رغم ارتفاع ضجيج التهديد بصواريخ توماهوك الأميركية تُطلق على مواقع الجيش السوري من البحر والجو، فالولايات المتحدة ماضية في سياستها المعروفة حيال الأزمة السورية. وهذه السياسة تتلخص في مواصلة استنزاف قدرات سوريا وعبرها حلفائها وخصوصا إيران، لأطول مدة ممكنة. ولقد اقتضى هذا الأمر أن «توفّر» الولايات المتحدة، ما أمكنها ذلك، شروط استمرار هذا الصراع الخطير الدائر في كل الأراضي السورية تقريباً. وكان من شروط استمرار الصراع منع الانخراط الجدي في المساعي السياسية وذلك بأشكال متنوعة: المطالبة المسبقة برحيل الرئيس بشار الأسد. التفسير الاحادي لما يجري الاتفاق عليه مع القيادة الروسية.
حجب التسليح عن معارضي النظام بذريعة وجود متزايد لجماعة «القاعدة» في صفوفهم. غض النظر عن الدعم السعودي والتركي والقطري المتعاظم لاطراف المعارضة بمن فيها «جبهة النصرة» وسواها من التنظيمات المتطرفة وذات الصلة الوثيقة بأجهزة الاستخبارات السعودية والقطرية والتركية.
ظلّت الولايات المتحدة تنسج على هذا المنوال، إلى أن بدأ ميزان القوى يتغير، نسبياً، لمصلحة النظام بدءاً من معركة استعادة مدينة القصير وجوارها في حزيران الماضي. حينها دعمت الإدارة الأميركية شعار تعديل التوازن وماطلت في التحضير لجنيف 2، أي للمؤتمر الذي كان يستهدف، في دورته الثانية، تنظيم حوار مباشر، برعاية أميركية ــ روسية بين ممثلي النظام والمعارضة من أجل توفير شروط ومواصفات حل سياسي يخرج سوريا من أزمتها القاتلة الراهنة.
إن نجاح وتطوير محاولات النظام السوري استعادة مواقع أساسية في «ريف دمشق»، أيضاً، هو ما فرض على واشنطن، ومع ارتفاع وتيرة الضغوط السعودية بالدرجة الأولى، تعليق التحضير لجنيف 2، والانتقال إلى تنظيم سلسلة تحركات واجتماعات من أجل دعم المعارضة ومنع استمرار تقدم قوات النظام وحلفائه، بكل ما يعني ذلك من نتائج. والنتائج المقصودة هي الإخلال بشروط إطالة أمد استنزاف النظام وحلفائه، وليس بشروط بلوغ حل سياسي مقبول من المعارضة كما كانت تعد أو تدعي واشنطن.
لقد حصلت مجزرة «الكيميائي» في هذه الشروط. ويجب ملاحظة أن دعاة تنفيذ عملية عسكرية أميركية ــ غربية ضد النظام السوري، هم أول من «قرر» الرد! وهكذا وفيما كان الرئيس الأميركي يستجلي المعطيات، ويفكر في الاحتمالات وفي أشكال التعاطي مع المجزرة المروعة، كانت مراكز اعلامية وسياسية متعددة، تضع السيناريوات وتحدد ساعة الصفر جازمة بأنّ «الخط الأحمر»، الذي حدّده أوباما قد جرى تجاوزه وجازمة أن النظام هو من نفذ المجزرة، وجازمة بأن الحرب سريعة وآتية لا ريب فيها!
في الجانب الثاني من المشهد، كان ثمة قلق متصاعد في واشنطن بسبب اصرار القيادة الروسية على ممارسة دور مستقل عن واشنطن. ذلك أنّ القيادة الروسية ذهبت بعيداً في رفض سياسة، سماها الرئيس الروسي مبكراً وتكراراً، بأنها سياسة «تفرد دولة واحدة بإدارة شؤون العالم» (منذ غزو العراق عام 2003). وها هي موسكو ومعها تحالف دولي يتسع باستمرار (شبه تحالف سياسي واقتصادي وعسكري يضم محور دول البريكس ومحور «الممانعة»...) تفرض نفسها لاعباً دولياً وفاعلاً. وهي في طورها الراهن، قد انتقلت من تعطيل محاولات واشنطن اضفاء مشروعية دولية على تحركاتها وسياساتها، إلى تسجيل نجاحات في غير ما مكان من العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، بحيث أنّ الأدوار تكاد أن تتبدل على نحو دراماتيكي. فبعد أن كانت واشنطن هي التي تتدخل وتقلب المعادلات، ولو موقتاً، ها إن موسكو الآن، هي من يفعل ذلك!
بالتأكيد هذا هو ما يقلق واشنطن بالتحديد. وهذا ما استدعى أن يلغي الرئيس الأميركي القمة التي كانت ستجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً. أما مسألة استخدام السلاح الكيميائي فأمر ثانوي في سياسة واشنطن سواء استخدمته المعارضة أم استخدمته السلطة، طالما لم يخلّ بالتوازن الذي من شأنه أن يطيل أمد الحرب ومعه مواصلة تدمير سوريا واستنزاف حلفائها وفي طليعتهم إيران.
ثمة اذن، ومن وجهة نظر واشنطن، ما يستدعي تدخلاً أميركياً لكبح جماح «سيد الكرملين» الذي «يغذي العداء ضد واشنطن» كما وصفه القادة الأميركيون. وحيث إن التدخل في الشأن السوري بات معلناً ومباشراً وممارساً من قبل خصوم واشنطن، فعلى الولايات المتحدة أن لا تتأخر في تأكيد حضورها، وإذا أمكن، التذكير بدورها وبتفوقها التقليدي الذي لم يتراجع أو يهتز. هذه حسابات، كما قلنا، لا تقيم وزناً لعذابات الشعب السوري وأطفال الغوطتين، بسبب استخدام السلاح الكيميائي أو قبل استخدامه. إنها تعبير عن معركة تُحركها مصالح كبيرة تمتد على رقعة واسعة من العالم: بدءاً من الدرع الصاروخية في بولونيا وتشيكيا وصولاً إلى شمال أفريقيا وأميركا اللاتينية. أما عناوينها فالطاقة والأسواق والثروات الطبيعية. وأما أدواتها، فالجيوش والأحلاف والقواعد العسكرية ومنجزات التكنولوجيا في حقول الاتصالات والتجسس. وكذلك الاعلام ومؤسساته العملاقة التي توظف وتسخر امكانات وكفاءات هائلة.
للأسف، ثمة في هذه المواجهة من يخوض المعركة بالسلاح فقط. وبالأمن، وبالأمن فقط، رغم أن المعركة شاملة، وهي تدور حول حرية الوطن والمواطن وحول السيادة والتنمية والاستقلال والدفاع عن الثروات الوطنية. وليس على الضحية فيها أن يتحول إلى جلاد على مذبح فئويات ومصالح صغيرة
* كاتب وسياسي لبناني