لفرط اليأس، ووحشة الطريق، وقلة الزاد، بدا أن فلسطين تنأى بعيداً، وأنها لم تعد تصلح إلا لمواضيع الإنشاء المدرسية، والمناسبات الوطنية العابرة، فانزلق بعضهم إلى الضفة الأخرى بوصفه ليبرالياً قحّاً، لا يرغب بأن يتلوّث حبره بتضاريس هذه «الجغرافيا الرّثة»، ومفرداتها الصدئة، وتاريخها منتهي الصلاحية، فاتحاً ذراعيه لعسل الـ «إن. جي. أوز» بزبائنيّة مغطّسة بالشوكولا، متجولاً ببضاعته بين العواصم إلى حدّ أن يخلع سرواله، لكنه في غمرة انشغاله بتقليد عجين الفلاحة كقرد أصيل في السيرك، هناك من قلب الطاولة رأساً على عقب في طوفانٍ جارف خلخل المشهد تماماً، فانكفأ هذا الكائن العولمي إلى إنسانية مباغتة بذريعة خوفه على دمار غزة، هو الذي لم يتضامن يوماً مع صيادي السمك الفقراء. هكذا تبادل السكان الأصليون مع الغرباء المحتلين الأدوار في مشهد مدهش، كما لو أننا إزاء مقطع من شريط «بروفة الأوركسترا» بتوقيع فيلليني، بفارق أن أبطال الأوركسترا الفلسطينية مزّقوا النوتة الموسيقية دفعة واحدة، لمصلحة الناي وحده، إذ كيف ننسى مشهد المستوطنين في لحظة فرارٍ جماعي إلى صحراء لا تقود إلى جهة ولا ملاذ، ثم هناك منظر جنود المستعمرات أولئك الدمى المعدنية المدججة بالسلاح وقد تحوّلوا إلى فئران مذعورة في مختبر المواجهة. هكذا اختزل عشّاق فلسطين المحتلة المسافة بين نكبة 1948، وحلم العودة إلى البلاد بضربة مباغتة جعلت العالم يقف على ساقٍ واحدة، كأن لا جدران عازلة، ولا أسلاك شائكة، ولا رادارات، ولا أسطورة، في سيناريو مبهر لم يألفه أحد قبلاً بمثل هذا الكمال لجهة استعادة الكرامة المهدورة. كان الرواة يقولون في مجالس الحكي «شيء مثل السينما»، لكن ما شهدناه في ذلك السبت الاستثنائي يتفوّق على تاريخ الصورة بجرعات أكبر من البهجة البصرية المشتهاة. على الأرجح، سيستيقظ غسان كنفاني في قبره وهو يرى حيفا على مرمى حجر، وسيتجوّل جبرا إبراهيم جبرا في شوارع القدس بصحبة «وليد مسعود» بعدما حلّ لغز شريط التسجيل عن سبب اختفائه في الصحراء أخيراً، وسينشد إبراهيم طوقان مجدّداً «لا تسل عن سلامته/ روحه فوق راحته/ بدّلته همومه/ كفناً من وسادته»، فيما سيتجاوز إدوارد سعيد عتبة بيته المُغتصب غير عابئ بتحذير الغرباء من دخوله، إذ لم يعد منفياً «خارج المكان»، وكان على زكريا محمد أن ينهض من «ضربة شمس» ليقول «أجرّح النهار بشفرتي».
كان على زكريا محمد أن ينهض من «ضربة شمس» ليقول «أجرّح النهار بشفرتي»


في مفكرة فلسطين المثقلة بالتواريخ، ينبغي لنا أن نقول ما قبل «طوفان الأقصى» وما بعده، إذ يصعب انتشال الغرباء من الغرق بعد اليوم، مهما كانت قوة البطش الإسرائيلي، فهناك مسافة شاسعة بين المقيم والعابر، وبين لغة الزيتون، ولغة القتل، وبين العبور، و الـ «عابرين في كلامٍ عابر». أمّا نحن فسنعيش «عدوى الأمل» إلى آخر النشيد، وإلى آخر النشوة الصوفية، وسنردد كما لو أننا في حلقة ذكر: مدد يا «غزّة» مدد!