في الندوة الأخيرة التي عقدها منذ أيام «مركز المبادرة المدنية»، حذّر الرئيس حسين الحسيني من أنّنا دخلنا في أزمة «كيانية». هذه ليست المرّة الأولى التي يطلق فيها الرئيس السابق لمجلس النواب (الذي أدّى دوراً محورياً في بلورة صيغة اتفاق «الطائف»)، مثل هذا التحذير الخطير. آخرون نبّهوا من بلوغ أزمتنا مثل هذا المستوى قبل مدّة، ولا يزالون يدقّون ناقوس الخطر.يكتسب هذا التحذير معنى إضافياً، مع كلّ مظهر جديد من مظاهر «الفشل» اللبناني. العجز عن إيجاد صيغة مستقرّة ومنتجة لممارسة الحكم والقيام بأعباء السلطة العامة ومسؤولياتها هو «الروتين اللبناني» الذي اعتدناه، في كلّ مرة تفاقمت وتفاعلت فيها التناقضات المحلية والإقليمية، وفي كلّ مرة أدّت فيها الصراعات وتحوّلاتها إلى تجميد غلبة الداخل أو وصاية الخارج، عند حدود التوازن المعطِّل.
بكلام آخر، إما أن يخضع لبنان للوصاية الخارجية، وهذا تعبير عن ذروة الفشل، أو أن يعجز عن إدارة شؤونه بنفسه، وهذا تعبير عن ذروة الخلل. والأمران، بعد، مترابطان إلى آخر مفاعيل هذه الأزمة، التي هي، بالتعريف، أزمة نظام سياسي، وبالنتيجة، هي أزمة كيان ووطن، ما زال، حتى الآن، معلّقاً بين أن يكون، بسبب حيوية شعبه، وأن لا يكون بسبب تخلّف نظامه السياسي الطائفي.
العجز عن تأليف حكومة برئاسة النائب نجيب ميقاتي (أو سواه)، هو تمرين جديد في مسار الفشل المذكور، لكنّ المميّز في «الروتين اللبناني» أنّ آفة العجز قائمة ومستمرة ومتفاقمة قبل التعثّر الحالي في تأليف الحكومة، أو بعد ولادتها القيصرية المتوقعة. وهي كانت حاضرة في عملية تأليف الحكومة السابقة والتي قبلها، وكذلك في مرحلة ما بعد التأليف، حيث النزاعات والصراعات وسيادة منطق المحاصصة والدويلات والهدر والفساد والمحسوبيات... وحيث يتعزّز ويتعمّق الطابع الطائفي فالمذهبي، للاستقطابات والحسابات والعلاقات وصولاً إلى إحياء الغرائز، بل والعصبيات «الجاهلية» بالمعنى الذي كانت قائمة عليه قبل الرسالات والبعثات التي يدّعي تجار الهيكل بها صلة رحم وولاء ووفاء.
لكنْ للأزمة الراهنة طعمٌ مختلف هذه المرة. فسقوط حكومة السيّد سعد الدين الحريري جاء على خلفية صراع سياسي ضارٍ بشأن «المحكمة» على نحو رئيسي. ولقد نُفّذ لغرض إسقاط الحكومة انقلاب دستوري نتج من تحوّلات في توازنات الأكثرية والأقلية، بما جعل الأقلية أكثرية، والعكس صحيح أيضاً. لم تكن الأمور سهلة بالتأكيد، لكنّ الغريب أنّ أمر مواجهة «المحكمة» كأداة لابتزاز فريق لبناني، ولإحداث فتنة في لبنان، غاب بالكامل عن أولوية الأكثرية الجديدة أو على الأقل، الفريق الأكثر تمثيلاً فيها! وتُطرح الآن في مجرى الصراع على التأليف، مسألة الحصص مقرونة بحقوق تمثيلية يطالب أصحابها باعتماد التمثيل النسبي فيها، فيما هم يرفضون النسبية في الانتخابات، أو لا يبذلون أيّ جهد حقيقي في مجرّد الإعراب عن تأييدهم المبدئي لاعتمادها.
والحصص المشتهاة هي تعبير عن الواقع الطائفي والمذهبي وإمعان في تكريسه. ولا يختلف الجديد في ذلك عن القديم إلا من خلال الصيغ الترويجية وبعض الشعارات التي تخاطب آمال اللبنانيين في تفعيل الإدارة ومحاربة الفساد والإفساد، ومن ضمن ذلك السرقة والهدر والفئوية.
لا ننكر في مجرى الصراع القائم إقدام البعض على اتخاذ مواقف تاريخية في عدد من العناوين السياسية المهمة. ولا ننكر خصوصاً الإنجازات في حقل المقاومة، وكذلك التحوّلات في الموقف من الدور الأميركي والعدوان الإسرائيلي. غير أنّ ذلك لا يعفي إطلاقاً من لفت النظر إلى حاجات مصيرية أخرى، لبناء لبنان الموحّد والسيّد والديموقراطي الذي ينهض به نظام عصري ومؤسسات سليمة وفاعلة. ولا سبيل لبلوغ هذه الأهداف إلا عن طريق التخلص من النظام السياسي القائم حالياً، الذي يتناقض تمسّك البعض به، على نحو جوهري، مع تبنّي شعارات «الإصلاح والتغيير»، فكما أنّ جمع ممثلي عدد من الطوائف أو الأكثر تمثيلاً فيها، في تحالف سياسي، لا يفضي إلى حالة وطنية، كذلك، فإنّ نقل الأرجحية من جهة إلى جهة، وعلى قاعدة طائفية دائماً، لا يعبّر بالضرورة عن الإصلاح ومحاربة الفساد، أو يقود إليهما.
وفي مقاربة أخرى للجوهر نفسه، فإنّ اعتماد التنازع الطائفي والمذهبي، ودفعه إلى مداه الأقصى، هو تماماً ما تحاوله قوى خارجية، لتأجيج الانقسام ونشر الفتنة، وبالتالي محاولة فرض شروط صياغة التوازنات والعلاقات والولاءات، وصولاً إلى السياسات والبرامج جميعاً. لقد حاولت ذلك سابقاً بالعزم، وتحاول ذلك الآن عبر تفعيل سياسة «فرّق تسد».
ولا نكشف سرّاً إذا قلنا إنّ مخطط تأجيج الانقسام الطائفي والمذهبي، قد أصاب نجاحات كبيرة في أكثر من بلد عربي: من لبنان إلى البحرين... والبقية تأتي وفق ظروف البلدان المعنية، أو خصوصاً حسب نقاط ضعف سلطاتها أو حركات الاعتراض فيها، لجهة المسألة الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية...
إنّ هذا الأمر يحتاج إلى توقّف جدي من جانب القوى التي تحمل أعباء صراعات مهمة ذات صلة وثيقة بمصير المنطقة وبتحرّرها من مشاريع الغزو والاغتصاب والاستيطان والنهب. ويجب في هذا السياق، استخلاص عِبَر أساسية إجمالية من التطوّرات العاصفة التي تعيشها المنطقة. فلم يعد جائزاً استمرار التناقض ما بين ما يسمّى الممانعة، وبين حقوق المواطن، وأهمّها حقّه في الحرية دون قمع ورقابة وعسس. وكذلك فإنّ الاستمرار في جعل المقاومة رديفاً لاستقطابات وحسابات مذهبية يمكّن الخصم من استهدافها على نحو أخطر.
لقد استنتج الرئيس بشار الأسد في مجرى «أزمة خطيرة»، كما وصفها وزير خارجيته، أنّه يجب الجمع بين «أمن المواطن وكرامته». هذا استنتاج ثمين. والأثمن منه وضعه جدياً موضع التنفيذ دون مناورة أو مداورة أو تأجيل. والمسألة الطائفية والمذهبية لا يمكن أبداً أن تكون سلاحاً إلا في يد دعاة إضعاف شعوبنا واستنزاف طاقاتها، وخصوصاً في صراعات داخلية، من أجل الهيمنة على مصائرها وثرواتها.
هل لهذا الكلام علاقة بتعثّر تأليف الحكومة الجديدة في لبنان؟ إنّه على علاقة وثيقة بذلك. ولهذا يجب أن يبادر الحريصون في فريق الأكثرية الجديدة إلى تنفيذ «انقلاب» ثانٍ يتمثّل في قلب طاولة التأليف: من الحصص إلى القضايا، ومن الأسماء إلى جدولة التحقيق. ويبدأ ذلك بوضع صيغة معلنة لرفض استخدام «المحكمة» في إثارة فتنة مذهبية، ليصل إلى طرح آلية لبحث استراتيجية لحماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، ولينتهي إلى طرح عدد من المطالب الإصلاحية على بساط البحث والجدولة والتنفيذ، كجزء رئيسي بل ومحوري من برنامج عمل الحكومة العتيدة.
من شأن هذا الأمر أن يمكّن فريق الأكثرية الجديدة من أن يصيب أهدافاً عدّة دفعة واحدة: أوّلها استعادة زمام المبادرة على الصعيد السياسي العام، حيال الاستعصاء الحالي، وخصوصاً حيال التحرّك الشعبي ـــــ الشبابي المطالب بالإصلاح. وثانيها، إحراج الفريق المرتبط بالحسابات الأميركية والإسرائيلية الذي يدّعي العمل من أجل بناء الدولة، فضلاً عن شعارات الحرية والسيادة والاستقلال. وثالثها، وضع الرئيس المكلّف نفسه أمام مسؤولياته للخروج من «وسطيته» السلبية إلى الفعل الإيجابي، وكذلك دفع رئاسة الجمهورية لكي تضع ثقلها إلى جانب تطبيق الدستور الذي يجري انتهاكه، قبل صلاحيات الرئيس، وخصوصاً في مجال تعطيل ومخالفة البنود الدستورية الإصلاحية الأساسية فيه.
ولعلّ في هذا الموقف، ما ينقذ العماد ميشال عون من ذلك السباق الذي سيكون خاسراً، إذ ينافس قوى مذهبية جذرية وتقليدية دينية ومدنية في أرض المعركة التي اختارتها هي، بالسلاح الذي حدّدته. لقد أنجز العماد عون خطوات تاريخية في مجال كسر التقاليد والعلاقات، ولا تنفع العودة إلى الوراء، في الدفاع عنها، أو في تبرير اعتمادها في المستقبل.
لقد كشفت تطوّرات عديدة في العالم، أنّ قضايا التحرير لا تنفصل عن التحرّر والتقدّم السياسي والاجتماعي. إنّ التنكّر لهذه الحقيقة كلّف أنظمة وحكاماً ثمناً باهظاً وغير متوقع، لكنْ في التاريخ دائماً، عبرٌ ثمينة لمن اعتبر!
* كاتب وسياسي لبناني