يعلن اليسار الثوري، المنخرط بالصيرورة النضالية، القطع مع مرحلة اليسار التقليدي. لكنّه في الحقيقة، لا يعلن القطيعة بقدر ما يعلن أفول مرحلة ركود طويلة، سبقت ولادته، التي لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا اندلاع الثورة الشعبية السورية. ومهمة هذا اليسار لن تكون بأيّ حال من الأحوال، بسيطة وسهلة، وإنما على غاية في التعقيد والصعوبة، لما يحيط بهذه الثورة من مخاطر، يمكن أن تتهددها وتدفع بها إلى انزلاقات وتحوّلات خطيرة، تضع اليسار الثوري أمام مسؤوليته التاريخية. قبل الشروع بالحديث عن مهمات اليسار الثوري، لا بد من وقفة نقدية، تأملية لأحواله قبل الثورة، ولا سيما أنّه ساد شكلان لليسار: اليسار التقليدي، العقائدي، الذي كان يعاني حالة من الهرم والشيخوخة ودوره لا يعدو أن يكون واجهة أو ديكوراً يبرر للسائد ويعمل على تكريسه، إضافة إلى التناقض بين الوسائل والغايات التي حكمته. بمعنى أنّ بنية الأحزاب هي العقبة بوجه غاياته وقيمه الكبرى. فضلاً عن التعامل بوعي ميتافيزيقي، فقهي، صنمي مع مقولات الاشتراكية والتحرر الوطني والانفصال بين الفكر والممارسة التي حوّلت العلاقة بالحزب إلى دور أداتي وظيفي، عرقلت تسييس الجماهير وبالتالي لم تستوعبها في تنظيم سياسي يكفل لها القوة والنضج، فكانت الهوة بين تطلعات الجماهير الجذرية وواقع الأحزاب الإيديولوجي التنظيمي والسياسي.أما الشكل الآخر لليسار، فهو اليسار الليبرالي، الذي أعطى الأولوية في خطابه للحرية والديموقراطية ببعدها السياسي، من دون أن يقرنها بالمسألة الاجتماعية، وعمل على تطهير خطابه من كل ما يمت إلى الطبقات والصراع الطبقي بصلة. كذلك غرق في الثرثرة المجانية حول الديموقراطية والمجتمع المدني، وسيطر عليه وهم أنّ الليبرالية الاقتصادية تقود حتماً إلى الليبرالية السياسية، وكأنّ البورجوازية الريعية معنية بالتحوّل الديموقراطي. ولم يدرك مناصرو هذا اليسار للحظة أنّ الديموقراطية ثورة، كما يقول فواز طرابلسي، وليست عقيدة مثقفين هاوين يلتمسون إجازة من الحاكم، تسمح لهم بالنضال، كما قال ياسين الحافظ. إنّ الديموقراطية لا ترسم قبلياً بمعزل عن الظروف الواقعية لنضال الجماهير، بل ترتبط عضوياً بنمو حركتها في العمق والاتساع وبالشروط المحلية والعالمية لهيمنة النيوليبرالية والتوسع الرأسمالي. إذ وجد المثقفون الخلاص، بحرية منعزلة عن شرطها الواقعي، أي الحراك الشعبي، لتتحوّل هذه الحرية المنعزلة إلى حرية أفراد مالكين، يتساوون مع العامة أمام صندوق الاقتراع، لكن في مجال الإنتاج يكون التفاوت صارخاً بين الاثنين. والنتيجة أنّ عدم المساواة الاقتصادية تؤدي إلى انحسار الديموقراطية السياسية لا الليبرالية الاقتصادية، وهي عدو الديموقراطية الأول. ومن هنا برزت أهمية اقتران الحرية بالعدالة والمساواة، وذلك عبر الانخراط الشامل في التغيير، لأنّها قضايا مطلبية، تنتزع انتزاعاً ولا تمنح بشكل فوقي.
اليوم لا بد من الاعتراف بأنّ شماعة اليسار التاريخية، أي النقد الذاتي فقدت مبرر وجودها ككفارة ذنوب اليساريين لتتعين واقعياً على شكل ممارسة سياسية، حزبية، عملية، تنهض باليسار إلى مصاف الحزب الطليعي، الملتحم بشعبه بعد قطيعة طويلة معه. حزب يبدأ وفق هذه الممارسة النضالية بتنفيذ ما دعا إليه النقديون، الذين ضاقت بهم صدور الأمناء العامين للأحزاب التقليدية في ما مضى، ولا يكون التنفيذ إلا وفق رؤى، وخطط عمل وبرامج مرحلية للنضال. وهذا بدوره ينقلنا إلى التعرض للمهمات الملقاة على عاتق اليسار الثوري. ولا يمكن تحديد المهمات من دون التطرق للاخطار والتحديات الحقيقية التي تحيط بالثورة الشعبية السورية.
أهم الأخطار هي الإمبريالية العالمية وصراعاتها في ما بينها على تقاسم المصالح وحلفائها من البورجوازيات الريعية، التي وصلت إلى السلطة بانقلابات عسكرية واغتنت وتحولت إلى تجارية، مالية ريعية، أفرزت فئة مهيمنة أو زمرة مافيوية عائلية، وغلفت هذا النهب والاحتلال للسلطة بأيديولوجيا عروبية، أو دينية كرستهم حكاماً أبديين دهريين. هاتان القوتان، أي الإمبريالية والبورجوازية الرجعية، تعملان بشكل حثيث وممنهج لتطييف الحراك الشعبي وإلباسه لبوساً طائفياً، إن من خلال الدعم المباشر للسلفيين الجهاديين، أو من خلال التوظيف المباشر للإعلام في الصراع الجاري اليوم. وطبعاً لا يمكن الاستهانة بقدرات الإمبريالية وحلفائها على حصار الثورة الشعبية وخنقها ووأدها من خلال تطييفها وعسكرتها. عسكرة تحوّلت إلى أمر واقع، ويمكن أن تؤدي إلى استنزاف طويل الأمد وإنهاك للقوى الشعبية والمسلحة والفاعلين على الأرض. سيدفع ذلك كافة الأطراف إلى الارتكان إلى التسويات والمساومات التي يمكن أن تحسن شروط تفاوض النظام السوري وتقوي من عزيمته؛ إذ إنّ فرض أي تسوية هو بمثابة مخرج للنظام من أزمته، ويعزز من خطابه التي ما فتأ يكرره منذ اندلاع الثورة بأنّ الحراك طائفي، سلفي وما إلى ذلك.
هنا يتلاقى ويتزامن الخطابان الثقافوي الاستبدادي والاستعماري. والحقيقة التي لا مراء من ذكرها، أنّ الصراع الايديولوجي لا يقل شراسة وضراوة عن السياسي؛ لأنّ الايديولوجي في جوهره صراع سياسي، والتحدي الذي لا يقل خطورة عن الإمبريالية وحليفتها البورجوازية هو تحدي اليسار الانتهازي الذي ما انفك يكرر، ومنذ اندلاع الثورة، الأسطوانة نفسها الممجوجة برتابتها حول حرصه وخوفه على المسألة الوطنية وإعلائه من شأنها من دون أن يربطها بالمسألة الاجتماعية والديموقراطية. وبهذه الأحادية، يعزز من أدلوجة النظام ويسهم في تضليل وعي قطاع كبير من الناس ويعوق انخراطهم الفعلي بالثورة ويظهر اليسار الثوري بمظهر المعادي للمسألة الوطنية والقومية. ومن هنا تنبع اهمية وضرورة ان يهيئ اليسار الثوري نفسه لمواجهة ومجابهة عنيفة معهم، منطلقاً من مواقف هجومية، بفضح وتعرية الخط الانتهازي وادلوجته الزائفة وإلا يعدم، باستخدام أي وسيلة تصب بهذا الاتجاه، ومسلحاً بالواقعية الثورية وليس الرومانسية ورصده للواقع وميوله الكامنة ومهيئاً نفسه دائماً لتجاوز فعلي لكل ما من شأنه ان يعرقل التقدم والتغيير ويمسك بأي تناقض يجعل منه رافعة لعمل تحريضي ترفع تذمر الجمهور الشعبي إلى مرتبة أرفع من الطائفية المضادة وان يصبها في مجرى الثورة الشعبية. وهذا يتطلب من الثوريين الصبر ونكران الذات والابتعاد قدر الامكان عن الصخب السياسي والثرثرة الثورية. وهنا تكمن صعوبات العمل واهميته. وهو وحده دون غيره الذي يدرك ان الصراع مع الامبريالية لا ينفصل عن الصراع مع البورجوازية، لأنّ الصراع الوطني هو قضية فلاحين هجروا من اراضيهم وتحولوا إلى متسولين وعمال في القطاعات الخدمية، وآخرون يرزحون تحت خط الفقر. إذ إنّ هذه الفئات المسحوقة لا تفصل في نضالها بين الوطني، الاجتماعي والديموقراطي، وبالتالي، كل دفاع وطني ثوري عن المقاومة، لا يمكن الا ان يكون نضالاً ضد البورجوازية ونظامها السياسي الطائفي. وأي فصل للوطني عن الاجتماعي من شأنه أن يطوّق الحركة الشعبية ويحصرها في المجرى الطائفي التقليدي. والانزلاق إلى الطائفية يعني إعطاء منشطات للطغمة البورجوازية بتجديد سيطرتها وهيمنتها. والحل هو بتعطيل حركة التجدد تلك من خلال اقتحام حقل الصراع السياسي، من قبل القوة السياسية النقيض للبورجوازية أي اليسار الثوري. هكذا تضع الجماهير في علاقة تصادم مباشرة مع عدوها الطبقي والوجودي.
يمكن العامل الاقتصادي الاجتماعي ان يساهم في تطوير الصراع وتذكيته، وذلك من خلال تحرير قطاع كبير من العمال والفلاحين من سيطرة الطغمة المالية وايديولوجيتها الطائفية التي تضع قسماً من الجمهور في خدمة الثورة المضادة، وبالتالي فإنّ كلّ ممارسة سياسية طائفية تكون حتماً في خدمة البورجوازية، ولا سيما أنها السلاح والستار الحديدي الذي يحول دون رؤية بنيتها الطبقية. ومن هنا تأتي اهمية تسييس الصراع الطبقي في الحقل الاقتصادي، لأنّ البورجوازية خبيثة بتجديد اسلحتها الايديولوجية وقدرتها على التسلل إلى مواقع القوى الوطنية والثورية. وعلى اليسار الثوري ألا يستهين ابداً بقدراتها هذه. وهنا يكمن مربط الفرس بالنسبة إلى اليسار وقواه الحية في آلية المواجهة الفعالة والذكية والنشيطة. الأهم ان يبدأ فعلياً بتنظيم العفوية لأنّها الداء الأساسي في ضعف التنظيم، وهيمنتها تعني بقاء التبعية لايديولوجيا البورجوازية وسبباً في الجنوح نحو الاوهام الطفولية. ومحاربتها تحصل من خلال التثقيف والتربية والدعوى، وهذه الاجراءات تكون بمثابة الخطوة الاولى في بناء وعي جديد، ينتقل بالوعي الطائفي الاقلوي المحلي والمفوت تاريخياً إلى وعي ثوري، وتاريخي، وعقلاني يتعزز ويتكرس في قلب الصيرورة الواقعية النضالية. ومن يمتلك هذا الوعي، حتماً يتحلّ بالتواضع والجسارة الثورية. ومن الصعوبة تخيل راديكالية ثورية من دون وعي نقدي، لأنّ الوعي الامتثالي لا يمكن ان يهز مجتمعاً راكداً ركوداً دهرياً. ان الوعي النقدي هو وعي قتالي وثوري وقادر على ان يتغلغل إلى جذور الايديولوجيا البورجوازية. ومن المهمات الاخرى المتعلقة بالديناميكية والحركية الميدانية احتضان الشباب وخلق آلية وخطاب جديد للتعامل معهم، ولا سيما أنّ الشباب وجد فرصته التاريخية بالتعبير عن ذاته ووجوده وتمرد على الاحزاب المتعالية والأبوية والفوقية اللاديموقراطية وكسر الاطار التقليدي البائس للاحزاب. وهو شباب اقرب إلى الفكر النقدي منه إلى التجارب الممأسسة العقيدية الجامدة.
في الزمن الثوري، نشهد أيضاً، المصالحة التاريخية بين السياسة والثقافة النقدية، وخاصة أنّ المثقفين يتصدرون الصفوف الأولى في النضال الثوري اليساري وما يمكن أن يتمخض عن هذا الالتحام وهذه المصالحة من ولادة رؤى تجديدية، وابداعية قائمة على النقد والسجال وانتاج التمايز الفكري النظري من قلب الممارسة الثورية، معيدين الروح النقدية إلى الماركسية، بعدما نزعت عنها. وهذه الروح النقدية ستنقل الوعي من الحس العام إلى السلم على حد تعبير غرامشي. وفي ظروف الثورة الشعبية، يقع على عاتق اليسار، توفير السبل لتلاقي اتحاد القوى السياسية القادرة على النضال في سبيل تحقيق المرحلة من دون محو التمايزات والاختلافات في ما بينها، والسعي الحثيث إلى إنتاج تفاهمات الحد الادنى لإسقاط نظام الاستبداد بدل اللهاث وراء التسويات والمساومات او التحالف مع قوى الثورة المضادة للثورة، التي من شأنها ان تثبت سيطرة الطغمة الحاكمة وتعيد انتاج تجددها. وكلما تقدمت الثورة، عمل النظام بنحو دؤوب ومتواصل لتفجير الوضع عبر اشعال فتيل الحرب الاهلية. وتشاركه في هذا المسعى مشيخات الريع النفطي. واذا نجحت المساعي بالتطييف والحرب الاهلية، يكون قد انتصر وتم وأد الثورة، لأنّ الثورة اليوم ليست نتاج الصراع الداخلي، بل نتاج الصراع الدولي، ومن اجل قطع الطريق عليهم جميعاً، على اليسار ان يحسن قراءة المرحلة بدقة ويحدد التناقضات ويقوم بجذب كل القوى والاطياف السياسية. ويجب الا يزج نفسه بالدفاع عن أي شكل من اشكال تنظيم سلطة سياسية الا في الحدود التي ترسمها آفاق نضال الجماهير ووفقاً لحاجات الثورة. ومن هنا تنبع اهمية النضال ضد الواقعية الاستسلامية والثرثرة المغامرة او الرومانسية.
يقول الياس مرقص إنّ مقولة الثورة يجب ان تكون تابعة وخاضعة لمقولة التقدم والتحول. والتحوّل يفترض التغيير، وهناك من يطلق الثورة خارج التحول والتغيير. الثورة خلاصنا ولكن المخاوف جدية وكبيرة.
* صحافية سورية