البصق على رجال الدين المسيحيين وعلى الكنائس والرموز الدينية المسيحية، بات ظاهرة في القدس المحتلّة، يقودها متديّنون يهود، يعبّرون عبرها، كما يقولون، عن واحد من أحكام الشريعة اليهودية، لا يقلّ أهمية و«نبلاً» عن غيره من الأحكام، وهو قديم قِدَم العهد بأتباع تلك «الديانة الوثنية»، وفق ما يصفون به المسيحية. ولا يخجل هؤلاء من إطلاق توصيفاتهم وعباراتهم هذه في وسائل الإعلام ومنصّات التواصل العبرية، فيما تحوّلت ممارساتهم إلى عادة جماعية شبه يومية، وهذا ما دفع رجال دين مسيحيين إلى مخاطبة رئيس بلدية القدس المحتلة، موشيه ليون، برسالة احتجاج على تصاعد الاعتداءات ضدّ أتباعه. ومن بين نماذج ذلك الصلف ما غرّد به المستوطن إليشا يارد، المتّهَم بالمشاركة في قتل الشاب الفلسطيني قصي معطان من قرية برقة قرب رام الله، على منصّة «أكس»، إذ قال إنه «وقت مناسب للتذكير بأن عادة البصق بالقرب من الكهنة أو الكنائس هي عادة قديمة، والهدف منها تمجيد اسم الله الذي يلوم الأفعال السيئة لعبدة الأوثان» في إشارة منه إلى المسيحيين، مضيفاً أنه «ربّما تحت تأثير الثقافة الغربية، نسينا ما هي المسيحية».وممّا يرد من معطيات من القدس في الآونة الأخيرة، فإنه بمجرّد أن يعرف اليهود أن الشخص الذي أمامهم مسيحي، سواءً أكان مقدسياً أم سائحاً أجنبياً، حتى يبادروا إلى البصق عليه، وهو ما يجعل الكهنة أكثر عرضة للاعتداء، كونه يَسهل التعرّف إليهم من أزيائهم والرموز التي يحملونها. وعن هذه الظاهرة، نظّمت «الجامعة المفتوحة» في القدس ندوة خاصة، شهد عبرها المتحدّثون المسيحيون كيف يطلق عليهم الأطفال البالغون من العمر تسع سنوات وما فوق لقب «الراهب ابن العاهرة» ويبصقون عليهم، وكيف تزعج مجموعات من فتيان المدارس الدينية اليهويدية المواكبَ الدينية المسيحية، فيما تعجز الشرطة الإسرائيلية - أو هي لا تريد - عن التعامل مع تلك الاعتداءات، رغم الإمكانات الفنية المتاحة لديها. أمّا على مستوى كبار الحاخامات والمسؤولين في المؤسّسة السياسية، فيجري التعبير عن رفض الظاهرة كونها «تؤدي إلى الإضرار بسمعة اليهود وإسرائيل»، خصوصاً في الغرب، ما يعني أن هذا الرفض ليس أصيلاً أو مطلقاً، بل هو مرتبط بتداعيات الفعل السيّئة على الدولة العبرية.
انتشر في السنوات الأخيرة نوع من «الوباء» في العلاقات بين اليهود والمسيحيين في إسرائيل


في تحقيق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» (25/06/2023)، يرد الآتي: «انتشر في السنوات الأخيرة نوع من الوباء في العلاقات بين اليهود والمسيحيين في إسرائيل. ووفقاً للوثائق المجمّعة من لقطات الكاميرات الأمنية، والشكاوى التي تُرفع إلى الشرطة، كما الشهادات الشخصية لِمن عانوا من هذه الظاهرة، لا يمرّ يوم لا يتعرّض فيه الرهبان ورجال الدين المسيحيون للإذلال والهجوم، في أجزاء مختلفة من المدينة القديمة ومحيطها». وتضيف الصحيفة أن «التعبير الأكثر شيوعاً، هو البصق مباشرة على وجه الشخص أو على ملابسه، أو على الأرض بالقرب منه، أو عند مدخل المباني والأديرة والكنائس». أمّا صحيفة «هآرتس» (12/06/2023)، فتوضح أن مظاهر الكراهية تشمل «البصق على رجال الدين الأرمن ومهاجمتهم بغاز الفلفل، والتبوّل على باب الكنيسة، وكتابة "الموت للأرمن" على جدرانها، وتخريب المقبرة البروتستانتية في جبل الزيتون، وأعمال شغب في الحيّ المسيحي في القدس، وتخريب كنيسة مريم المقدسة في جبل الزيتون والدير الماروني في معالوت في الشمال، وغير ذلك».
ورغم أن البصق على شخص يُعدّ اعتداءً بموجب القانون الجنائي الإسرائيلي، ويعاقَب عليه بالسجن لمدّة تصل إلى سنة واحدة بل وإلى سنتين عندما يتمّ ذلك على أساس ديني أو قومي، إلّا أن الشرطة تتذرّع بأنه «من الصعب تجريم أشخاص لا يبصقون مباشرة على الأشخاص»، فيما في حالات نادرة جدّاً قرّرت المحكمة تجريم أحد المتديّنين بعد أن بصق على وجه أحد الكهنة من حاملي الجنسية الأجنبية، عبر إبعاده عن البلدة القديمة شهراً. ويأتي هذا التراخي رغم أن الظاهرة، التي لا تُعدّ جديدة في واقع الأمر، «في تزايد مستمر، بخاصة مع وجود الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يشعر الشبان اليهود في ظلّها بأنهم يمتلكون حرية أكبر في فعل المزيد ضدّ المسيحيين»، وفق ما يؤكد رئيس مكتب البطريركية الأرمنية، الأب عيران، في حديث إلى موقع «يديعوت أحرونوت» (07/06/2023)، لافتاً إلى «(أنّنا) أرسلنا فيديوهات إلى الجهات المعنيّة، بعد أن بدأت الظاهرة تزداد في الأشهر الأخيرة، إذ إننا عندما نتّجه إلى كنيسة القيامة نتعرّض للبصق، ويسألنا الحجاج المسيحيون عن ذلك، فنجيب بأنهم إذا رأوا كاهناً يونانياً أو أرمنياً يرتدي زيّه الديني، يبصقون عليه».

البصق على شخص يُعدّ اعتداءً ويعاقَب عليه بالسجن سنة واحدة بل وسنتين عندما يكون على أساس ديني أو قومي


من جهته، يفيد أستاذ الدراسات الدينية في الجامعة العبرية، يوناتان موس، في حديث إلى صحيفة «يديعوت أحرونوت» (04/08/2023)، بأن «هناك زيادة مثيرة للقلق جداً في عدد الهجمات ضدّ المسيحيين ومؤسّساتهم في إسرائيل. فإلى جانب الزيادة في أعمال تخريب الكنائس والأديرة والمقابر، من طريق الحرق وتحطيم شواهد القبور، فإن الشخص المسيحي، الذي يمكن التعرّف إليه بسهولة كما هو حال الرهبان، يعاني يومياً من العنف والبصق عليه». ويروي موس أنه «منذ وقت ليس ببعيد، دعوتُ أحد زعماء الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في القدس إلى استقبال السبت في كنيس، وقال إنه صُدم لأنه قضى ساعة كاملة مع اليهود الذين يرتدون القلنسوة من دون أن يبصق أحد عليه. واقعه اليومي أن السير في شوارع القدس هو ازدراء صارخ وواضح من المارّة اليهود».
إزاء ذلك، ولأن إسرائيل تخشى على سمعتها وعلى مواردها المالية الآتية من السياحة الدينية، فقد اندفع بعض مسؤوليها إلى استنكار الظاهرة وطلب معالجتها. وفي هذا الإطار، قال المدير العام لمكتب السياحة الإسرائيلي، يوسي فاتال، في رسالة إلى رئيس بلدية القدس، إن «هناك خشية جدّية من إلحاق الضرر بالحركة السياحية في العاصمة (يَقصد القدس المحتلة) بسبب التحرّش بالمسيحيين وإذلالهم»، مضيفاً أن «هذه الأذية باتت شيئاً عادياً في بلادنا. يجب مواجهة الظاهرة ومحاكمة المرتكبين الذين يؤذوننا. كيف نسمح لأحد ما بأن يبصق في وجه المقدسي الذي يكسب عيشه من السياح (لأنهم مسيحيون)؟ كيف سيكون ردّ فعلنا إذا بصقوا علينا لأننا يهود؟ هذه صفعة على الوجه، صفعة لصورة إسرائيل ومكانتها في العالم».
لكن وفقاً لصحيفة «هآرتس»، التي تُعدّ من «الحزب» الداعي إلى معالجة عوارض «المرض» لا أسبابه - في ما يمثّل دفاعاً أقبح من «الذنب» نفسه -، فإن رئيس بلدية القدس ووزير السياحة، حاييم كاتس، لا يزالان يلزمان الصمت، شأنهما شأن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وقسم من الحاخامات، الذين يقابلهم آخرون ينظّمون المسيرات تأييداً للظاهرة. وهكذا، تبدو إسرائيل منقسمةً أيضاً حيال ظاهرة ازدراء المسيحيين وإهانتهم، والتي تُعدّ، على أيّ حال، نتيجة طبيعية للكراهية المتأصّلة في جيل الناشئة من اليهود، وتحديداً خرّيجي المعاهد الدينية المتطرّفة على أنواعها - «حريدية» كانت أو دينية قومية أو حتى علمانية -، والذين يتربّون على كراهية الآخرين والنظر إليهم بفوقية، كونهم مجرّد «كائنات خلقها الله لخدمة اليهود»، الذين يعلونهم مرتبةً وقرباً من الله، في مقابل دونيّتهم هم وحتى حيوانيّتهم.