يربط البعض ظهور الـ«فلسطينو ـــ فوبيا» بمرحلة سقوط الإمبراطورية العثمانية، لكن هذا الربط يبقى ملتبساً، إذا وضعنا في الاعتبار ما تناقلته كتب التاريخ عن رفض السلاطين القبول بدولة يهودية في فلسطين. تعقيدات القضية، وتشعباتها، واستخداماتها، التي أودت بحكام وجاءت بآخرين إلى سدد الحكم، أسهمت في تحديد أشكال لمحاذير التعامل معها، ورهاب تحمل بعض إفرازاتها، ما ترك مبررات لهذا اللبس.
حالة انعدام الاستقرار في المنطقة، على مدى العقود الماضية، التي كانت القضية الفلسطينية سبباً أساسياً فيها، أوجدت ملامح خطاب سياسي قلق، لدى الأنظمة والشعوب. لكن هذه الملامح لم تتحوّل إلى خطاب «رهاب» كما هو الحال عند الكاتب الأردني ناهض حتر، المصر على يساريته رغم قطعه أشواطاً واسعة في الابتعاد عن منهج التحليل العلمي.
الخطاب الذي يتمحور منذ ما يزيد على عقدين ونصف عقد حول المطالبة بإقصاء الأردنيين من أصول فلسطينية، لم يراع معطيات التاريخ والجغرافيا وطبيعة الحضور الفلسطيني في التاريخ الأردني. أبرز الحقائق التي تمخضت عنها هذه المعطيات، أنّ الذين يطالب الكاتب بإقصائهم، ولدوا أردنيين لآباء وأجداد أردنيين، واستحقوا الجنسية بناءً على ذلك. ولا بأس من تذكيره بحقيقة ذكّره بها آخرون من قبل، هي القرار الذي أصدرته الحكومة الأردنية في 1949، أي قبل وحدة الضفتين بعام، حين كانت الضفة الغربية تدار من قبل الحاكم العسكري الأردني، والذي يقضي بتعديل طاول قانون الجنسية الأردني، وينص على أنّ جميع المقيمين في شرق الأردن أو في المنطقة الغربية التي تدار من قبل المملكة الأردنية الهاشمية، ممن يحملون الجنسية الفلسطينية، حازوا الجنسية الأردنية، ويتمتعون بجميع ما للأردنيين من حقوق ويتحملون ما عليهم من واجبات.
تبعات القرار يعرفها حتر جيداً، فقد أُسقطت الجنسية الفلسطينية عن الفلسطينيين في الضفة الغربية، التي أعطاهم إياها قانون الجنسية الفلسطينية، الذي أصدرته سلطة الانتداب البريطاني في 1925.
وحين حاول الأكاديمي جوزيف مسعد تأطير معطيات الجغرافيا والتاريخ وإفرازاتها على تكوّن الهوية الأردنية، لجأ الزميل حتر إلى الشعاراتية والتهويش، سواء بالحديث عن مضايقات تعرض لها نتيجة لأطروحاته الإقصائية ــ لم تخل من نزعات استجدائية ــ أو إعادة اكتشاف العداء مع المشروع الصهيوني في المنطقة. ففي عرف حتر، لا تتم مواجهة الصهيونية، من دون إعادة تعذيب ضحاياها، وإضعاف الكيان الأردني، بتفكيك مكونه الديموغرافي.
تحولات التواريخ التي تحدد أردنية الأردني وفلسطينيته، مظهر آخر من مظاهر تهافت خطاب الـ«الفلسطينو ـ فوبيا». فقد كانت تسبق بعقود عام 1988، وهو عام فك الارتباط الذي تجمع القوى والنخب الأردنية على عدم دستوريته، وامتدت إلى الدولة العثمانية مرة، وإلى منتصف أربعينيات القرن الماضي، وقت قيام المملكة مرة أخرى.
يعيد حتر القفز على التواريخ إلى ما يصفه بتطور المنحى الديموقراطي التقدمي في صفوف الوطنيين الأردنيين لمصلحة الاعتراف بوجود مكوّن فلسطيني بين مكوّنات الشعب الأردني، ما يعني نظرياً أنّ تطوراً آخر في المنحى المقصود سيؤدي إلى استيعاب جميع الأردنيين من أصول فلسطينية.
وبذلك لا يكتفي الكاتب بإقصاء الأردني من أصول فلسطينية عن أردنيته، فهو يقصي أيضاً نظرة أحزاب وتيارات سياسية تاريخية للمواطنة مثل الشيوعيين والبعثيين وفهمهم للهوية الأردنية، من دون أن يحدد ما يعنيه بالوطنيين الأردنيين.
بموازاة هذا الإقصاء، يضع اعتراف الإخوان المسلمين بفك الارتباط غير الدستوري شرطاً لاعترافه بهم كحركة وطنية، رغم أن الجماعة العابرة للقارات تقدم نفسها باعتبارها جزءاً من التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وليست حركة وطنية.
الميول النازية والفاشية التي ظهرت في أوروبا وانتقلت بشكل أو بآخر إلى الخطاب الشوفيني العربي في إحدى الحقب، لم تغب عن خطاب الرهاب الذي يستخدمه حتر.
فهو لا يستطيع تخيّل تعددية اللهجات في المجتمع ويدعو إلى دمجها باعتبار ذلك شرطاً لتوحيد ما يصفه بالتكوين الوطني الثقافي. وهي دعوة لا تخلو من الغرابة إذا وضعنا في الاعتبار تعدد اللهجات في دول الجوار واللغات في بعض الدول من دون أن يؤدي هذا التعدد إلى المساس بالتكوين الوطني الذي يمس عصبه العاري التمييز الديني والجهوي بين المواطنين. تطرح هذه الدعوة سؤالاً افتراضياً عن كيفية رؤية حتر للمشهد لو كان التنوع العرقي والإثني واللغوي والطائفي في الأردن شبيهاً بما هو موجود في دول كالعراق وسوريا ولبنان مثلاً. في المقابل، يرى التنوع الذي يمثله الحضور الفلسطيني في التركيبة الديموغرافية الأردنية عقبة تحول دون تشكيل محور مع نظامين جارين متهمين بطائفيتهما السياسية.
ينتقل صاحب خطاب «الفلسطينو ـ فوبيا» من الرغبة في توحيد اللهجات إلى الدعوة لتوحيد الذاكرة والنظرة إلى الماضي، ليصادر بذلك حق الأردنيين في تنوع الذاكرة والاختلاف في قراءة ماضيهم ومراجعة هذا الماضي حين تظهر حقائق جديدة بين حين وآخر كما هي حال التجمعات البشرية.
لدى استلهامه النموذج الإندونيسي كخريطة طريق لحل ما يعدّه أزمة سياسية ــ ديموغرافية، يقترب حتر من تفكير اليمين المتطرف في إسرائيل والطرق التي يتبعها في تهجير الفلسطينيين. فهو يدعو إلى إدماج الشرق أردنيين في الاقتصاد الحديث، لكنّه لا يلتفت إلى شعور الأردنيين من أصول فلسطينية بحرمانهم الوظائف الحكومية، وحق العمل في مرافق حساسة، وقلقهم من السحب العشوائي لأرقامهم الوطنية.
اندفاع الخطاب لتسويق فكرة حرمان نصف الأردنيين هويتهم يوقع صاحبه في متاهات مفاهيمية وعبارات متنافرة كأقطاب المغناطيس المتشابهة. ففي أدبيات هذا الخطاب، يجد القارئ مثلاً عبارة «الحركة الوطنية الشرق أردنية» ويضطر إلى الوقوف أمام علامات استفهام كبيرة حول إمكانية الجمع بين جهوية الحركة الشرق أردنية ووطنيتها. نعلم أنّ هناك حركة وطنية تاريخية في الأردن، قادت نضالاً ضد الوجود البريطاني، والأحكام العرفية، وكانت مكونة من شتى أصول الأردنيين، واستطاعت إسقاط حلف بغداد. ولا تزال هذه الحركة بشيوعييها وقومييها تخوض نضالها ببعديه السياسي والمعيشي، لكنّنا لم نسمع عن حركة وطنية لنصف الأردنيين، لأنّها إذا كانت كذلك، فستتحوّل تلقائياً إلى حركة جهوية أو عنصرية.
تحت تأثير رهاب «الفلسطينو ـ فوبيا» اعتاد حتر أن ينتقي من مؤتمر أم قيس، دعوته إلى إقامة دولة فلسطينية، إلا أنّه لا يتوقف مثلاً، عند مطالبة المؤتمر بقضاءي صور ومرجعيون، ولا يتعامل مع الهوية باعتبارها حالة من الصيرورة الدائمة، والدولة القطرية المأزومة بوصفها نتاجاً لعملية تقسيم، في منطقة لا تزال قابلة لإعادة إنتاج التقسيم، على أرضية مصالح القطب الكوني الوحيد والأقطاب الناشئة. يظهر ذلك فقدان خطاب الـ«الفلسطينو ــ فوبيا» لأي بعد فكري أو معرفي، ويبرز جوهره العنصري، ووظيفته الحقيقية، كمادة تحريضية، على افتعال أزمات في المجتمع. ومثل هذه الوظيفة لا تبتعد كثيراً عن وظيفة الخطاب الذي كان سائداً في لبنان قبل الحرب الأهلية، ويتساوق أيضاً مع وصف الوزير نقولا فتوش للفلسطينيين بأنّهم نفايات بشرية، واتهامات جبران باسيل لهم بأنّهم باعوا بلادهم، التي وجدت من يردّ عليها في الصحافة اللبنانية.
* كاتب وصحافي من الأردن