في تقاليد أطراف السلطة الحاكمة في لبنان، أن يؤدّي كلّ بحث في قانون الانتخاب، إلى جعل مجمل العملية الانتخابية أكثر سوءاً. هذه المرة تنذر البدايات بما هو أسوأ بكثير! فرغم أنّ البحث بدأ مبكراً نسبياً، إلا أنّه ما لبث أن انزلق نحو الأخطر. وتجتمع الآن، في الانطلاقة الراهنة، وبعيداً عن مشروع وزارة الداخلية، أربع مصادفات سيئة. أولاها، أن يجري زجّ اسم الطائفة الأرثوذكسية في مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»، فيظهر كأنّ الفئة التي اتّسمت مواقف ممثليها وبيئتها غالباً، بالاعتدال، قد انضمّت، أخيراً، إلى قطار التطرّف. وثانيتها، أن ينحدر بعض حملة لواء التحديث إلى درك المذهبية والطائفية الصافية، بذريعة الإنصاف والمناصفة ورفع الغبن، فيما بعض هؤلاء، كان ولا يزال «حليفاً» لدولة لطالما «نظّر» لأهمية إدارتها للبلد من «البابوج إلى الطربوش». وثالثة هذه المصادفات السيّئة أن يجري، نسبياً، توحيد «الموقف الماروني» على «المشروع الأرثوذكسي»، رغم أنّ بين أطراف لقاء بكركي الأخير من التباينات والخلافات، أكثر بكثير مما صنعه الحداد! أما رابعة هذه المصادفات غير السارّة، فهي تصاعد وتفاقم أعراض المرض الطائفي اللبناني، فيما تشهد أجزاء واسعة من الوطن العربي بدايات أو إرهاصات تغيير نحو الحرية والمساواة والعدالة والتقدّم والديموقراطية.الخطأ الشنيع لـ«اللقاء الأرثوذكسي» لا يغيّر من واقع تردّي مجمل المشهد السياسي التقليدي اللبناني. ألا يجاهر رئيس الحكومة الراهنة نجيب ميقاتي بـ«سنيّته»، ويدخل في مبارزة شرسة مع «تيار المستقبل» في هذا الخصوص؟ ألا يعتمد، بين وسائل أخرى مشابهة غالباً، مبدأ «اُنصر أخاك (في المذهب) ظالماً كان أم مظلوماً»؟ ألم يستدرج خصوم ومنافسو العماد ميشال عون في تحالف 14 آذار، جنرال «التيار الوطني الحر» إلى صراعهم بأساليبهم نفسها، التي هم بها أعرق وأدرى وأقدر وأفعل؟ ألا ينخرط باقي الأطراف، وبأشكال متنوّعة، في المزيد من الممارسات المذهبية والطائفية وفي المناسبات جميعها: السياسية والاجتماعية والدينية؟
ألم يرتقِ إلى مستوى «الميثاق الوطني» واقع تقاسم المواقع والنفوذ والمسؤوليات في معظم النقابات المهنية: للأطباء، والمهندسين والمحامين... ألم تشهد نقابة الصحافة، مرّة جديدة، انتخابات تعتمد فيها المناصفة ويستمرّ النقيب مسلماً «سنيّاً» في مقابل النقيب الماروني المسيحي المرحوم ملحم كرم! وبالمناسبة، كيف تأتّى لدعاة تعميم التقاسم الطائفي والمذهبي نقل هذا المرض إلى جسم المؤسسات النخبوية، ثم تكريس ذلك وتقديسه، لولا الخلل العام في أداء الطاقم السياسي الحاكم، ولولا تهاون ممثلي تيار المواطنة والمساواة والديموقراطية. ألا يحصل هذا التردّي الفظيع، رغم أنّ دستور الطائف (الذي لا يستحضر إلا على نحو مشوّه وفئوي ومغرض) قد حسم الأمر في المادة 95 بالقول: «تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد مبدأ الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة..» (المادة 95).
إنّ موقف اللقاء الأرثوذكسي على سوئه، ما هو إلا الرأس من جبل الجليد الذاهب بعيداً في الأعماق، الذي يتغذّى كلّ يوم، وخصوصاً عبر المواقع والموارد الرسمية الداخلية والخارجية، بكلّ أسباب القوة والاستمرارية. ويذكر ذلك الواقع الكريه بالطرفة التي تروى عن الحكومة المصرية حين أصبح فيها القبطي بطرس غالي وزيراً. جاء شهر رمضان. سمح لبطرس غالي بأن يتناول القهوة في الاجتماع، لكن ما لبث عدد الفناجين أن ارتفع إلى دزينة كاملة، أي إلى ما يوازي عدد أعضاء مجلس الوزراء الاثني عشر. وهكذا بات الطلب: 12 فنجان قهوة لبطرس غالي، بعد ما كان فنجاناً واحداً!
في الاحتمالات الواقعية اليوم، ورغم كلّ الكلام المتراجع حالياً، عن اعتماد النظام النسبي، ما ينذر بالأسوأ: الأسوأ لجهة مخالفة الدستور على نحو متكرّر ووقح. والأسوأ، لجهة إحلال الغرائز الطائفية والمذهبية، مكان الاختيار العقلاني الإرادي والحر. والأسوأ لجهة تعميق الأزمة اللبنانية، في مناخ يستخدم فيه الطامعون والمتربّصون الأجانب، الانقسام والاقتتال المذهبي والطائفي والعرقي، أداة للشرذمة والتفرقة والسيطرة، بعدما فشل الغزو المباشر بالقوة العسكرية وبالقتل والتدمير.
ولعلّ إحدى أكبر مشكلات لبنان، تكمن هنا بالضبط: فرجال الحكم لم يكونوا، إلا في ما ندر، رجال دولة. وذهنية الإقطاع والهيمنة واستخدام المال والموارد والمؤسسات العامة، هي العناصر التي طبعت أداء الحكام، دون التفات إلى مصير الوطن والمواطن. ولذلك بقي لبنان على ما هو عليه من هشاشة وعدم استقرار وعدم حصانة وعدم قيادة...
ولا ينبغي أن يمرّ هذا الأمر اليوم، وبعد حصول ما حصل في العالم العربي، دون معارضة ودون تحرّك، ودون مواجهة. إنّ عملاً نوعياً، هو ما يجب السعي إلى توفير مقوّماته. وأوّل ذلك في تفحّص ومراجعة واقع ما يُسمّى الحركة الديموقراطية اللبنانية. فتلك الحركة هي بقايا جسم مفتت وضعيف وشبه عاجز. إنّها غائبة في برنامجها وفي إطارها وفي قيادتها، أي في مشروعها على نحو عام. لذلك فإنّ ما يجب أن ينصبّ عليه الجهد الآن، ليس بعض اللقاءات الشكلية، التي لا تقدّم ولا تؤخر. ما يجب أن ينال كلّ الاهتمام، إنّما هو الانطلاق من نقاش مشروع الانتخابات إلى نقاش مجمل متطلبات انبثاق مشروع ديموقراطي في لبنان. لقد كشف تحرّك «إسقاط النظام الطائفي» الفارق الهائل ما بين الرغبات والإمكانات. لم تكن التلبية الشعبية هي المشكلة (لقد كانت رائعة)، بل كانت في غياب المشروع ومعه غياب المرجعية والآليات والأطر. لقد أدى العامل الشبابي العفوي دور المحفّز، لكنّه، لم يكن قادراً على تعويض الثُّغَر القاتلة التي أشرنا إليها.
ينزع البعض الآن، وفيما يكمل «مشروع اللقاء الأرثوذكسي»، نحو اليأس. يردّد الآن بعض دعاة التغيير والعلمنة والمواطنة: التغيير مستحيل في لبنان! هذا استنتاج يائس وبائس. إنّها دعوة إلى الإحباط والاستسلام.
في مواجهة ما وصفناه بالبداية «العاطلة»، لا بدّ من بداية صحيحة. وتلك تتمثّل حصرياً في استنفار واستثمار جهود جدية ومثابرة في بناء المشروع الديموقراطي. ويتطلّب ذلك، في ما يتطلّب، مراجعة نقدية ينبغي أن تكون إحدى المواد الأساسية في إعداد لقاءات أو مؤتمرات لشخصيات وقوى وأحزاب أدّت أدواراً سيئة وخاطئة في السنوات الماضية، سواء كان ذلك على نحو متعمّد أو عن طريق سوء تقدير، أو خلل في الأولويات، أو استغراق في الفئويات والحسابات الضيقة.
الشعب اللبناني اجترح دائماً معجزات وابتكارات وانتصارات. إنّه قادر عبر شبابه خصوصاً، على اجتراح معجزة جديدة من تهيئة الظروف، بصبر وتعب ودراية ومثابرة، للتخلّص من النظام الطائفي.

* كاتب وسياسي لبناني