لندع لغيرنا أن يلبس القفازات في مقاربته لما يجري. ولسنا أصلاً في وارد التماثل مع إعلام العدو الذي صار، عقداً بعد عقد، أكثر ارتباطاً بالمؤسسة الحاكمة، وأكثر خضوعاً للرقابة العسكرية التي لم تعد تكتفي بمنع ما تعتبره تهديداً أمنياً، بل صارت تتصرف وفق منطق الرقيب الذي نعرفه نحن العرب جيداً. علماً أن العدو لم يجد بعد علاجاً لمعضلة النشر العشوائي على مواقع التواصل الاجتماعي، فتراه يتكل على «وطنية» الشعب الذي لا يورط بلاده في أزمة، في انتظار أن يصدر تشريع يجرم من يقول ما لا يجب قوله.ما حصل أمس لم يكن مفاجئاً لكل من هو عارف أو منخرط في الصراع المفتوح بين محور المقاومة والعدو. فكرة القيام بعمليات ضد العدو انطلاقاً من لبنان، ليست مرتبطة بجدول أعمال من يعيشون على هامش الأحداث الجوهرية في المنطقة والعالم. وإسرائيل أكثر من يعرف الأمر ويعي خطورته. شكل القصف الذي استهدف نهاراً وليلاً مستوطنات العدو في الجليل الغربي أو في إصبع الجليل، ربما لم يكن في حسابات كثيرين، ومن بينهم جهات في كيان الاحتلال. لكن التوقيت كان متوقعاً في ظل لعبة الاختبار التي يقوم بها العدو من خلال عمليات الاستفزاز في القدس المحتلة. وأكثر ما يجعل بعض أركان العدو، وعواصم أجنبية ودولاً عربية، وقوى كثيرة في لبنان، لا يضعون في حساباتهم احتمال انخراط الساحة اللبنانية في الصراع، هم الذين لا يزالون يحسبون الأمور وفق مقاس ما يعرف بالضغط الداخلي على حزب الله نتيجة الأزمات القائمة في لبنان. حتى أن بعض أصحاب هذه النظرية، اعتبروا أن الاتفاق السعودي - الإيراني سيكون له تأثيره لجهة تجميد الجبهة اللبنانية، كما كان هناك من اعتبر أو قرأ تفاهم الترسيم البحري على أنه بوابة الهدوء المفتوح على الجبهة الشمالية لكيان الاحتلال.
ببساطة شديدة، ما قام عشية معركة سيف القدس وبعدها، أنهى مرحلة من التنسيق الموضعي بين القوى المنخرطة في مقاومة الاحتلال. وانطلق بعدها قطار كبير يصل عواصم بمدن ومحاور تغطي العالم العربي كله، وهو قطار مفتوح لمن هو قادر على تحمل المسؤولية وكلفة الانخراط في معركة كبيرة ستقود حتماً إلى المواجهة المنتظرة التي يراهن أهل الأرض على أنها ستنهي كيان الاحتلال تماماً.
قبل أربعة عقود، قال كثيرون، من قصيري النظر والممتنعين عن تحمل المسؤولية والمتخاذلين والمنخرطين في مشروع العدو، إن العصر الإسرائيلي ثبت نفسه بعد غزو بيروت عام 1982. بعدها بعقد، اعتبر هؤلاء أنفسهم، بعد التسوية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية واتفاق أوسلو المشؤوم، أن لا جدوى من مقاومة الاحتلال. ورفضوا الإقرار بالنتائج التي تدحرجت من تحرير العام 1985 إلى انتفاضة العام 1987 وصولاً إلى صمود المقاومة في لبنان وفلسطين وانتصاراتها بين العامين 1992 و1997، وصولاً إلى تحرير العام 2000 في لبنان، والعام 2005 في غزة، وصمود العام 2006. مع ذلك، فإن الجميع بات يعرف أن المقاومة ليست فقط ذات جدوى فحسب، بل هي قادرة على حماية منجزاتها، وتتقدم خطوات كبيرة صوب الهدف الأكبر. وبالتالي، على من يعتقد أن الحديث عن التحرير الكامل لفلسطين ضرب من الجنون، أن يهدأ قليلاً ويعيد النظر في كل ما جرى خلال أربعة عقود، ليعرف أن الحلم ليس مستحيلاً.
ولأن الحلم ليس مستحيلاً، يجب توفير عناصر النجاح والقوة الكافية له، وهذا ما استوجب المساعي الهائلة التي حصلت في الأعوام الأخيرة نحو توحيد السياسات الاستراتيجية، السياسية والأمنية، في مواجهة العدو. وهو ما فتح الباب أمام ورشة ضخمة تعمل من دون توقف لترسيخ قواعد هذا التحالف. والأمر يرتبط أيضاً بالتجارب المباشرة، وهو ما يحصل من خلال المواجهات المفتوحة عسكرياً وأمنياً مع العدو في أكثر من ساحة.
وعليه، فإن فكرة توحيد الساحات والجبهات لم تعد شعاراً يعمل لتثبيت قواعده بصورة عملانية، بل صار إمكانية متاحة، والعدو هو أكثر جهة على وجه الكرة الأرضية تعرف حقيقة ما يجري. وكل نشاطه الأمني والاستخباراتي والتعاون السياسي القائم بينه وبين دول عربية وغربية، وكل أنشطته العدوانية، تعكس فهمه الدقيق لهذه الحقيقة.
لكن، ثمة خطوات يقوم بها العدو تبدو خارج الحسابات المنطقية. والمقصود، هنا، ليس انتقاصاً من مهنية مؤسساته السياسية أو العسكرية أو الأمنية، لكنه يشعر أنه بات محشوراً في زاوية لا يمكنه التعامل معها بصمت أو بتقييد نفسه، ولذلك يصبح مضطراً لاجتراح حلول لأزمته، وغالباً ما يلجأ إلى القوة التي تمثل عنصراً مركزياً في بنائه العام، ويندفع إلى اعتداءات تفرض معادلات جديدة.
توحيد الساحات والجبهات لم يعد شعاراً يعمل لتثبيت قواعده بل صار إمكانية متاحة والعدو أكثر من يعرف حقيقة ما يجري


الحاصل منذ عامين حتى الآن، أن العدو يحاول كسر الحلقة التي تجمع قوى وعواصم محور المقاومة. لكنه يعرف أن الحسابات باتت تقيده في كثير من الساحات. وفي معركة «وحدة الساحات» التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي، كان العدو حريصاً على عدم القيام بأي عمل من شأنه جر حركة حماس إلى المواجهة. وكما فعل في «سيف القدس»، بأن تجنب أي خطوة غير محسوبة في الجبهة الشمالية لعدم فتح الباب أمام حزب الله للقيام بعمل كبير مساند للمقاومة في فلسطين، فهو يلجأ إلى خيارات العمل الأمني في ساحات مثل لبنان وإيران، لكنه يتكل على «عقدة قائمة» على الجبهة السورية، ما يتيح له توجيه ضربات تلو أخرى، لا تعطل برنامج محور المقاومة، وإن كانت تتسبب بإزعاج، وتتحول عنصر ضغط على القيادة السورية. ومع ذلك، لم يحقق العدو الأهداف التي يريدها.
عملياً، نحن أمام مستوى جديد من تشابك أذرع قوى المقاومة في المنطقة. ما حصل أمس، هو إشارة عملانية إلى أن الجبهة الشمالية، بقضها وقضيضها، مستعدة لخوض المعركة بكل ما تتطلبه إذا تجاوز العدو حدوداً معينة، سواء في القدس أو أمكنة أخرى. وهو لمس، طوال الساعات الماضية، أن الاستعداد لم يعد هذه المرة يقصر على ساحة. وهو أبدى خشيته، للمرة الأولى، من أن يشارك اليمن في الحرب، وأن يعمد أنصار الله إلى توجيه ضربات ذات طابع استراتيجي إذا تطلب الأمر، كما يعرف أن قادة حماس والجهاد الإسلامي في بيروت الآن، وسمع إسماعيل هنية وزياد النخالة يتحدثان عن جاهزية مقاتلي الحركتين في كل أماكن تواجدهم، وليس في الساحة الفلسطينية فحسب، كما يدرك أن حزب الله لن يقبل أي تهديد، وسمع ما قاله رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين من أن القدس ليست وحيدة في المعركة. وحتى الرسالة التي وصلت بطريقة ملتبسة حول احتمال لجوء العدو إلى اغتيال قياديين من حماس في لبنان، بعد تحميل الحركة المسؤولية عن القصف الصاروخي، فإن الجواب عليها كان باستعادة كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي سبق أن حذر من أن المساس بأي مقاوم على الأراضي اللبنانية، بمعزل عن جنسيته، ستعده المقاومة عدواناً مباشراً عليها، وسترد عليه بقسوة وبسرعة، وحتى إن قرر العدو توجيه ضربات موضعية ضد لبنان، فهو يعرف أن الموضعي هنا، يعني اللاشيء، أما إذا تعرض أمن سكان جنوب لبنان لأي نوع من الخطر، فسيكون هناك رد من جانب المقاومة...
منذ أسابيع، تلقى العدو كل ما يلزم من إشارات إلى أن الجبهة المواجهة له متأهبة لخوض أعنف المعارك، وعلى أكثر من ساحة، وبأكثر من مستوى، وما على العدو إلا النظر إلى أوضاعه الداخلية، وإلى حالة الانتفاضة القائمة أو الكامنة في فلسطين التاريخية، وفي جوارها الساخن، وبيده القرار: إما يستسلم للوقائع الجديدة، أو يسير إلى حتفه بقدميه!