اللاعب الوحيد لم يعد وحيداً. اللعب على الدولة لم يعد في يد المجلس العسكري وحده. معه الأوراق كلها ومفاتيح الماكينات وأزرار تشغيل الأقراص الفعالة، لكنّه لم يعد مقبولاً أن يجلس وحده على الطاولة، ويوزع الورق ويحسم النتيجة. الإخوان دخلوا في اللعبة. لم يطلبوا تغييرها، وساروا خلف غواية أنّهم سيكسبون لعبة الورق بالدهاء الريفي وشطارة أيام الاضطهاد. الغواية أوقعتهم في الفخ.
تصوروا أنّ الدولة كيان فارغ بعد سقوط مبارك وعصابته، وعليهم الآن ملء الفراغ، وهذا ما جعلهم يسيرون على الخطوط التي سار عليها مبارك وحزبه وحاشيته وجوقته. كانوا كالكومبارس الذي يريد أن يحل محل نجوم (لم يكن أيّ منهم يصلح نجماً بالأساس) هكذا بدون إبداع، فبدا الكتاتني يقلد سرور، وتقمصت كل قيادة في الإخوان شخصية ساكن من سكان طرة.
لم يفهم الإخوان أنّ هذه الدولة لا تتسع لقوة معنوية جديدة (قل عنها شرعية أو نقطة ارتكاز أو كما يقولون عنها سابقاً النواة الصلبة). لم يكن ممكناً قبول قوة معنوية أخرى تكتسب قداستها من المرشد أو مكتب الإرشاد (بما يمثله في تركيبة الجماعة بالرمز الديني والسياسي أو المبشر بحكم الدين، أو قائد الجماعة لتحقيق الأستاذية على العالم، أو الخلافة). المشروع هنا مختلف والدولة مختلفة: كيف تصوّر الإخوان أنّهم ليسوا سوى جسر إنقاذ لنظام ميت أصلاً؟ كيف تصوروا أن اللعبة أصبحت لعبتهم والنظام نظامهم، وتصرفوا كما يقول كتاب السلطوية المحفوظ في أدراج الدولة العميقة؟
خسر الإخوان كما لم يخسر تنظيم سياسي، وبدا أنّ الشعب الذي منحهم في انتخابات البرلمان ما يقرب من ٤٣٪ كان يجربهم لكي يعرف آخر ما لديهم. وهم تصوّروا أنّ الأغلبية تمثّل بطاقة حاسمة في لعبة الأوراق، تصوّروا أنّها مطلقة أو تفويض أبدي باعتبارهم وكلاء الله، وليسوا مجرد تنظيم سياسي كان من السهل اكتشاف أنّ خبرته الحقيقية تكمن في التنظيم، وأنّه لا سياسة ولا خبرات فنية لديه.
البرلمان كان استعراضاً مخيفاً لمجتمع عاش في ظلّ دولة حديثة، حوّلها الاستبداد إلى رقع بالية، ويحلم بالعودة إلى الدولة الحديثة. الدولة هي معجزة المجتمع المصري، يتعلق بها ويشعر بالأمان داخل أهراماتها المستقرة. وهذا ما لعبت عليه دعاية الدولة العميقة عندما تصادمت الثورة مع المجلس العسكري، ورغم أنّ الإخوان تحالفوا وقتها مع المجلس ضد الثورة، إلا أنّ هذا لم يوقف نزف شعبيتهم.
هكذا وصل اللعب إلى مرحلة الخطر. المجلس العسكري استقر عبر مساعدة الإخوان، وسيتعامل مع أي رئيس، لكنّه لن يقبل بثقب الهرم أو اللعب في أساس الدولة التي يضمن موقعها فيه، أو ستدفع له بشرعية منافسة غير شرعية السلاح/القوة. والإخوان لا تهمهم الرئاسة كما يهمهم الحفاظ على التنظيم، والانتخابات كانت مقامرة بهذا الاتجاه لجمع شمل التنظيم الذي كان سيتفرق بين المرشحين أو سيتمزق معنوياً بين التصويت للمنشق (عبد المنعم أبو الفتوح) ومن ستختاره الجماعة (ولم يكن هناك اسم يصلح للعب عليه بعد خروج حازم أبو إسماعيل). اللعب الآن تحكمه «غريزة البقاء». والعسكر يملكون تحريك أوراق اللعب أو فتح الباب أمام كل الاحتمالات، لكنّهم لا يملكون الحسم، ولا حتى بصفقة مع الإخوان أو بتحالف جديد أو غواية مختلفة عن التي دخلوا بها اللعبة من أساسه.
الصراع الآن على الكتلة الثالثة. يريدها الإخوان حشداً انتخابياً، ويلعب معها العسكر لعبة الانتظار ليستريح من ضغطها أو ليختبر قوتها. والكتلة الثالثة تتحرك بوعي جمعي ليس له قادة ولا زعماء، لكن لديها أمل في أن لا تخلو اللعبة للاعبين يمنعان اللعب من أساسه. الكتلة الثالثة تريد أن تلعب. لكنها لم تعرف قواعد اللعب بعد. ربما ما زالت في انتظار معجزة بإعادة الانتخابات وعزل شفيق وحل البرلمان ليعود الفراغ السياسي إلى المربع الصفر. وهذا ما يجعل انتظار مداولات المحكمة الدستورية في قانون العزل وحل البرلمان مهماً لدى بعض الحالمين من الكتلة الثالثة. هل تنتظر المعجزة من المحكمة الدستورية؟ هل تتصور أنّ من أدخلك المتاهة سيترك لك في مفترق الطرق خريطة الخروج؟ لا تنتظر الحل من مخرج مسرحية الاستبداد العائد. لا تفكر في الرئيس القادم إن اكتملت انتخابات صممت أن تصل بمن هو أسهل في إعادة بناء الاستبداد. شفيق لن يستطيع إعادة النظام القديم. ومرسي هو ورقة خيرت الشاطر للحفاظ على التنظيم. ليس المهم الفوز بالرئاسة، ولا بتلبية الجماعة لمهمة بناء جبهة سياسية في مواجهة عصابة النظام القديم. المهم هو تقديم مهمة قصيرة يبدو فيها الإخوان في مواجهة الجميع.
إذا فاز مرسي فستكون غزوة جديدة لم تقدم الجماعة شيئاً في مقابلها... وإذا خسر مرسي سيضمن الإخوان عودة إلى دور الضحية، ليبرروا أمام أبناء قبيلتهم/جماعتهم الهزة التي تعرضوا لها.
هناك في قيادة الجماعة من انحاز إلى فكرة الخروج من السباق الرئاسي والانضمام إلى قوى الثورة الرافضة للاستكمال مع منافس مثل شفيق. إلا أنّ كفة خيرت الشاطر غلبت ومعها عواطف المقامر بكل شيء ليحيا التنظيم أو القبيلة.
شفيق هو واجهة مخطط كبير لصناعة الفوضى. تبشر المصادر الأمنية في كلّ الصحف بأنباء عن اضطرابات أمنية في حالة فوز الشفيق وتربطها في خيال تربى على مؤامرات ملفقة برواية الأجهزة الأمنية وعناصرها النائمة عن دور الإخوان في موقعة الجمل.
السيناريو معد أصلاً لكي تكون الثورة ضد شفيق مجرد خطة فوضى جهزها منافسه الإخواني. وهنا تحاول الأجهزة الأمنية الاصطفاف خلف شفيق لتحجز مكانها كضحية الفوضى وتبرر جرائمها القادمة.
انتخابات الرئاسة إذن هي جسور النظام القديم والإخوان لجمع الشمل الداخلي والتنافس على دور الضحية التي تستطيع إقناع القطاعات التي عادت إلى موقع المتفرج بالتعاطف معها في معركة الديناصورات المنقرضة.
المشكلة هنا ليست شفيق أو مرسي، المشكلة هي كيف تكسر العمود الفقري للاستبداد لكي لا يجمع أي منهما اللحم عليه من جديد. مرسي أو شفيق كل بطريقته ومن خلال العصابة أو القبيلة، سيحتل الفراغ السياسي ويحوّل الطرف الآخر إلى منافس أو سند يمنح لاستبداده علامة الفتوة. وهذا سر محاولة تحييد كل من العسكر والكتلة الثالثة.
بما أن العسكر هم واجهة الدولة العميقة وأداتها في استمرار شبكة المصالح الخفية/المافيا، فهم يسعون إلى تأكيد وجودهم المتفرد والقوي وربما الوحيد في مواجهة كلّ الأشكال المدنية... التأكيد كلّه على أنّ المفاتيح بيد العسكر وهنا تبدو لعبة الانتظار: انتظار أحكام الدستورية أو تهديدات الإعلان الدستوري. هي انتصارات تمنح القوة للذي تنتظره والذي بيده الحسم.
العسكر يريدون موقع رعاة الفراغ السياسي. وهنا تأتي أهمية تفكيك الكتلة ثالثة باستذكارها في أحد المعسكرين ليبقى المجال السياسي فارغاً كما كان، ويصعب هندسته إلا على من يرعاه العسكر.
الكتلة الثالثة حائرة، لكن ليس أمامها إلا التنظيم لتبدأ حرب المواقع، وهي الخطوة الأكثر حسماً في الثورات.
الحيرة إذا جرى تبسيطها لتكون بين شفيق ومرسي فستؤدي إلى كارثة تجميع لحم الاستبداد حول العمود الفقري وانتظار ماذا سيفعل بنا الرئيس القادم. والانتخابات فرصة لكي يكسر العمود الفقري للاستبداد أولاً بعد المساهمة في منحه شرعية كبيرة، أو صنع أوهام حوله مثل أنّ شفيق ممثل الدولة المدنية أو أنّ مرسي هو طريق الثورة، وثانياً بعدم الوقوع في فخ البحث عن زعيم. هذه ليست لحظة ولادة الزعماء. لكنّها لحظة أحلام كبرى بالتحرر من كل منظومة الاستبداد، وهنا يبدو التنظيم هو المهمة الأولى بامتياز.



حكايات الدولة العميقة

عندما تحكي الدولة العميقة... اعرفها من الرواة. هذا ما نراه في رواية قتل الإخوان للثوار في موقعة الجمل. ابحث عمّن يروي تعرف ما وراء الرواية... لأنّه ببساطة ليس المقصود أن تصدق الرواية ولا أن تتخيّل أنّ هناك ما يثبت صحتها. المهم أن تخلق رواية من عدم، وأن تصبح محل نقاش لينتشر الشك. وعندما تشك في ما تراه عينك، ليس أمامك إلا أن تنتظر دائماً رواية من يرى الكائنات الخفية ويعرف خريطة الحركة غير المرئية. الحقيقة ليست ما تراه بعينك، ولكن ما ترويه الدولة العميقة.
والدولة العميقة عميقة نفس عمق شبكات الصرف الصحي. وها هي روايتها تستخدم كورقة انتخابية لمصلحة شفيق في مواجهة مرسي. رواتها تجار خرافات ولاعبون قدامى في السيرك السياسي الذي استطاعت فيه الدولة العميقة توظيف أو زرع عناصرها لتنام في صفوف المعارضة والثوار، ليعلو صوتها على الجميع وتتقدم حين يكون المطلوب تبرعات أو تجهيزات، وتصرح وتصرخ لكي تكون عند الطلب صاحبة صدقية وشهادتها هي لشاهد من أهلها.
هكذا انتقلت رواية قتل الإخوان للثوار من خزعبلات الشيخة ماجدة و«اسكتشات» توفيق عكاشة، لتصبح بلاغات أشهر من قدمها هو مصطفى بكري صاحب العروق النافرة الذي يكاد قلبه ينفجر عند ذكر كلمة مصر والذي صفق له الإخوان أنفسهم عندما اتهم البرادعي بالخيانة. هل هناك أفضل من مصطفى بكري ليقدم البلاغ؟
سينسى الناس طبعاً قصائد المديح التي قالها البكري في دور الإخوان لحماية الثورة... وستنسى أنّها رواية عمر سليمان نفسه، مدير الاستخبارات وحامل مفتاح الصندوق الأسود، وصاحب الصفقة مع الإخوان بعد موقعة الجمل، متصوّراً أنّهم قادرون على تفريغ الميدان مقابل منحهم شرعية تصل إلى حد الشراكة الشرفية.
صفقة عمر سليمان ظلت سارية إلى لحظة انتخابات الرئاسة، فلماذا اعتمدت خرافات الشيخة ماجدة لتصبح رواية بوليسية الآن؟ هل هي الانتخابات فقط؟ هل تريد الدولة العميقة فعلاً حرق الإخوان؟ وهل يمكن النظام ترميم توابيته من دون مساعدة الجماعة؟ أم أنّ الرواية كلها من أجل إعادة الإخوان إلى الحجم الطبيعي؟
لا عاقل يمكنه تصديق الرواية البوليسية الخائبة، لكنّها تصلح في جو الشك العام لتمتص الغضب الكبير على أجهزة النظام وتوجهه نحو الإخوان أو بعيداً. وهذا يزرع الشك في كل شيء، وفي المقدمة بطولة وجسارة الثوار ولحظتهم الصوفية في الميدان... هذه رواية من السهل فضحها سياسياً وجنائياً، لكن أثرها الكبير هو ترك صورة المؤامرة تسري باعتبارها حقيقة وحيدة يصبح أمامها كل ما تصنعه مغامرة ناس عاديين من أجل أحلامهم صغيراً.
هذه المغامرة هي الثورة ليس إلا. والروايات المستوحاة من زمن التلفيق ركيكة، لكنّها مثل الأسلحة القديمة جرحها قاتل. ولا نعرف إذا كان شفيق قد بنى حملته على رواية ملفقة. فماذا سيفعل إذا أصبح رئيساً؟



طبخ الكراهية



تبدو خلطة اللجنة التأسيسية في طريقها إلى الجمود مرة أخرى. لكن هذه المرة بعد وصول معادلة الاستقطاب الاسلامي/اللاسلكي إلى الصفر. فالدستور خندق أخير واللعب فيه على الاستقطاب لا يؤدي إلا الى التحصن في الخندق وإعلان التفوق امام جمهور محبط من انهيارات الاسلاميين في معارك ما بعد الخروج من الكهف.
بدت المحاولة الثانية لتأسيس «التأسيسية» على الاستقطاب محبطة اكثر، لأنّها كشفت عن أنّ الإخوان لم يتعلموا سوى الطهي السياسي. الاخوان يقودون السلفيين لطبخ الدستور. هم هواة لا يخجلون من نشرهم للطبخ الفاسد الكريه. من يراهم يتخيّل انّهم فرق جاءت لتعاقب المصريين وتنتقم منهم... يتصورون مقاعدهم خيول ينشرون بها الاسلام في بلد مسلم. يتصورون انفسهم شطاراً فيضعون على طبختهم غطاء للتحلية لإخفاء معالم الطبخة. انّه مزاج متطرف يعادي الدولة الحديثة ويتمسح بها. ينشر طاب التطرف والهوس ويسميه «صحيح الدين»، كأنّ المجتمع هو الفاسد وليس السلطة... أو كأنّ الديموقراطية عقاب سيجعلنا نلعن الثورة.
لقد وقعوا في الفخ الذي نصبته الأيادي المدربة وأعلنوا عن مخطط استيلاء على الدولة وخطفها. مخطط ساذج ويشبه المحاولات المصرية في صناعة افلام خيال علمي. مخطط يعطل الثورة ويمنح للمعسكر فرصة تاريخية للظهور كحامي للدولة الحديثة، وهو الوهم الذي عشناه ٦٠ سنة، ووافقنا من خلاله على المافيا الحاكمة.
إمكانات طهاة الإخوان والسلفيين في التخفي محدودة، ولهذا فإنّهم كشفوا عن البحث على الغنائم واعتبروا أنّ حصة الاسلاميين هي حصة حزبي «الحرية والعدالة» و«النور»، معتبرين انّ الازهر وحزب «الوسط» (بمرجعيته الاسلامية) و«البناء والتنمية» (حزب الجماعة الاسلامية) لها نصيب في الحصة المدنية.
نظام الحصص مدهش وطائفي في مجتمع بلا طوائف، لكنّه وضع يسهل معه التحكم في إيقاع الحراك السياسي بوضعه تحت ضغط الاستقطاب واثبات الهويات، من المدني ومن الاسلامي. اللافتات توضع ويصطف تحتها خليط متشابه. الحصة لا غيرها هي المعيار.
لم يكن وضع الدستور في إطار لعبة توزيع المغانم هفوة عابرة... انّها معركة المعارك. لم يتصوّر أحد أنّ الثورة قامت لتكون جسراً يعلن من عليها دولته. انتصار يتجسد في خطف الدستور من طهاة الكراهية، وهذا ما تؤكده شخصية مثل الدكتور محمد عمارة، أحد هواة العبث في الكتب الصفراء القديمة لاستخراج فتاوى الكراهية والتمييز الديني، وهي هواية لها سحر قاتل. هؤلاء يساهمون في صنع غوغاء يعبدونهم بعد قليل باعتبارهم مخلصين ومنقذين وزعماء دينيين. غوغاء ينتظرون الدفاع عن مقدس، أو الانتقام من عدو، وها هو عدو جاهز، أتباع دين آخر، وشركاء يزاحمون على فتات تبقى من موائد مصاصي الدماء. سحر التطرف يجبر الأزهر على محاولة ملء الفراغ، لتبدو سلطة دينية افتراضية في دين لا يعترف بالسلطة الدينية.
وللدكتور عمارة واقعة قريبة لم تمر عليها سنوات قليلة: حين اعدمت وزارة الاوقاف نسخ كتابه «فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية». الدكتور المشترك في كتابة الدستور يقول بصراحة إنّ المسيحيين (يستخدم الكتاب التعبير القديم: النصارى) كفرة ملحدون، اموالهم ودماؤهم مستباحة. وهي فتوى تقال منذ سنوات على منابر المساجد، وفي جلسات اجتماعية، وترسخت في الوعي مع تراكمات السنين وانتشار عقل القبيلة الذي ينفي الآخر، ويقصي جارك ما دام لا يشبهك، ويضعك على قائمة الاغتيال اذا خرجت عن «الصورة» التي يرسمها المجتمع لنفسه من وحي افكار تمنع التفكير. وربما ايضاً لأنّه لم يكن من الصعب ادراك انّ اعدام الكتاب كان محاولة إرضاء لشريحة في المجتمع المصري تعيش وتفكر كأقلية، وتعاملها الدولة كأقلية رغم انكار خطابها الرسمي. وكان من الطبيعي ان يتسرب خطاب الاقلية المقبولة على مضض من مجتمع منسجم دينياً من مسلمين، بل وينتمون في اغلبهم الى مذهب السنّة. هؤلاء لا يعرفون عن الأديان أو المذاهب الأخرى سوى فتات، ولم تعد طاقتهم على التحمل تستوعب الأفكار المنسية عن التعدد وقبول الآخر أو حتى الوحدة الوطنية بميراث ثورة 1919 اي انصهار عنصري الامة. رغم انّ الفكرة كان لا بد من تجاوزها الى فكرة مواطنة ودولة متعددة من فترة طويلة. هناك الآن امّة مهزومة، ودولة لا تعرف سوى ترميم الشروخ بركاكة. وهنا يلمع مفكرو الهزيمة. خفافيش الافكار يظهرون في ظلام الهزيمة، ويقودون الجموع المهزومة والمحبطة بغريزة الفتك بالآخر. تحركهم رائحة الدم، وتلعب في خيالاتهم متع تحويل املاك ونساء الجار المختلف الى غنائم حرب وهمية.
هكذا لم تنزعج الدولة وقتها لأن الكتاب صادر عن مؤسساتها الدينية، وبالتحديد عن المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية ضمن سلسلة «قضايا اسلامية» وبسعر تشجيعي (جنيه واحد). انزعجت الدولة لأنّ هناك على الطرف الآخر من فضح تورطها في خطاب الاستبعاد والاقصاء على الهوية الدينية. خطاب الدم الديني السائل في الشوارع اصبح مدعوماً بخاتم الدولة وليس مجرد جماعات متطرفة، او مشايخ مهووسين بتحريض الجماهير العمياء على كراهية الحياة وليس الآخر فقط.
الكتاب كان سيمر وتمر معه افكار تتسرب منذ سنوات في الكتب الدينية، وهي تكفير كل من لا يؤمن بالاسلام. التكفير لا يعني النظرة المتعالية فقط على اتباع الديانات الاخرى، لكنه عملية «اقصاء» سياسي واجتماعي وامر غير مباشر بالقتل واستباحة الدماء والاموال، وربما الطرد خارج البلاد.
فكرة تكفير الاقباط مرت في كتاب عمارة عابرة كأنّها شيء طبيعي. ولم يتوقع هو أن يكتشفها احد. فالغرض من الكتاب شرح فظائع التكفير بين الفرق الاسلامية وتأثيرها على وحدة الامة بالانشقاق. ولكي تكتمل الدعوة لا بد من صناعة عدو، وتحديد هوية الكافر الملحد الذي يخلد في النار بعد الموت، ويستباح دمه وامواله في الحياة. هكذا جاءت فكرة تكفير المسيحيين (واليهود طبعاً) باعتبارهم كذبوا النبي محمد.
اعتمد عمارة فى احكامه (او فتواه) على الامام ابو حامد الغزالي في كتابه «فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة»، واضاف هو من عنده لتشمل الاحكام اليهود والنصارى المعاصرين، اي أنّه استعان بمفكر اسلامي محافظ لمعت افكاره فى ظل حروب دينية ومذهبية ليطبقها على مجتمع محشور منذ سنوات في نفق التحديث. وعندما اثيرت الضجة السياسية وتقدم مرقص عزيز، كاهن الكنيسة المعلقة ببلاغ الى النائب العام، اعتذر اعتذاراً مراوغاً، قال فيه إنّه «استغرب الضجة التى صاحبت صدور كتابه... وفوجئ بمن يردد انّ كتابه به استباحة لدماء غير المسلمين...». واكد عمارة اكتشافه بأنّه اخطأ حين نقل عن الامام ابو حامد الغزالي دون ان ينتبه الى انّ ما نقله يتعلق بإباحة الدم.
هكذا ببساطة نحن أمام اعتذار لا يكلف نفسه بالتراجع عن فكر التكفير، ولهذا لم يقبله اصحاب البلاغ ولم يحل المشكلة. استمر حكم التفكير معلقاً. والكتاب رغم اعدامه اصبح ملكاً لقراء يتلقفون هذه النوعية من الكتب التى تثبت انّهم الاعلى وانّ لعقيدتهم السيادة. انّه ليس كتاباً بل «تذكرة داوود» تعالج النرجسية الجريحة. والدكتور محمد عمارة استاذ متخصص فى تهييج النرجسية وشحن العقول العاجزة عن التفكير بقنابل عنقودية... واذا حذفت كلمة «الاسلام» من بين كلماته ستتصور على الفور انّه يقرأ بياناً للحزب النازي او يلقي واحدة من فرمانات مدير اصلاحية الاحداث. هو يتحدث بمنطق مخيف، فيصدر الأحكام ويوزع الاتهامات ويعطي صكوك الغفران. إنّه «زعيم» بلغة أهل السياسة، و«فتوة» بلغة الشارع، كما كان تقريباً وهو في تنظيمات الماركسيين السرية.
الأديب ابراهيم اصلان حكى بطريقته الساخرة عن الليلة التى اراد بها اصدقاء من عتاة الماركسيين ان يقدموا له هدية. وعدوه بلقاء «شخص خطير» في التنظيم. ابراهيم اعجبته الاثارة وتحرك فضوله للمقابلة فقالوا له: «سنطلب موعداً». في الموعد اكتشف أنّ الأمر ليس بسيطاً. شعر بالرعب والاصدقاء يحكون له عن تأمين منطقة التوفيقية التى سيعقد فيها اللقاء. وشعر وهو يتحرك في الشوارع الضيقة انّه تحت المراقبة واختلط الرعب بالاثارة وانتظر بشغف ليعرف من هو «الخطير». ولم يكن ذلك سوى محمد عمارة. «زعيم مهم» كلّ ملامحه تشي بالخطورة والجدية الفاخرة. يتكلم قليلاً، وينظر بعيداً. وفي كلامه تعليمات حتى وهو يعرض افكاره.
لم يضحك ابراهيم أصلان وقتها (في الستينيات) بل بعدها بسنوات وهو يحكي لي الواقعة بينما اصبح «الزعيم الخطير» يحمل لقب «دكتور» في الفلسفة الاسلامية، ويرتدي عباءة ريفية على بدلة من موديل السبعينيات، ويظهر في الفضائيات باعتباره مرجعاً اسلامياً، وشيخاً لا ترد له فتوى. الشيء الاساسي الذي لم يتغيّر هو لغته الخطابية، وطريقته في تقسيم العالم الى قسمين: «معنا» و«علينا» او بالمصطلحات الجديدة: «معسكر الخير» و«معسكر الشر»، وهي مصطلحات يحبها ويتحرك بها كل من جورج بوش وأسامة بن لادن (قبل أن يموت هذا الأخير).
بهذه الطريقة تكتسب كتابات الدكتور محمد عمارة حضوراً في المراحل المختلفة لأنّها تعتمد على مداعبة الرأي العام، وضبط الافكار على موجات «ما يطلبه المستمعون». هو يسرق الكاميرا والميكرفون بخطاب زاعق، حماسي، ولا يدعو إلى التفكير بل إلى الحشد على طريقة مشجعى مباريات كرة القدم.