جردة الذاكرة أمر لا مفر منه في وداع كل عام. تحضر الصور، الناس، الأحداث... تتذكر خبط عشواء. تحاول ألا تقع في المصيدة، ترفض أن تكون ضحية هذا التقليد المقيت، لكنّه يتلبّسك كشيطان. تهرب منه صباحاً، فيداهمك مساء. تنغمس في همومك اليومية فيطل برأسه من أي ثقب فراغ. كأنّ عقارب الذاكرة تفلت من عقالها في نهاية العام لتدير حفلة جنونها الخاصة، التي لن يخفف من وقعها ملء روزنامة السنة الجديدة بأحلام وطموحات ومشاريع مستقبلية.كادت هذه السنة أن تختم أيامها الأخيرة من دون أن تثقل عليّ ذاكرتي التي خلت أنّ الصدأ أبطأ، مشكوراً، نشاطها الى أن سمعت بأنّ مسرح بيروت سيقفل أبوابه على نحو نهائي هذه المرة. فجأة وجدتني أقف هناك عند أطراف الباحة المكتظة بوجوه وأسماء ممثلين ومخرجين وصحافيين ينضحون فرحاً وحماسة ويشعلون الفضاء صخباً وقهقهات. كان ذلك في أواخر تشرين الأول 1992. هكذا، قفزت ذاكرتي خطوات سريعة الى الماضي البعيد، واستقرت أمام باب المسرح الخشبي الذي أُعيد افتتاحه بعد غياب قسري أول، سببه اندلاع الحرب اللبنانية.
تلمست خطواتي بين الجموع وبحثت بين الوجوه عمن يروي لي قصة «تياترو دو بيروت». كان ريمون جبارة، التي شاءت الصدفة أن يفتتح «تياترو دو بيروت» مخرجاً مسرحية «من قطف زهرة الخريف»، بعدما كان قد افتتح المسرح ممثلاً في «لعبة الختيار» في 1965. قال لي «عندما دخلت قاعة مسرح بيروت تخيلت مادونا غازي، واندره جدعون وجميع الزملاء في مسرحية «لعبة الختيار» (إخراج برج فازليان) التي قدمتها فرقة المسرح الحر مع موريس معلوف وصلاح مخللاتي ونبيه أبو الحسن ورضى خوري». أدّى مسرح بيروت دوراً محورياً في الثقافة اللبنانية عند افتتاحه في منتصف الستينات، بعدما تحوّلت سينما هيلتون الى «تياترو دي بيروت». ومع هذا الاسم الجديد عرف المسرح اللبناني تحوّلاً كبيراً في مسيرته. أسماء جديدة برزت، واتجاهات متعددة حوّلت المسرح الى جزء أساسي من نسيج الحياة الثقافية في لبنان. لذا، كان الرهان كبيراً على الدور الذي يمكن أن يؤديه «تياترو دو بيروت» مجدداً في إعادة صناعة المشهد الثقافي وتركيبه بعد أعوام طويلة من الحرب والدمار والخراب. لم يغب ذلك عن بال «هيئة الفنون»، التي نفحت فيه الروح تحت إدارة وإشراف الصحافي والروائي الياس خوري، إذ أعلنت في كتيّب أصدرته في المناسبة «نحن هنا، لنبدأ حركة لم تنته بعد، مشروعنا بسيط وواضح وهو أن نلتقط فتات الروح من ركام الموت، وهذا لا يكون إلا حين نقرر مواجهة الزائف والسطحي والمبتذل بالحقيقي والجديد والطليعي (...)». حقق المسرح غايته خلال سبعة أعوام من العمل المتواصل والدؤوب، لا بل فعل أكثر من ذلك. لقد أسس ذاكرة ثقافية لجيل الحرب، جيلنا، الذي كان يعاني خواءً كبيراً على هذا المستوى. كنا نقتات من الذاكرة الثقافية للأكبر سناً ونحسدهم، لأنّهم ينتمون الى عصر لبنان الذهبي في الفكر والثقافة والإبداع.
كسب مسرح بيروت الرهان ونجح في ردم هذه الهوة، لا بل استقطب جمهوراً كبيراً ومتنوعاً ضم أكثر من جيل، وخصوصاً أنّ الأعمال التي عرضت على خشبته أتاحت للبنانيين التعرف على المسرح العربي بمروحته الواسعة. فكانت «فاطمة» الجزائرية، و«وصلة من تونس» مع نوال اسكندراني، و«فاميليا» مع فاضل الجعيبي وجليلة بكار و«كلام الليل» مع توفيق الجبالي، و«الخادمتان» و«عنبر رقم7» مع جواد الأسدي الى عدد كبير من الأعمال المحلية.
بعد مرور عام على افتتاح المسرح، قالت لي هدى سنو، إحدى أعضاء هيئة الفنون: «كنت أعتقد أنّه كان بإمكاننا أن نكون أفضل، لكنّني عندما أنظر الى ما أُنجز أرى أنّنا استطعنا أن نحقق اكثر من خطوة باتجاه هدفنا الأساسي، وهو إقامة مركز ثقافي لبناني يرتاده المثقفون من مختلف الأذواق والتيارات». كان «تياترو دي بيروت» مركزاً ثقافياً واكثر. ولا مبالغة في القول إنّه أصبح عاصمة الثقافة في التسعينات. فيه المسرح والسينما والشعر والمعارض الفنية والندوات الفكرية، وفيه المحترف التجريبي الذي يسهم في إطلاق الهواة الى عالم الاحتراف وفق أحد أبرز الأسس التي قام عليها المسرح في الستينات.
هناك في عين المريسة، حيث يحتل المسرح زاوية صغيرة على بعد أمتار من تمثال عبد الناصر، المعلمان الوحيدان اللذان لا يزالان يشهدان على هوية المنطقة الأصلية، هناك على مقاعده التي لم تكن في الأغلب تتسع لاستقبال كل المتفرجين، فيحشرون أنفسهم على الأدراج ويفترشون الأرض أو يتابعون العرض وقوفاً، هناك راكمت وأبناء جيلي ذاكرة ثقافية غنية لم تكن متوافرة ولا متاحة لولا المسرح، لكن المسرح أقفل أبوابه في 1998. ولا أذكر أنّ أحداً استنكر او اعترض او رفع الصوت عالياً دفاعاً عن بقائه. ولا أذكر حصول تظاهرات واعتصامات ورثاء من النوع الثقيل، او حتى التفاتة من الصحافة ومحطات التلفزة. هكذا أُقفل المسرح وحسب نحو نيف وعام، قبل أن يبادر المخرج روجيه عساف الى إعادة افتتاحه من خلال مجموعة «شمس»، التي انتقلت بعد ذلك الى مسرح «دوار الشمس» في الطيونة، فأُقفل المسرح مجدداً في 2004 من دون أن يحرك أحد ساكناً هذه المرة أيضاً. علماً أنّ أبواب المسرح بقيت مقفلة طوال خمسة أعوام، قبل أن يتحمس كل من المخرج عصام ابو خالد وطارق عمار وإبراهيم ابو خليل لإعادة افتتاحه من خلال فرقة «ديسيبل» في 2009. مرة جديدة يفتح المسرح أبوابه وسرعان ما يقفلها، لكن... الى الأبد.
عندها فقط دبت الحماسة في النفوس وتنبه اللبنانيون الى أنّ ثمة مسرحاً يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد نزاع استمر أعواماً طويلة. تظاهروا واعتصموا وخطّوا البيانات ودخلوا في حالة رثاء لا مثيل لها. مما لا شك فيه أنّ هدم مبنى تراثي والقضاء على ذاكرة جماعية يستحقان كل هذا وأكثر، لكن يفترض بالمعترضين في هذه الحال التوجه نحو وزارة الثقافة، التي تتحمل مسؤولية الحفاظ على الأبنية التراثية. أما اذا كان كل هذا الندب بسبب هدم صرح ثقافي، فإنّ رد الفعل جاء متأخراً كثيراً، لأنّ المسرح يعاني موتاً سريرياً منذ أعوام طويلة، لكنّ الدموع لا تنهمر والقلب لا يعتصر ألماً إلا في مواكب التشييع. وما إن يوارى «الفقيد» في الثرى حتى ننسى، وربما نحتفي بالجديد الذي لا يمتّ الى القديم بصلة. وحده سعيد سنو، الذي عشق هذا المسرح ودافع عن بقائه طوال 47 سنة، ويتحمل خسارته اليوم بوجع كبير، قال الحقيقة التي تجاهلها الآخرون في حفلات رثائهم الجماعية. قال: «طوال 5 سنوات لم يطرق أي فنان بابي ليطلب أن يقدم عملاً فيه (...) واليوم يريدون الاعتصام من اجل المسرح؟».
هناك في عين المريسة بين ناطحات السحاب و«أبنية الأحلام»، هناك خلف هذا الباب الخشبي العريق بعض من ذاكرة كنت أتلصص عليها كلما مررت في هذا الحي الذي تلاشى في غفلة من الزمن. كنت أمنّي النفس بأنّ ذاكرتي محفوظة في إحدى زواياه.
نندب اليوم الذاكرة ونشيّعها الى مثواها الأخير، لأنّنا أضعف من أن نحافظ عليها أو حتى ننقذها. صراخنا يأتي دائماً متأخراً. بالمناسبة، هل يذكر الغاضبون اليوم مسرحاً اسمه البيكاديللي؟ ماذا لو قرر أصحابه هدم المبنى؟ هل يجرؤ أيّ من الغيارى على التاريخ والثقافة والذاكرة على الاعتراض؟ سيبدو المشهد هزلياً لا شك.
* كاتبة لبنانية