طرح الأستاذ جان عزيز وجهة نظر خاصة في قراءة الظاهرة الشعبية في مصر في مقاله «إذا قدّر لمصر أن تصير ثورة» (عدد 1335، يوم الثلاثاء 8 شباط). واستند الكاتب الى مقولة شائعة لينسج على منوالها نسقاً تفسيرياً تبشيرياً حول هذه الظاهرة الفريدة والمعقّدة...إنّ ما طرحه السيد عزيز يقوم على تبسيط أحادي مستند الى الفكرة الشائعة المرتكزة في عمقها وخلفياتها على القسمة السنّية/ الشيعيّة في قراءة الظاهرة السياسية في دائرة الاجتماع السياسي الإسلامي المعاصر. وهي فكرة تقوم على التنميط الاجتماعي أو التقسيم الوظيفي المرتكز على الفارق الإيديولوجي الذي ينتهي الى إسناد مهمة حماية هيكل الملك الى السنّة، ليسند بالتالي، مداورة أو مباشرة، وظيفة الاعتراض الى القوى المنضوية تحت لواء التشيّع. وقد نظر بعض أصحاب هذه الفكرة الى التاريخ الإسلامي والعربي لماماً، فاستحضروا من جوفه محطات متناثرة ومنتقاة لتمثّل منهجاً معرفياً أو نمطاً تفسيرياً لقراءة الحراك السياسي في الدول العربية...
طبعاً، فات السيد عزيز ومن نحا نحوهم، أنّ ظاهرة السلطة تتجاوز البعد الطائفي في التاريخ الإسلامي الذي تمحور حول الانقسام الكبير والحاد بين السلطة والجماعة...
إنّ الاعتقاد الفاسد بأنّ السلطة الإسلامية كانت سنّية، والمعارضة والحركات الثورية انحصرت بالتالي في مدار التشيّع، هو ابتسار لا يصلح تبنّيه من صاحب اطّلاع عام على تاريخ الحضارة الإسلامية. انطلاقاً من خلافة الإمام علي بعد صراع على السلطة لربع قرن، ناهيك مثلاً عن مقاربة السياق السياسي للسلطة الفاطمية التي سبحت في فضاء شيعي فضفاض وملتبس، بعدما كانت الخلافة العباسية قد أرست دعائمها بالاتكاء فكراً ونسباً على آل البيت... ثم ماذا نقول عن الإدارة الزيدية في اليمن وعن «الدولة» الصفوية التي أدارت معظم المنطقة انطلاقاً من إيران؟ ثم قبل ذلك، هل يظن أحد أنّ الذين حاصروا قصر الخليفة عثمان، وتوسط الإمام علي بينهم وبين الخليفة، هم من الشيعة؟
ثم كيف يصح اعتبار حكم بني أميّة الفئوي سنّياً، وقد انقسمت الأمة عليه...؟ وبعد، هل يمكن اعتبار ثورة طلحة والزبير التي جاءت في زمن الحسين ثورة شيعية ضد سلطة سنّية؟
هذا الوهم التاريخي هو الذي حدا بالبعض الى خلط في التاريخ والسياسة أفضى الى تقزيم ثورة الإمام الحسين وتحويلها الى حركة شيعية ضد السنّة، فأساء الى الثورة التي كانت لطلب الإصلاح في أمة محمد، كما عنونها مطلقها...
إنّ إطلاق الأحكام الجاهزة على التاريخ الإسلامي على نحو طائفي، يتجاوز الوقائع ويعاند التأريخ السياسي، الذي يؤكد في كلّ منعطفاته وتفاصيله حركة التجاذب الحاد بين الجماعة والسلطة بالمعنى الواسع لمفهوميهما. فالأولى كانت تتسلح بمبدأ النصيحة الذي توسع به الأنتروبولوجي طلال أسد وجعله نظيراً لمفهوم الرأي العام في الحاضرة الغربية. أما السلطة فقد استخدمت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توسعة في التفسير والتأويل بما يخدم مفهوم الاستبداد المحمول بالصولجان على قاعدة «لولا السيف ما عبد الله».
أسهم الفهم الشعبوي المبتور لظاهرة تشكّل السلطة في الإسلام في إضاعة فرصة مهمة لتعديل آليات فهم السياق السياسي للظاهرة الإسلامية على مستوى السلطة والاجتماع السياسي. وربما كان السعي الحثيث لتوظيف الصراع السياسي في عمليات الشحن والتعبئة المذهبية هو أحد أعمدة الابتسار والتشويه الذي رافق فهم العامة لتاريخ الحكم والإدارة في الحضارة الإسلامية...
واللافت في نص السيد عزيز أنّه استحضر أحاديث نبوية وآيات قرآنية تخالف ما أراد إثباته. فاستشهاده على سبيل المثال بالحديث: «كما تكونون يولّى عليكم»، لا يخدم فكرة استكانة الجماعة السنّية، لأنّ الحديث لا خلاف عليه مع الشيعة. كما أنّه حديث تحريضي غايته حثّ الرعيّة على التغيير لا الاستكانة للحاكم. أما آية «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، فهي نصّ قرآني، وليست جزءاً من الأدبيات السياسية لأهل السنّة. هذا فضلاً عن كونها آية مركزية يستند إليها المنهج العقدي عند الإمامية لإثبات الطاعة والحاكمية للإمام. وهي طاعة تنسحب من أمور الدين الى الدنيا وتجرّ نفسها على السياسة بالضرورة لتصير الإمامة ولاية «إلهية» مطلقة. وهذه المقولة موضع إشكال عند أهل السنّة...
وعليه، فالسلطة في الإسلام لم تكن يوماً طائفية، لكنّها بالتأكيد تسلحت بالطوائف والملل والنحل واختزلتها، بل صادرتها، فلم تكن السلطة الأموية سنّية وقد ذبح يزيد من الصحابة ما أثار المسلمين جميعاً. ولا السلطة العباسية كانت شيعية، وقد واجهها الأئمة بعدما كشفوا زيف شعاراتها فعملت على تصفيتهم فكرياً وجسدياً من دون هوادة. ولم تنحصر الثورات والخروج على السلطة بالشيعة ولا استوت السلطة لأهل السنّة. هذا فضلاً عن أنّ مفهوم التشييع والتسنّن أنتج في فترات طويلة وتدرّج في سياقات متنوعة الى أن استوى على صورته الراهنة...
من الصعوبة بمكان فهم حركة السلطة في الإسلام بمعزل عن القراءة المتأنية لدينامية الجماعة التي حفظت الدين خارج مدارات السلطان. تماماً كما هي الحال مع الصوفية التي توصف بالحركة الحارسة للدين واستطاعت أن تتجاوز حركة تداعي السلطات الإسلامية. فعززت الصوفية الدين وفعّلت حضوره داخل الجماعة بوتيرة أكبر مع غياب السلطة الإسلامية. من هنا، يمكن فهم كثير من حركات التحرر التي قادها مشايخ الصوفية على امتداد العالم الإسلامي.
كانت الصوفية ظاهرة عرفان في مواجهة السلطان، تماماً كحركة فقهاء أهل السنّة الذين واجهوا السلطة وقتل بعضهم على أيديها. حتى إنّ حركة التوابين، التي جاءت رداً على قتل الإمام الحسين، لم تختصر بالشيعة وبالتالي لم تكن ثورة شعبية للشيعة ضد سلطة سنية. كما أنّ ثائراً كالمختار لم يأخذ شرعيته من الإمام زين العابدين، الممثل الشرعي للشيعة الإمامية في عصره، فاستعاض عنها بمراسلات مع محمد بن علي الذي أيده عن بعد في حركته المطلبية التي تجاوزت القسمة التقليدية بين الشيعة والسنة.
يظهر الفهم السوسيولوجي للظاهرة الإسلامية في سياقها التاريخي، بوضوح فاضح، عقم التفسير الطائفي المستند الى دوغمائيات وقوالب جاهزة ينساق إليها البعض متجاوزين، ليس فقط التاريخ، بل النص الديني. نص يحمل في طياته أزمة بنيوية لا تسمح بوجود سلطة طائفية لأنّه في العمق يستحيل وجود سلطة إسلامية، لأسباب عديدة أهمها أنّ مفهوم الحاكمية الإلهية الذي ينصّ عليه القرآن لا يتيح لأي سلطة إمكان احتكاره.
معضلة الدولة في الإسلام هي أنّ الحاكميّة الإلهيّة تحتاج الى وحدة المرجعية لكي تترجم في دولة واحدة. وفي حال الاحتكام الى الأمة أو النخب، تتعدد المرجعيات الفاهمة لحاكمية الله فيصعب عندها الانخراط في دولة واحدة بمرجعيات دينية متعددة. من هنا، جاءت ضرورة فصل الديني عن السياسي في تشكيل الدولة العربية الحديثة.
وهذه هي حال مصر التي لا يمكن فهم غضب الشارع فيها من اعتبارات سنّية لأنّ السلطة القائمة نقيض الإسلام السني. والاعتراض، تالياً، لا علاقة له دينياً أو حتى ثقافياً بالبعد السنّي...
فكيف يمكن أن يعقد لواء الطاعة السنية لدولة تخالف منطوق الحكم بما أنزل الله، إلا إذا افترضنا أنّ التسنن حالة نفسية اجتماعية. عندها نتحدث عن ظاهرة اجتماعية يمكن أن نردّها في مصر الى المكوّن السوسيولوجي الضارب في التاريخ، وصولاً الى الفراعنة، ولكن لا يمكن ربطها بالتسنّن إلا من باب التخيّل والتجنّي على الواقع.
وإذا ما ضربنا صفحاً عن تعسّف السيد عزيز في مقاربة الثورة في الاجتماع السياسي الإسلامي، باعتبار أنّه انطلق من الشائع ولكونه غير ذي اختصاص بهذه الموضوعات، فمن غير الممكن أن نفهم إشارته العجيبة الى فوكوياما وهانتنغتون بعدما توهم أنّ نموذج الغضبة المصرية يمثّل نهاية لإنسان فوكوياما الأخير، ويصادم «صدام الحضارات». كان ذلك مفارقة تشبه الطرفة لأسباب عدّة. أولها أنّ السيد عزيز رأى أنّ هذه «الشبه ثورة» ستمثّل نموذجاً ديموقراطياً إسلامياً. ولا نعرف من أين استوحى أنّ غضبة المصريين المحمولة بسواعد شباب الفايسبوك ستكون نموذجاً لديموقراطية إسلامية. ولو سلّمنا جدلاً بأنّ الثورة ستلبس من غامض علم الله ثوب الإسلام السياسي أو الاجتماعي أو لنفرض أنّه يتحدث عن الديموقراطية في مجتمع مسلمين، فكيف رأى السيد عزيز أنّ غضبة المصريين هي «أول طريق مفتوح صوب الديموقراطية في الإسلام أو الديموقراطية الإسلامية»؟ وهل، مثلاً، التجارب التركية والباكستانية والماليزية حتى الأندونيسية، على علّاتها، هي طماطم إسلامية معلبة؟
وثانية المعضلات، بل الطامة الكبرى، هي أنّ السيد عزيز انجرّ مع أصحاب الخطاب الثقافوي الشعبوي الذين تفتّقت عبقرية بعضهم عن نظرية الربط العضوي جزافاً بين اسمي فوكوياما وهانتنغتون، وتسديد ضربة قاصمة لكليهما عند كلّ منعطف فكري لسبب أو من دونه، حتى صار الاسمان لعقاً على ألسنة معظم من امتشق قلماً في دنيا العرب. فمن أين جاء السيد عزيز بفكرة مناهضة فوكوياما بنموذج الإسلام الديموقراطي المصري (المتخيّل أصلاً)؟ هل غادرت الغضبة الشعبية المصرية بشعاراتها مفردات الاقتصاد الحر والديموقراطية والحريات العامة وتوسيع سوق العمل؟ وهل في هذه الشعارات ما يناقض النموذج الرأسمالي الليبيرالي المحروس بالديموقراطية الذي بشّر بانتصاره فوكوياما؟ ثم، هل يدرك السيد عزيز أنّه، وحتى الآن، يمكن أن يقف فوكوياما على منصّة ميدان التحرير ليؤكد نيته تغيير مقدمة كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» لكي يضيف الى إعلان انتصار النموذج الغربي على الاتحاد السوفياتي انتصاراً جديداً في قلب العالم الإسلامي العربي، مسجلاً الى جانب قضائه على ماركس، نصراً على حسن البنّى وسيد قطب وأمونحوتب ورعمسيس الأول بالضربة القاضية؟ هذا إلا إذا تغيرت الأوضاع وأجهضت الثورة أو تسلّم الإخوان، فعندها لن يكون هناك ديموقراطية أصلاً، لنتحدث عن نموذجها.
أما ثالثة المآسي فتكمن في قصور الكاتب عن إدراك رامي نظرية هانتنغتون الذي أكد أنّ صدام الحضارات لا يتمّ قبل تبلور نماذج حضارية خاصة لكل جماعة، وفق معايير مميزة للجماعات المتمحورة خلف مسارات الصدع التي تمثّل خطوط تماس بين مجموعات بشرية اكتمل تكوين مداراتها الحضارية. وتبدأ بعدها عملية القسمة والصراع على خلفية حضارية تختصرها وتهيمن عليها فكرة صدام الحضارات. وهنا مجدداً يمكن أن يكون انتصار الثورة في مصر مدخلاً إلى تحسّس الهوية المصرية والعربية والإسلامية المتميزة ـــ التي قد تكون في حال تماسّها مع نبض الشعوب العربية والإسلامية منطلقاً لصحوة هوية أممية جامعة تقودنا الى تأسيس نواة وعي حضاري يستند الى الهوية الإسلامية. ونكون، في هذه الحال، قد دخلنا في صلب المنظومة التفسيرية التي صاغها هانتنغتون، مع فارق مهم جسّدته بارقة أمل أضاءها السيد عزيز، وهي أنّ هذا المسار الوليد، الذي ربما يستغرق اكتمال تموضعه قروناً، سينتهي بقصة عشق حضاري يحملها الإسلام المصري الحديث هديّة الى العالم، يسعفه في ذلك تاريخ عريق من التسامح الحضاري الإسلامي، والديني عامة.

* كاتب لبناني