواضح أن ما يسمى «الانقسام» السياسي لم يعد فقط بين قيادة السلطة في رام الله، أي حركة فتح، وحكومة غزة، أي حركة حماس، بل تخطى ذلك ليصبح داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. كانت «التنازلات» الإسرائيلية، التي يطالب بها الطرف الفلسطيني تتلخص بالتزام إسرائيل حلّ الدولتين على حدود عام 1967، ووقف الاستيطان وإطلاق سراح الأسرى وخاصة المعتقلين منذ ما قبل اتفاق أوسلو، وهذا ما لم يحصل عليه الطرف الفلسطيني. وهذا يطرح العديد من الأسئلة المحورية حول أساس القضية الفلسطينية وتمثيلها. فهل الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هو منظمة التحرير الفلسطينية أم حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)؟ (وفي هذا السياق لن نتطرق لانتخابات المجلس التشريعي 2006، التي أبرزت ممثلين لا يمكن تجاهلهم). ثم يبرز سؤال عن ذلك «الإجماع الوطني» الذي يقوم على أساس تشريع المفاوضات بين «الطرفين» إذا التزمت إسرائيل حدود 67 ووقف الاستيطان، لا على أساس تطبيق الشرعية الدولية غير مجزأة، بمعنى أن يكون هناك انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإنهاء سياسة «الأبارتايد» التي تمارسها ضد فلسطينيي الـ48 من خلال إعلانها أنها دولة لكل مواطنيها، وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينصّ صراحة على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى القرى والبلدات التي طُهِّروا منها عرقياً عام 1948.
والفارق بين «الإجماعين» كبير. فالأول يقوم على أساس اعتبار أن حل الدولتين العنصري هو أساس حل «الصراع» من خلال حصر الشروط التي يتمحور حولها «إجماع» في مطالب تتعلق بسكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. وبالتالي يصبح وقف الاستيطان، لا التخلص منه، شرطاً للعودة إلى طاولة المفاوضات، باعتبار أنه، أي الاستيطان، محصور في الضفة الغربية فقط. ومن الملاحظ أن الخلاف داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يقوم على هذا «الإجماع»، الذي تنازلت عنه حركة فتح. ومن الجدير بالذكر، في هذا السياق أيضاً، إعلان الحكومة الإسرائيلية عزمها على بناء 1500 وحدة استيطانية جديدة في الأراضي الفلسطينية بعد إعلان العودة إلى المفاوضات، وتصديق وزير الجيش الإسرائيلي موشيه يعالون على تسريع مخططات لبناء 3600 وحدة استيطانية، وفقاً لمعطيات «حركة السلام الآن» الإسرائيلية، وإقرار وزارة المواصلات الإسرائيلية مخططاً لشبكة طرق تربط مستوطنات الضفة الغربية مع الأراضي المحتلة عام 1948، ما يعني تدمير حل الدولتين والحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً على حدود الأراضي المحتلة عام 1967، حسب ما قالته وزارة الخارجية الفلسطينية نفسها!
وهكذا يتضح أن الخلاف داخل اللجنة التنفيذية يقوم على أساس تعريف شروط الاضطهاد الاسرائيلي ومدى قدرة جون كيري على تحسينها! فالمفاوضات، كما اقترح كيري، كسابقاتها في أوسلو وواشنطن وشرم الشيخ وطابا وكامب ديفيد، ينطبق عليها تعريف التطبيع كما اتفق عليه المجتمع المدني الفلسطيني بغالبيته الساحقة من حيث كونها «نشاطاً يهدف إلى تحقيق «السلام» من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف حسب القانون الدولي وشروط العدالة»، وكونها «نشاطاً يدعو له طرف ثالث أو يفرضه على الطرف الفلسطيني/العربي، يساوي بين «الطرفين»، الإسرائيلي والفلسطيني (أو العربي)، في المسؤولية عن الصراع، أو يدعي أن السلام بينهما يتحقق عبر التفاهم والحوار وزيادة أشكال التعاون بينهما، بمعزل عن تحقيق العدالة». ومن المعلوم أن هذه المفاوضات لا تهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني.
على العكس من ذلك، فإن «الإجماع» الذي يدور حوله خلاف فلسطيني لا يشترط، على صعيد المثال، وقف مشروع برافر التطهيري في النقب، أو إطلاق سراح كل المساجين الفلسطينيين الـ 5000، بل حصر ذلك في المساجين الأمنيين الاثنين والثمانين المعتقلين قبل توقيع اتفاقيات أوسلو. بل إن إسرائيل أعلنت أن إطلاق سراح هؤلاء سيجري على أربع مراحل ستحين أولاها في بداية الشهر الثاني من العملية التفاوضية، على أن تخلو قائمة هؤلاء السجناء من مواطنين فلسطينييين من الداخل (48)! كذلك فإنه، أي «الإجماع»، لا يشترط حتى رفع الحصار المميت المفروض على 1.8 مليون فلسطيني في قطاع غزة! وكأن حربي 2009 و2012 لم يحصلا! وكأن دماء 1443 شهيداً و5000 جريح في الحرب الأولى، و 200 شهيد و800 جريح في الثانية لم تغيّر حتى المطالبة بتحسين شروط الاضطهاد الإسرائيلي!
دعك من المطالبة بالبدء بالسماح للاجئين بالعودة تدريجاً كشرط أساسي للعودة إلى طاولة المفاوضات.
ذلك هو «الإجماع» الذي يتمحور حوله خلاف كبير داخل قيادة الشعب الفلسطيني، «إجماع» أوضح الصورة الكاريكاتورية التي وصلت إليها حالة التمثيل الفلسطيني الذي يفتقد لألف باء الديموقراطية بكل أشكالها، الشعبية أو التمثيلية أو حتى الثورية. هل ستنسحب الفصائل الفلسطينية من اللجنة التنفيذية للمنظمة؟ هل لديها القدرة والآليات التي تمكنها من سحب البساط من تحت أقدام من قرر العودة لطاولة المفاوضات، وبالتالي تصبح مفاوضات «فتح» فقط وتفقد صدقيتها بالكامل؟ أم سيُرضَخ، كالعادة، وبعيداً عن الإرادة الشعبية، واعتبار أن تحسين شروط الاضطهاد القاسية كما يقدمه كيري، وكما جرى تسويقه من خلال اتفاقيات أوسلو، «بداية تطبيق المشروع الوطني الفلسطيني وقيام الدولة الفلسطينية»/ البانتوستان؟!
* محلّل سياسي، عضو اللجنة التوجيهيّة للحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل