قد يبدو السؤال أعلاه ساذجاً أو سخيفاً، فالمعروف أن التعليم والتعلم عملية تكون أولاً عبر المعلم ومن الكتاب وفي المدرسة، ثم في البيت والمؤسسة أو الحزب أو التنظيم الذي ينتمي اليه أهالي الأطفال أو الطلبة أنفسهم أو يؤيدونه ويترددون على مراكزه فيتأثرون بأفكاره وينهلون من أدبياته، وقد يكون من خلال الرفاق أو ما يعرف بالتعلم من الأقران. لكن أين كل أولئك في السياق الفلسطيني؟ وكيف يتعلم أطفال اللاجئين الفلسطينيين عن مناسباتهم ورموزهم الوطنية؟
لو قيس التاريخ بالأحداث اليومية والمناسبات التاريخية فلا شك سيشكّل كتاب التاريخ الفلسطيني مجلدات ملحمية. لكن تسعى الشعوب إلى حفظ المحطات التاريخية الفارقة في حياتها وتمريرها للأجيال من خلال مناهج علمية وأنشطة وفعاليات في المدرسة وخارجها وتتكامل بحيث تسهم بتشكيل الهوية الوطنية للأجيال. وهنا لا بد من الإقرار بأن الأطفال الفلسطينيين هم من أكثر أطفال العالم حرماناً من طفولتهم ومن حقهم في التعلم وحقهم في التربية على المواطنة وتعزيز هويتهم الوطنية أولاً، كون 70% منهم لاجئين يتعلمون في مناهج دول مضيفة لا تراعي حاجاتهم التربوية والوطنية، وثانياً بسبب غياب مرجعية واحدة تمثلهم ذات رؤية واستراتيجية وطنية أو تربوية.
ورغم عدم وجود منهج أو مقرر في التاريخ يستهدف الأطفال الفلسطينيين، الا أنهم أكثر الأطفال اطلاعاً وانخراطاً بالسياسة ببساطة كونهم هم وأهلهم موضوعها وضحاياها.
لعبت منظمة التحرير الفلسطينية دوراً مهماً في تشكيل هوية الأطفال الفلسطينيين وفي ترسيخ تاريخ فلسطين في نفوسهم يوم كان لها حضور بارز في حياة اللاجئين. ويمكن ملاحظة هذا الدور في المرحلة ما قبل عام 1982، فقد استطاعت الثورة منذ انطلاقتها أن تتغلغل الى اللاجئين في الخيم والبيوت البائسة والورش وشتى القطاعات، وكان الاختراق الأهم حين دخلت الثورة الى المدرسة وتحديداً مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) من خلال معلمين ومدراء مشهود لهم بتاريخهم الوطني والنضالي. استطاع ذلك الجيل من المعلمين رسم ملامح الفدائي الثائر الخارج من الخيمة يحمل كتاباً وبندقية ولا ينشد شيئاً سوى تحرير أرضه. وكان ذك الجيل من المعلمين يتبرع بقسم من مرتبه لدعم الثورة. وكانت الليلة التي لا يمضيها ذلك المعلم على حدود فلسطين يمضيها في سجون المكتب الثاني بعد أن يقبض عليه وهو يتسلل الى الأرض المحتلة.

عاشت المخيمات أزمة وإرباك
كبيرين في الذكرى الحادية عشرة لرحيل عرفات

راكمت الثورة الفلسطينية إرثاً وطنياً من خلال فتح باب النضال في شتى الساحات وعدم حكره على السلاح. فانضوى في صفوفها الى جانب المعلمين نخب من المثقفين والكتاب والفنانين الذين كانت لهم أدوار بارزة لا تقل عن دور الفدائي المرابط في الميدان. فلم يكن يحتاج الطفل الفلسطيني يومها لقراءة درس أو قصة عن الوطن، فكل ما حوله يذكره بفلسطين. مثل الشهداء الذين يزفون ببزاتهم العسكرية وتفوح من عرقهم رائحة فلسطين، والمعلم الذي يمضي ليلته في السجن لمشاركته بتظاهرة... وأحاديث وذكريات الأهل عن الوطن، والأمن والطمأنينة اللذين يشعر بهما وهو يلهو بأزقة المخيم.
بعد عام 1982 انسحبت الثورة من لبنان وانسحبت مؤسساتها وانسحب معها برنامج عمل وطني عريض له أهدافه ورجالاته. وحين عادت المنظمة الى لبنان، راحت تبحث لنفسها عن مكان بين اللاجئين، ثم جاء اتفاق اوسلو الذي خيّب آمال وتطلعات اللاجئين، فلم تجد المنظمة لنفسها سوى الجانب الانساني مدخلاً الى اللاجئين المنهكين الرازحين تحت وطأة قوانين تميزية جائرة تحرمهم من أبسط حقوق العيش الكريم. وبالتالي لم يبق في صفوفها الا القلائل من قدامى المؤسسين والمتعاطفين وكثير من المنتفعين.
وجاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية ليزيد من معاناة اللاجئين وتهميشهم وتخبطهم، وانعكس ذلك على المناسبات الوطنية فأصبحت المناسبة مناسبتين، يحييها كل فصيل على حدة، وباتت «العطل» هي الجامع الأوحد بين الفرقاء. وفي هذه العطل يعود كل فصيل الى جمهوره ليكرس موقعه ومكاسبه الفئوية في غياب كليّ لأي رؤية أو استراتيجية وطنية جامعة. زيادة على ذلك تتسابق الفصائل في كثير من المناسبات الوطنية لتعطيل مكاتب ومدارس الاونروا كتعبير عن حرصها أو دورها الوطني، حتى باتت هذه المناسبات خاوية من معانيها بالنسبة للطلبة والموظفين. والطريف المحزن أن بعض الطلبة باتوا يظنون أن كثيراً من المناسبات الوطنية أعياداً فيطلقون على يوم النكبة «عيد النكبة» وعلى ذكرى وعد بلفور المشؤوم «عيد بلفور»، لأنها لا تعني لهم أكثر من اقفال المدرسة، فتمرّ المناسبات الوطنية من دون أي تراكم معرفي أو فكري يُذكر عدا الاستمتاع بيوم عطلة.
عاشت المخيمات الفلسطينية في لبنان أزمة وارباكاً كبيرين في الذكرى الحادية عشرة لرحيل القائد ياسر عرفات. أصرّت حركة فتح على اقفال المدارس، وحاولت الاونروا المساومة بتخصيص ساعات من برامجها في هذا اليوم للتذكير بمزايا القائد عرفات ودوره الوطني، وقد أبدت قيادة المنطقة في فتح تفهّماً وتجاوباً مع ذلك الاقتراح، غير أن أعضاء اللجان الشعبية في المخيمات التابعين للحركة أصروا على إقفال المدارس، فأحدثوا إرباكاً بين أعضاء الحركة وبين اللاجئين والطلبة والموظفين. وفي النهاية حسمت النتيجة لصالح الشارع وخسرت المدرسة.
وبدل أن تدخل فتح الى المدرسة كما فعلت الثورة في سبعينيات القرن الماضي، قامت حركة فتح بأخذ المدرسة الى الثورة «المقسمة». فأخرجوا الطلبة من الصفوف مكان العلم والتعلم الى أوحال المخيم وساحات الفصائل المقفرة ودروبها المسدودة، حيث يجدون أنفسهم في بيوت كئيبة جل ما يفعلونه هو الجلوس خلف التلفاز يتعلمون منه معنى الانسلاخ عن الواقع.
لو كان أصحاب القرار يفهمون في التربية أو يدرون حجم الضرر والهدر الذي يحدث نتيجة اقفال المدرسة يوماً واحداً وحرمان أكثر من ثلاثين ألف طالب من ست ساعات دراسة في يوم أي ما مجموعه قرابة 186 ألف ساعة تعليم، لأعادوا النظر بقرارهم، ولو استثمرا ربع هذه الساعات في هذا اليوم للتربية الوطينة لكان التاريخ والجغرافيا بألف خير.
* كاتب فلسطيني