التقيته للمرة الأولى في 1970، بصفتي مسؤولاً عن الطلاب في حزب الكتائب، إثر تعيينه وزيراً للتربية في حكومة صائب سلام. وتطوّرت معرفتي به حين ترشح لمقعد الروم الارثوذكس عن دائرة عاليه في انتخابات 1972 النيابية، وكانت الكتائب قد رشحت طانيوس سابا عن المقعد الماروني في الدائرة عينها، غير أنّ الحظ لم يحالفهما في نهاية المطاف.
ما إن انتهت الانتخابات النيابية حتى أَقمت علاقة غير متوقعة مع غسان تويني، بسبب التباعد المزمن بينه وبين الكتائب. صرت المسؤول الكتائبي الوحيد الذي يتردد على مبنى صحيفة «النهار» مرة واكثر في الاسبوع، مما اثار ضغينة ريمون اده، المعروف بخصومته لحزب الكتائب، والذي كانت تربطه بغسان تويني علاقة خاصة تسمح له بالحضور يومياً الى مكاتب النهار، ليتحرى فيها الأخبار ويستمع الى التحاليل ويضمن نشر تصريحه في مكان بارز من الجريدة.
في 1973، اقترحت على صاحب «النهار» اصدار «الملحق الإنمائي» بدل «الملحق المالي والاقتصادي»، فوافق على الفور، وكلفني ادارة الملحق الجديد الذي استمر في الصدور الى حين اندلعت حرب لبنان في 1975.
أتقن غسان تويني فن الاعلام. كانت «مانشيت» النهار هاجسه اليومي يطرحها في «اجتماع التحرير» الذي يعقده بعد ظهر كل يوم، وقد تألف بداية من لويس الحاج وميشال ابو جودة وكمال حاطوم وفرنسوا عقل. ما كان يكتفي «بالمانشيت»، بل كان يحرر ما يعرف «بصدر» العدد، أي الخبر الرئيسي، والى جانب «المانشيت» و«الصدر» كان يهتم بـ«كاريكاتور» بيار صادق، فضلاً عن «افتتاحية» الاثنين، وهي عصارة ما يريد أن تحمله «النهار» الى قرائها.
أدرك باكراً انّ الإعلام مزيج من المعلومات والموقف. كان يصر على الصحافيين أن يستقوا المعلومات من اصحابها. كان كل صحافي في النهار يتصرف كأنّه عضو في حزب، يأخذ التعليمات من «الأستاذ» او «المعلم» كما يسمونه، ويعود اليه بعد اتمام المهمة ليطلعه على التفاصيل، ويقررا ما يقتضي نشره. أما السياسيون، فكانوا يتسابقون على إِخبار العاملين في «النهار» بما جرى معهم بهدف ابراز دورهم وحضورهم.
صحيح أنّ غسان تويني كان يورد كل الاخبار التي تصله، لكن الصحيح ايضاً انّه كان يوردها وفق تراتبية سياسية اختارها بنفسه ولنفسه. يحترم الجميع، إلّا أنّه كان ينحاز لخط يدافع عنه بشراسة، ويعلنه في مقالاته التي تتناقلها السفارات الأجنبية والعربية والمراجع اللبنانية على اختلافها. لم يكن حيادياً، وما كان يحب الحياد. تستهويه المعارك، وكلما اشتدت ازداد عزماً وتألقاً. الامور العادية شأن من شؤون الآخرين، اما الأزمات والتحدّيات، فهي ساحته المفضلة. خاض في الستينيات من القرن الماضي معركة شرسة ضد رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد شهاب و«المكتب الثاني» التابع للجيش اللبناني، دفاعاً عن الحريات العامة في وجه ما سمّاه «العسكريتاريا». حاك وكاظم الخليل صناعة «الحلف الثلاثي»، الذي تكوّن من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده، إبان انتخابات 1968 النيابية، التي أَنهت العصر الشهابي، وأوصلت في 1970 سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية في وجه الياس سركيس بفارق صوت واحد، فكتب مقاله الشهير: «صوت واحد...صوت الشعب».
في مطلع رئاسة سليمان فرنجيه بدا غسان تويني كأنّه الناطق باسم العهد، بعد تعيينه وزيراً للتربية والاعلام في حكومة صائب سلام، التي اطلق عليها تسمية «حكومة الشباب»، لكن سرعان ما وقع الخلاف مع فرنجيه، فغادر وزارة الاعلام وبعدها وزارة التربية، وانتهى به الأمر في السجن لنشره المحاضر السرية لإحدى القمم العربية!
توكلت عنه مع مجموعة كبيرة من المحامين، وزرته في سجنه فوجدته في أحسن أحواله يعطي التعليمات للصحافيين كما لمحاميه. غسان تويني يتألق في المعارك ويضجر عندما تهدأ الأمور. رجل الحركة الدائمة، لا يريح ولا يستريح. صعب المراس، ينهك نفسه والعاملين معه، لكنّه يشعرهم بأنّهم يصنعون الحدث حيناً، ويكتبون التاريخ احياناً. كل من انتمى الى «النهار» يحس بنفسه مختلفاً عن الآخرين بفعل غسان تويني.
أذكر نقاشاتنا التي لم تنتهِ ولن تنتهي حول العلاقات اللبنانية ــ السورية، وهو صاحب الشعار: لا يمكن حكم لبنان ضد سوريا ولا من سوريا، لكنّه في الواقع كان خصماً عنيداً للنظام السوري الذي كان يبادله الخصومة.
كان معجباً باثنين: الرئيس كميل شمعون والإمام موسى الصدر. الاول كان نموذجه في السياسة، والثاني كان نموذجه في الريادة. وفي كل مرة زاره شمعون في مكتبه، كان الفرح يعم ارجاء الجريدة، ويصر على اجلاسه على كرسيه، وكانا يتحاوران بنهم العاشقين. أما الإمام موسى الصدر، فكان له في قلب غسان تويني مكانة عليا، وكان الإمام يأتمن تويني على أسراره، وقد كتب مرة وصيته السياسية حول المحرومين والمقاومة، وأودعها غسان تويني قبل سفره.
حالفني الحظ يوم ذهبت يوماً برفقة «الإمام» و«الأستاذ» الى الجنوب والقرى الحدودية مع اسرائيل قبل اندلاع حرب لبنان. كان الامام يفاجئ الاهالي بقدومه والضيوف، وسرعان ما تتحوّل الزيارة الى مهرجان. يومها فهمت أنّ المقاومة قائد والإعلام جمهور، وقد خصصت «النهار» لهذه الزيارة ملحقاً أكدنا فيها أنّ الجنوب هو قضية كل لبنان.
لن تفوتني في هذا السياق الاجتماعات التي دعا اليها ميشال اسمر في مركز الندوة اللبنانية التي كان يديرها، وكنت من عداد الحاضرين الى جانب غسان تويني ومروان حماده بحضور الامام الصدر ونائب رئيس هيئة الاركان في الجيش اللبناني العميد موسى كنعان. كان الإمام يطالب الدولة اللبنانية بأمر واحد هو بناء الملاجئ للمدنيين، وهو يتكفل واهل الجنوب بمقاومة إسرائيل.
تعلم غسان تويني كل شيء بسرعة، وحاول ان يجدد في كل شيء وفي كل الأوقات. لويس الحاج علمه اللغة، والحياة علمته ادارة الاعمال والناس. أدار جريدته والسياسة من «الطابق التاسع» في النهار، واراد لها في البدايات ان تكون مؤسسة يشارك العاملون فيها بنسبة 35% من اسهمها. ابتدع فكرة الملحق الاسبوعي في 1965 وأناط مسؤوليته بأنسي الحاج، رغبة منه في ابراز الثقافة الى جانب السياسة.
صنع السياسة بالكلمات، وتحوّلت اقواله شعارات لا تنسى، ومنها وصفه حرب لبنان بأنّها «حرب الآخرين على ارض لبنان»، وصرخته في الامم المتحدة: «اتركوا شعبي يعيش»، ونداؤه: «ارفعوا ايديكم عن لبنان».
رفع القلم بوجه الأقوياء، واستخدم سلطته لحماية الضعفاء. لا يرد طلب محتاج ولو اضطر إلى أن يستدين المال ليعطيه للآخرين. تحمل من قدره ما يفوق تحمل البشر: موت طفلته نايلة، مرض زوجته ناديا، مقتل ابنه الثاني مكرم في حادث سير، واستشهاد ابنه البكر جبران في اغتيال غاشم. أصابت هذه الفواجع من جسده المتعب، لكنّها لم تصب عقله الراجح، فدعا في وداع جبران الى التسامح والصفح، رغم ما كان يخالجه من غضب وحزن.
سقط القلم من يده قبل ثلاث سنوات، ولو قيض له ان يكتب لكان قد وقف الى جانب الثورات العربية والتغيير، ولكان قد ذكّر العالم بافتتاحية كتبها قبل نصف قرن تحت عنوان: «ليس بالأساطيل تقام الثورات».
سأتذكر على الدوام ضحكته المشدودة، وسيجارته المشتعلة نوراً، وعقله وقلبه الكبيرين. بغيابه تغيب صفحة من تاريخ الكبار في الوطن.