تناقلت منذ مدة وسائل الإعلام خبراً عن لقاء حصل بين قادة من «الجيش الحر» ومسؤولين من النظام. الخبر الذي لم يحظ كثيراً باهتمام وسائل الإعلام، يذكّر بشريط فيديو لمجند سوري (مصطفى شدود) رمى سلاحه واتجه نحو «عناصر مسلحة». وقال لهم «أنا من وطننا من سوريا»، لأن ما يجمعهما هو إيقاظ الروح الوطنية لدى السوريين جميعهم، بأن سوريا تجمعهم وتوحدهم رغم كل ما فعلت الحرب، وأن الضفتين المتخاصمتين يمكنهما أن تلتقيا من دون حاجة إلى وسيط ثالث، حين تجمعهما الوطنية المتوافرة في القواعد الشعبية، التي لا تكترث لحسابات الدول والسياسة وتحوّلاتها، على عكس القيادات التي تحكمها مصالحها الشخصية وارتباطاتها الخارجية، من الطرفين المستبد والمعارض.الخبر الأول ليس عادياً أبداً، وخاصة حين يقرأ ضمن سياق ما بلغته الأزمة السورية من تعقيد وضع الجميع أمام الحائط المسدود، فالصف الوطني الديموقراطي في المعارضة السورية (بما في ذلك ديموقراطيو الائتلاف الذين أيدوا القاعدة وتنظيماتها الجهادية وأسكنوها في حاضنة الثورة قبل أن تنقلب عليهم) بات محاصراً بين النظام والقوى الإسلامية والقاعدية الصاعدة، والتي أعلنت مشروعها علناً، والنظام بات عاجزاً عن الحسم يتوسل دعماً يوصله إلى جنيف بأقل الخسائر الممكنة من دون أن يفكر بسوريا لحظة واحدة، والتنظيمات الإسلامية/ الجهادية تنتظر حرباً مؤجلة ضدها ستأتي مهما تأخرت.
رغم كل التعقيد الذي حصل، فالأمر أكثر وضوحاً الآن، حيث تعرّت كل الأجندة، لنكون أمام ثلاثة مشاريع تتصارع، وهي: الوطني الديموقراطي والاستبدادي والإسلاموي.
لدى المشروع الإسلاموي داعموه الكثر، بدءاً من أنقرة والرياض والدوحة، وليس انتهاءً بالدول الغربية التي لا تريد دولة ديموقراطية وإن تبجحت بهذا الكلام، لأن سياساتها وتدخلاتها في الشأن السوري ساهمت في صعود هذا المشروع على حساب المشروع الديموقراطي الذي لا يريده أحد، حيث عملت الدول الإقليمية التي دعمت الثورة على حرف مشروعها الديموقراطي نحو الإسلاموي نظراً إلى خطر الأول عليها، خشية من امتداد الربيع الديموقراطي إليها فعملت على محاصرته في الأرض السورية. ومن هنا، فإن دولاً مثل إيران وروسيا والصين تصبّ سياساتها في خدمة المشروع الإسلاموي، لأنها لا تريد دولة ديموقراطية في سوريا أيضاً، ولأنّ الأولى (إيران) بوقوفها إلى جانب النظام توفّر للقاعدة وغيرها المادة الإيديولوجية التي يحتاج إليها (سنّة بمواجهة الشيعة)، في حين توفّر روسيا والصين عملية تحويله إلى عدو عالمي، فيتغذى من الأضداد الداخلية والخارجية، وهو ما يبدو واضحاً من الحديث الروسي المتواتر والمتخوّف من الصعود الإسلاموي في المنطقة.
وفي الوقت الذي يُدعم فيه المشروع الاستبدادي من إيران وروسيا والصين وبعض الدول الأخرى بانتظار تبلور بديل يجمّل الاستبداد لا أكثر، فإن المشروع الديموقراطي يغدو يتيماً من دون أي دعم خارجي ومن دون أي سند داخلي عسكرياً، ومن دون القدرة الحقيقية على معرفة قوته على الأرض بشكل فعلي، وإن كانت القراءة الأولى تقول إنه الأكثرية، ولكنها معطلة كقوة لسببين: السياسات الخاطئة والتحالفات السياسية التي عقدها «الديموقراطيون» خاصة بتحالفهم مع الإسلاميين الذين قلبوا الطاولة على الجميع (انظر تحولات كمال اللبواني وميشيل كيلو!)، وضعف الثقافة الديموقراطية التي تتجلى باستخدام براغماتي للديموقراطية يفرغها من محتواها.
أمام هذه التعقيدات والتشابكات، يغدو البحث عن حل أمر أكثر تعقيداً، وخاصة بعد رفض الجيش الإسلامي و«داعش» والمجلس الوطني (الذي كان كارثة الثورة بامتياز) الذهاب إلى جنيف، لنكون أمام حائط مسدود يدفع باتجاه البحث عن منافذ أخرى.
هنا تأتي حادثة لقاء عناصر من «الجيش الحر» مع مسؤولين سوريين لتفتح خيط أمل صغيراً في الدائرة المغلقة، عبر طرح سؤال كبير: هل بإمكان السوريين حقاً أن يتوصلوا إلى حل بمفردهم، وينقذوا وطنهم من براثن التدخلات الخارجية التي سيكون لها ثمنها الباهظ عبر رهن المستقبل كما دمر الحاضر؟ ليقلبوا الطاولة على الجميع؟
ولكن، كيف يمكن البحث أساساً في هكذا احتمال، إن كان وزير الخارجية «المعلم» رفض الحديث عن تسليم السلطة، في الوقت الذي ينصّ فيه جنيف على نقل السلطة إلى حكومة انتقالية، وهو تحت الضغط الدولي، فهل سيقبل بذلك من دون ضغوط؟ وهو الذي رفض الأمر طيلة سنتين ونصف سنة؟
في البحث عن سؤال كهذا، تقع الكرة في ملعب النظام بالدرجة الأولى: فهل تغيّر النظام أو أجبرته الثورة على القبول بانتقال ديموقراطي ومقاربة التسوية عبر أسس وطنية بعيداً عن مصير الأشخاص كائناً من كانوا؟
لعل قبوله بلقاء جنود من «الجيش الحر» الذي لا يعترف به علناً ويعتبره «إرهابياً» يدل على تحوّل ما؟
ومن الجهة الأخرى، هل تستطيع المعارضة (ولو عبر بعض أطيافها) مقابلة هكذا خطوة بخطوة أجرأ، متحدية التخوين الإعلامي المفبرك الذي ستتعرض له، وهي تعرضت له ولا تزال؟
الأمر لا يحتاج إلى أكثر من خطوة فعلية أولى من النظام، تعلن قبوله بالانتقال الديموقراطي للسلطة وفق تسوية تاريخية لا تأخذ مصير أي شخص بعين الاعتبار، تتبع بخطوة حسن نية كبرى لطمأنة المعارضة، شرط أن تكون التسوية تقارب البنية العميقة الأمنية للنظام لتفككها بما يخص الداخل السوري وتبقيها في ما يخص التعامل مع أزمات الخارج والصراع العربي/ الإسرائيلي والإرهاب الحقيقي. هل يمكن؟
بنية النظام العميقة وطبيعته كنظام مستبد، تقول لا، والمراهنة الوحيدة تبقى على «تخلخل» هذه البنية التي قد تدفعه باتجاه القبول، فهل في لقائه مع جنود من الجيش الحر ما يدفع باتجاه ذلك، أم أنه مجرد «حلم ليلة صيف»!
أيّ حل وطني (شرط أن يكون حلاً لا خزعبلات لتجميل الاستبداد)، يبقى أفضل من الحلول الخارجية التي ترهن سوريا ومستقبلها، فهل لا يزال في هذا البلد «رجال دولة» (من السلطة والمعارضة) يأخذون سوريا إلى مكانها الذي تستحق، ليحفظهم السوريون في قلوبهم أبد الدهر! علماً بأن الحل الوطني يمكن أن يكون في جنيف أيضاً، إن استطاعت القوى السورية (سلطة ومعارضة) تحييد التدخل الخارجي ووضع مصلحة سوريا كوطن بنداً أول على طاولة التفاوض.
* شاعر وكاتب سوري