يُعمَل في بعض الأزمات الإقليمية، وخصوصاً عندما تتأزّم العلاقة بين بعض الأنظمة الخليجية وإيران، على استحضار مفهوم «الشيعة العرب»، والتركيز عليه في الخطاب الرسمي لتلك الأنظمة، ونخبها، وإعلامها... وذلك بهدف القول للشيعة العرب، إن ولاءكم يجب أن يكون للأنظمة التي تعيشون في ظلّها، وإنّه لا يصحّ أن تكون لديكم تلك العلاقة المميّزة مع إيران، وإنّه يجب أن تقفوا إلى جانب تلك الأنظمة التي تحكمكم عندما يستعر الصراع بينها وبين إيران.
بدايةً، قد يصحّ القول بوجود أزمة علاقة بين عامّة الشيعة العرب وبعض الأنظمة العربية والخليجية تحديداً، لكن يصحّ القول أيضاً بأن هذه الأزمة هي جزء من أزمة أعمّ وأشمل، هي أزمة العلاقة بين مختلف مكوّنات الاجتماع السياسي العربي والإسلامي، وخصوصاً بين السلطة وعامة الشعب، حيث إن الحاكم على تلك العلاقة هو الصراع على السلطة، والشرعية الدينية والسياسية، والثروات، والإستئثار بجميع ذلك، لمن نال السلطة، والاستبداد في الحكم وإدارة الدولة... وثقافة سياسية واجتماعية، تحيل أي اختلاف إلى صراع، وتنازع، وإعمال لمنطق الغلبة والتغلّب.
وما يميّز أزمة العلاقة مع الشيعة العرب أمران: الأول وجود بلد قريب ومجاور اسمه إيران، هويته الرسمية هي الهوية الإسلامية الشيعية. والثاني، تلك الرؤية التي تسكن أكثر من عقل سياسي واجتماعي تجاه الآخر و"الغير" الطائفي، أو الأقلّيات، بما فيها الشيعية، حيث يختلط في تلك الرؤية المذهبي مع التاريخي، وهو ما أسهم في تعقيد تلك العلاقة أكثر، تاريخياً وحاضراً، بين مختلف تلك الأنظمة الرسمية ونخبها من جهة، والشيعة العرب من جهة أخرى، حيث كان يغلب على تلك النظرة إليهم البعد المذهبي وغير المذهبي، لتؤول هذه الغيرية في أكثر من موطن، إلى الانتقاص من هويتهم الوطنية أو العربية أو الإسلامية، وبالتالي من دورهم في الشأن العام، ومشاركتهم السياسية وغير السياسية. بل قد ينعكس ذلك في أكثر من تمييز، أو إقصاء، أو اضطهاد، كما يحصل في بعض المجتمعات الخليجية، حيث تركيبة السلطة والثروة هي تركيبة عائلية، فيصبح معها أي آخر أو "غير" تهديداً محتملاً، فكيف إذا كان أكثر غيرية، كما هو شأن الشيعة العرب، نتيجة العامل المذهبي. وهو ما يتبدّى في الموقف العام لتلك الأنظمة من الشيعة العرب، فحيث هم أكثرية في بلدانهم، غير مقبول أن يحكموا، ولو بالشراكة، وحيث هم أقلّية، ممنوع عليهم أن يعارضوا، ولو بالسلمية.
يختلف معنى أن تكون
عربياً بين عقل الأنظمة العربية وثقافتها

ومن هنا لا بدّ من القول إن الذي يتحمّل بالدرجة الأولى مسؤولية تلك الأزمة وتداعياتها، هو تلك الأنظمة الرسمية العربية ونخبها، لأنّه عندما لا يكون في سياسات تلك الأنظمة تجاه الاجتماع الشيعي العربي، من مجال للحريات على أنواعها، والحقوق المواطنية، والمشاركة... فمن الطبيعي عندها أن يؤدي ذلك إلى نشوب أزمة علاقة بين تلك الأنظمة الرسمية، وذلك الاجتماع الشيعي.
مع أنّه في المشهد السياسي العام، ورغم ما يعانيه ذلك الاجتماع الشيعي في أكثر من بلد عربي، من إقصاء، أو تمييز، أو حرمان الحقوق المواطنية، فإن أقصى ما يطالب به الشيعة العرب هو أن يعامَلوا كمواطنين، دون انتقاص من حقوقهم المواطنية، وأن يكون لهم حق المعتقد، والتعبير عن الرأي، ودورهم السلمي، ومشاركتهم في الشأن العام، حيث إن أبعد ما يذهبون إليه، هو إصلاح النظام السياسي ـ كما في البحرين ـ أو تحصيل حقوقهم المواطنية ورفع الظلم، والاضطهاد، والتمييز عنهم ـ كما في المملكة العربية السعودية ـ حيث لم يردّ على هذه المطالب، إلّا بمزيد من الإمعان في السياسات الخاطئة بحقّهم.
ومع ذلك، فإنّ ذلك النظام الرسمي العربي، يسمح لنفسه، بإنتاج خطاب موجّه إلى الشيعة العرب، يذكّرهم فيه بأنّهم عرب ـ وهي كلمة حق يراد بها أمر آخر ـ حيث يضحي معنى أن تكون عربياً، هو الاصطفاف إلى جانب هذا النظام الخليجي أو ذاك في سياساته، ظالماً كان أو مظلوماً، بل وعدم ممارسة الحق في النقد، أو الاعتراض على سياسات هذا النظام أو ذاك، سواء على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، والتنازل عن المطالبة بالحقوق المواطنية، أو الحريات، أو المشاركة، أو العدالة، أو الإصلاح، والامتناع عن النضال السلمي لإيقاف كل سياسات التمييز والاضطهاد التي تمارس بحقهم...
وإذا ما حصل أي من ذلك، فإنّ من أبسط التهم التي توجّه إلى من يخرق تلك الحرم، أنّه ليس عربياً، فضلاً عن تهم الصفوية، والمجوسية، والرافضة، والتبعية لإيران، وكل أشكال الإرهاب النفسي والفكري والإعلامي والديني والمذهبي...
والذي لا ترغب تلك الأنظمة في إدراكه، هو أن تطوّر العلاقة، بين تلك المجتمعات العربية، وحركات التحرّر والمقاومة ضد إسرائيل من جهة، وبين إيران الجمهورية الإسلامية من جهة أخرى، كان أمراً منطقياً، لأن أولئك العرب ـ من فلسطينيين أو لبنانيين، سنّة أو شيعة ـ الذين احتلّت إسرائيل أرضهم، واعتدت عليهم، عندما وجدوا أن أشقاءهم العرب، من تلك الأنظمة العربية ـ وخصوصاً الخليجية ـ قد تخلّوا عن مسؤولياتهم، وأن الذي وقف، ويقف إلى جانبهم، بنحو صادق وفاعل، هو إيران، كان من الطبيعي أن تنشأ تلك العلاقة الخاصة بين أولئك العرب، الذين يؤمنون بعقيدة التحرر والمقاومة والعدالة، وبين إيران.
من الواضح هنا، أنه يختلف معنى أن تكون عربياً بين عقل تلك الأنظمة العربية وثقافتها، وبين ثقافة المجتمعات العربية، التي تنتهج خيارات التحرّر والمقاومة والإصلاح، وهذا الاختلاف يتعدّى معنى أن يكون المرء عربياً إلى مفاهيم أخرى، كالعروبة، والدين، والإسلام... والتي تلقى من قبل تلك الأنظمة تأويلاً، وتوظيفاً، يتماهى ومصالح تلك الأنظمة، والنظام العائلي القائم عليها.
ومن هنا، إنّ تخصيص الشيعة العرب بتلك الإشكالية في الخطاب الرسمي لتلك الأنظمة، ينطوي على مغالطتين، بل أكثر. الأولى: هي الإيحاء بأن تلك الأزمة في العلاقة مع تلك الأنظمة ترتبط فقط بالشيعة العرب، وهذا غير صحيح. والثانية: السعي إلى تحفيز الوعي المذهبي السنّي، للاصطفاف المطلق إلى جانب تلك الأنظمة، من خلال إعطاء بعد مذهبي للأزمة. وهذا أيضاً غير صحيح. والثالثة: تقديم تأويل لمعنى "أن تكون عربياً"، يقود إلى تعطيل العقل والوعي والفعل، ويؤول إلى الاقتصار على تقديم فروض البيعة والطاعة والولاء المطلق للسلطة ومصالحها، وهذا أيضاً ممّا لا يمكن القبول به.
من الواضح أنّ هذا الاستحضار لمفهوم الشيعة العرب هو استحضار وظيفي، يمارس في إطار خصومة تلك الأنظمة مع إيران، حيث يعمل في إطار تلك الخصومة أو الصراع على توظيف كل الأدوات المتاحة، ليكون الشيعة العرب واحدة من تلك الأدوات، ومن هنا كان استنفار ذلك الخطاب وتأكيده لذلك المفهوم وغيره.
بل يمكن القول إن لجوء تلك الأنظمة وإعلامها ونخبها إلى استحضار إشكالية الشيعة العرب – وبالطريقة التي تحصل – إنّما هو إمعان في سياسات تلك الأنظمة تجاه ذلك الاجتماع الشيعي، وتعبير عن عقليتها ونظرتها إلى ذلك الاجتماع، عندما تكون أولويتها توظيف الشيعة العرب، كأداة في حلبة الصراع مع إيران، أو السعي إلى إيجاد مناخ عام يضغط على تلك المجتمعات الشيعية، لتعطيل دورها الوطني في المعارضة، والتنمية، والإصلاح، والمطالبة بتحقيق قيم العدالة، وحقوقها المواطنية، أو وضعها تحت اختبار الولاء للسلطة والأنظمة الحاكمة. ولا يكون في المقابل لدى تلك الأنظمة، أدنى اهتمام في إصلاح تلك العلاقة مع شعوبها ومجتمعاتها، وتغيير رؤيتها ونظرتها إلى تلك الشعوب، وتوسيع هامش الحرّيات، والمشاركة، وإصلاح النظام، والعناية بتنمية المجتمعات على كافة الصعد.
إنّ ما ينبغي تأكيده، هو أن تلك الأنظمة العربية ـ صاحبة هذا التوظيف ـ ينبغي أن تلتفت إلى أن توظيفها ذاك ينطوي على أمور:
إن إيران تمثّل ـ بالحد الأدنى ـ خصماً أساسياً، أو عدوّاً للعرب، وهو ما لا تقبل به حركات التحرّر والمقاومة في العالم العربي، ولا الشيعة العرب.
الفصل بين المسلمين العرب والمسلمين غير العرب، سنّة وشيعة؛ فعندما يقال الشيعة العرب في مقابل الشيعة غير العرب، ينبغي لهذا الفصل بين العرب وغير العرب أن ينطبق على الجميع، بما فيه الأنظمة والدول. فهل هذا الفصل تمارسه تلك الأنظمة؟ إذاً، فلماذا تعمل على استدعاء دول إسلامية غير عربية، لتقف إلى جانبها، عندما تشتد الخصومة بينها وبين إيران؟
إن الشيعة العرب يشكلون كتلة واحدة، وتجمعهم هوية واحدة، هي التشيّع العربي، ولكونهم شيعة عرباً؛ فهل تقبل تلك الأنظمة بوجود هذه الهوية، مع ما يترتّب عليها من لوازم؟ وإذا كانت تقبل بذلك، فلماذا تقوم قيامتها عندما يبادر بعض الشيعة العرب إلى مساندة مطالب محقّة لشيعة عرب، في قبال تلك الأنظمة؟
أخيراً لا بدّ من إجمال القول بأنّه توجد أزمة علاقة بين الشيعة العرب ـ كما هي حال غيرهم من السنّة العرب ـ من جهة، وبعض الأنظمة العربية والخليجية تحديداً، من جهة أخرى. وهذه الأزمة قائمة، لا من حيث كونهم شيعة أو سنة، بمقدار ما هم شعوب في قبال أنظمة؛ وبأنه لا بدّ من تصحيح تلك العلاقة، ومعالجة تلك الأزمة؛ وهذا يحتاج إلى تشخيص سبب تلك الأزمة، وهو تلك النظرة التقليدية غير السوية، لتلك الأنظمة، وسياساتها تجاه شعوبها ومجتمعاتها، بما فيهم الشيعة العرب.
ولذلك، المدخل الصحيح لعلاج تلك العلاقة، لا يمرّ بمعاداة إيران، ولا يبدأ بالتعامل مع الشيعة العرب كأداة، يجري استدعاؤها وتوظيفها لدى استعار الخصومة مع إيران، بل يبدأ بتغيير تلك الرؤية من كونهم تهديداً محتملاً، أو رعايا مشكوكاً في وطنيتهم، إلى مواطنين لهم جميع حقوقهم، وعليهم جميع واجباتهم.
إن معنى أن يكون الشيعة عرباً، هو أن يعيشوا في أوطانهم، كغيرهم من المواطنين، آمنين فيها، يمارسون جميع حرياتهم، دون تهديد، أو وعيد، أو وصم مذهبي، ولهم جميع حقوقهم دون أي انتقاص منها، ويمارسون دورهم ومشاركتهم في الحياة العامة، لا تلاحقهم سياسات التمييز، والإقصاء، والظلم، والوصم، والاضطهاد، والاتهام، والتشكيك الدائم والوظيفي في كونهم عرباً أو مسلمين...
إن حقيقة المشكلة ليست عند الشيعة العرب، ولا عند السنّة العرب. إن حقيقة الأزمة تكمن في تلك الأنظمة، التي هي من يجب أن يثبت للشعوب العربية، أنها أنظمة عربية، صادقة في عروبتها، وانتمائها العربي. أما مطالبة الشيعة العرب، أو السنّة العرب، بأن يكونوا عرباً، فهو هروب من المشكلة، وتعمية على السبب الحقيقي للأزمة، ومحاولة تضليل لن تنطلي على الشعوب العربية، التي باتت تدرك أن العربي الأصيل هو الذي يقف إلى جانب فلسطين، وقضايا الشعوب العربية، وليس إلى جانب تلك الأنظمة ومصالحها الضيقة، والعائلات الملكية، التي احتكرت السلطة والثروة، وها هي تريد أن تحتكر الآن العروبة، ومعنى أن يكون المرء عربياً.
* أستاذ جامعي