لم تبلغ أحداث مصر المستوى النظري ولا العملي المطلوب لإعطائها تعريف الثورة. فهي حتى اللحظة انتفاضة، أو تمرّد شعبي، أو عصيان مدني، أو حركة احتجاج ورفض أهليين... غير أن الأكيد أن تلك الأحداث بالذات، يمكن أن تحمل في طياتها بذور ثورة. وإذ ذاك قد تكون أهم حدث عالمي منذ قرون طويلة، وأوّل انعطافة مفصليّة في تاريخ صدامي عنفي سلطوي طويل. فما يحصل في ميدان التحرير اليوم قد يؤدي إلى درس في حركة التاريخ أبلغ بكثير من نظريّتي فوكوياما وهانتنغتون معاً... تبدأ قصّة البعد التاريخي للحدث المصري، في احتمال أن يكون أوّل ثورة داخلية فعلية تحدث في وجدان سنّي، وفي بيئة هذه الجماعة الإسلامية التاريخية.
فمنذ 14 قرناً وُسِم الوجدان السياسي السنيّ بأنه «وجدان الدولة». ودُمغ فقه هذه الجماعة بأنه «فقه الخلافة»، تماماً كما كان اللاهوت السياسي المسيحي منذ مطلع القرن الرابع ميلادي حتى عصر الأنوار، حيث كانت الكنيسة دوماً «كنيسة الدولة» ترتاح إلى مخدع السلطة و«تتساكن» معها بشتى الظروف والأحوال.
هكذا الوجدان السني كان عبر التاريخ حاضنة الخلافة ومستودع الدولة الإسلامية. منه خرج طبعاً وجدان الفتح، ووجدان الغزو، ومنه جاء أيضاً وجدان المقاومة للأجنبي ـــ أو الأعجمي ـــ ومنه جاء خطاب مواجهة الاستعمار والاحتلال، وحتى وجدان الانقلاب من قلّة تملك شرعية أقوى على «جُنتة» (المفهوم المصري للزمرة العسكريّة) تملك شرعية أضعف أو أدنى أو أقل... لكن الوجدان السني لم يُعرف عبر تاريخه بأنه وجدان ثورة الناس على الحاكم.
وفي هذا السياق تغزر أدبيات هذا الوجدان بالشواهد المؤكدة، من القول إنه «كما تكونون يولّى عليكم»، إلى «الناس على دين ملوكهم»، وصولاً إلى السند القرآني بأن «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم»، مروراً طبعاً بـ«جواز ولاية المفضول على الفاضل».
هكذا عبر التاريخ العام، والتاريخ الإسلامي خصوصاً، كان «العقل السياسي المركزي السني» هو عقل الدولة، وكانت تواريخ الثورات هي نتاج الوجدانات الأخرى داخل دولته ضده، أو من داخل الدولة الإسلامية ضد الدول الأخرى. وهكذا كانت «الثورة العربية الكبرى»، مقاومة ضد المحتل، وثورة عبد الناصر انقلاباً ضد النظام، تماماً كما كل الحركات التاريخية الأخرى المسمّاة «ثورة»، من الكيلاني إلى الفاتح من سبتمبر.
حتى إن أحد أهم الدارسين للأنتربولوجيا الدينية في زمننا المعاصر، رسم خريطةً جغرا ـــــ سياسية لما سمّاه «مركزية الوجدان السني»، في مقابل «طرفية» وجدان الأقليات. دائماً الدولة السنية بعقلها ووجدانها الدولتي السلطوي في المركز، ودائماً ثورة الأقلية ضدها في الأطراف، من الأباضيّة إلى الزيديّة، إلى الموحّدين والعلويين والموارنة.
للمرّة الأولى، ربما منذ قرون، يثور شعب على حاكمه في هذه البيئة، وانطلاقاً من وجدانه بالذات. لا ينقلب ضابط على ملك، ولا يتمرد حزب على مستعمر، ولا تقاوم جماعة محتلاً، ولا يتغرَّب الناس لينسجوا لأنفسهم حلم ثورة، أكان بالتغرُّب الماركسي أم العلماني أم الديني الآخر.
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني بكل بساطة، ولو بشكل جنيني، فتح أول نافذة في هذين الوجدان والبيئة، على مفاهيم الشعب كمصدر للسلطة، ومفاهيم المساءلة والمحاسبة ضمن إطار الدولة، ومفاهيم تناوب السلطة والمواطنة والحكميّة الصالحة... إنه أول طريق مفتوح صوب الديموقراطية في الإسلام، أو حتى صوب ديموقراطية إسلامية، في قلب العقل الإسلامي المركزي، بعد قرون من التنظير للتناقض الكلّي والكامل لمفردتي الديموقراطية والإسلام.
إلى أين من هنا؟ قد يكون الدرب مفتوحاً للمرة الأولى ليقول الشرق لفوكوياما إن «نهاية التاريخ» قد لا تعني حكماً سيادة الليبرالية الرأسمالية على العالم، وليقول في الوقت نفسه للراحل هانتينغتون إن سقوط نظرية «الإنسان الأخير» لا تعني حتماً السقوط في «صدام الحضارات»، وإنه بين الاثنين يمكن العالمَ الإسلامي المركزي أن ينتج ديموقراطيته، وأن ينطلق إلى حوار ما مع الديموقراطيات الأخرى ومع الحضارات الأخرى.
الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل ونيل، قد تكون من القاهرة وتونس، وقد تكون في نظامين جنينيين، يوفّقان بين وجدان الجماعة «الأخروي» ومقتضيات الحداثة والعصرنة. شيء ما من النموذج التركي مع أردوغان. ترى هل هي مصادفة في هذا المثلث، أن تكون تجربة «العدالة والتنمية» قد بدأت في تونس، وأن تكون الفكرة الفاطمية التي أسّست لاحقاً دولة مصر، قد ولدت في تونس أيضاً؟