يبدو أن البضاعة الدعاوية الفاسدة، وسلسلة الأكاذيب الفجة لنتنياهو وناطقه الممثل المسرحي الفاشل أفيخاي أدرعي، ما عادت صالحة للتسويق. بالنسبة إلى كبريات شبكات الإعلام الإمبريالي، أمثال «الواشنطن بوست» و«النيوزويك» و«النيويورك تايمز» و«السي إن إن» و«الغارديان»، فليست بحاجة إلى نتنياهو ولا إلى أفيخاي، فهي جاهزة لفبركة كل ما شأنه شيطنة الفلسطيني ومقاومته، وتقديم الفاشيين الصهاينة باعتبارهم «حمامات السلام». فـ«السي إن إن»، الأكثر عدائية لشعبنا بين شبكات الإعلام الإمبريالي فضحت نفسها، إذ تسرّب فيديو يُظهر كيف تفبرك الشبكة صوراً لشيطنة الفلسطيني أمام الإسرائيلي (حمامة السلام)، وقد سحبوا الفيديو عندما انفضح أمرهم.أمّا بالنسبة إلى الجمهور الغربي العريض، فيبدو أنه كان بحاجة إلى بضعة أيام، على الأقل حتى يوم الخميس الماضي، ليستردّ وعيه، أو إلى الدقة ليمّحي الغباش عن عيونه، ليكتشف أن قصة «قطع رؤوس الأطفال اليهود» مجرد كذبة مفضوحة ورخيصة لا تليق إلا بأبناء مدرسة غوبلز النازي في الإعلام. فحتى البيت الأبيض لم يبلعها، وكذّبها بطريقة غير مباشرة، العجوز بايدن عندما تحدّث عنها، فيما منظر أفيخاي أدرعي وهو يعرض راية «داعش» باعتبارها راية مقتحمي مستعمراتهم كان أشبه بمشهد مسرحي مضحك، وخاصة مع الانفعالية المدّعاة، بصورة مصطنعة تماماً، لمقدمها. وقد ينطلي هذا المشهد على السذّج من الغربيين، وخاصة الأميركيين، والعديد منهم هم فعلاً كذلك، ولكنها لا تنطلي على مَنْ يطرح السؤال البديهي: ما حاجة مقاتلي «حماس» ليرفعوا راية «داعش» عندما يقتحمون المستعمَرة؟ هل سينسبون البطولة والسبق والإنجاز لغيرهم؟ فعلاً إن أفيخاي هذا ممثل فاشل. حتى الإعلام الصهيوني بدأ يتحدث عن تراجع الرواية الصهيونية الدعاوية، وهذا التراجع منطقي، فحبل الكذب قصير كما يقال، وخاصة أن الحبل سيقصر كثيراً عندما تظهر حقيقة بنك الأهداف الصهيوني: المنازل والأطفال والعائلات والمستشفيات والمؤسسات والنازحون وسيارات الإسعاف والصحافيون والتهجير و و و.
ما يؤكد أن البضاعة إيّاها ما عادت صالحة للتسويق، هو انطلاق عشرات المسيرات الألوفية الضخمة خلال اليومين الماضيين، في واشنطن وسياتل ولوس أنجلس وفلوريدا وتورنتو، وفي لندن وبرشلونة وباريس وجنيف وميلانو وروما وبلفاست، وحتى في ألمانيا، موطن النازية الجديدة، في تحدّ جدّي لمنع التضامن. إنّ الحديث يدور حول عشرات الألوف في كل مسيرة، وخاصة في لندن وبرشلونة وجنيف وفرنسا، فيما لم تجد أنظمة الليبرالية الجديدة، الديموقراطية جداً، في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلا العصيّ وخراطيم المياه والغاز المسيّل للدموع، للتعامل مع الحق بالتعبير الذي يتغنون به.
يمكن ملاحظة أن الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية أعلنت «النفير العام» للفعاليات الشعبية المناهضة للعدوانية الصهيونية، وتضامناً مع القطاع والمقاومة، وواضح من حجم الأرقام المتداولة إعلامياً للحشود المتضامنة، أن قطاعات واسعة من المواطنين الغربيين انخرطت في الفعاليات في تأكيد جديد على أن متغيرات بدأت تظهر على صعيد الوعي الشعبي الغربي باتجاه افتضاح كذب الرواية الصهيونية والأخذ بالرواية الفلسطينية.
صراع بين روايتين، فلسطينية وصهيونية، على الرأي العام الغربي. ولكن ينبغي التنويه مقدماً بأن الرأي العام رأيان، الرأي الرسمي ومعه شبكات الإعلام الضخمة المعبرة عن الأنظمة الإمبريالية دونما رتوش، وهذا الرأي العام قادر على التأثير على قطاعات شعبية، وحتى على تغذيتها بحقن العنصرية البغيضة. ولنتذكر العنصرية الشوارعية والمؤسساتية ضد الروس بعد العملية العسكرية في أوكرانيا، وكذا ضد السود في الملاعب. وهناك الرأي العام الثاني الذي يمكن وصفه بالشعبي، والذي يتشكل عبر شبكات التواصل والفعاليات والمبادرات والأحزاب اليسارية والشيوعية والنقابات والحراكات الاجتماعية، الشبابية والنسوية، والذي يؤدي فيه النشطاء الفلسطينييون ومنظماتهم الجماهيرية دوراً مهماً، والذي يبدو أن الفعاليات التضامنية خلال اليومين الماضيين تعبير صادق عنه.
على صعيد الرأي العام الشعبي، يجب أن تتنشط الجهود أكثر فأكثر، فهنا التأثير ممكن، وهذا الرأي العام يملك قوة ضغط شعبية على حكومات الدول، إذ في لحظة يصعب القفز عنه، فيحدّ، بالحد الأدنى، من الاندفاعة الغبية لتأييد العدوان الصهيوني. ويملك القدرة على نسف الرواية الصهيونية من أصولها، وخاصة تلك المفصلية الجوهرية دائماً وأبداً في تلك الرواية وهي الهولوكوست، الذي حوّلته الصهيونية إلى عبء على أكتاف كل أوروبي. إن الهولوكوست النازي الألماني الذي ذهب ضحيته الملايين من الأوروبيين، ومنهم اليهود، نجحت الصهيونية في تحويله من مفصلية ضد النازية الألمانية إلى ورقة ابتزاز يرضخ لها الأوروبي، حتى كفرد، ليتحوّل اليهودي بعد الحرب العالمية الثانية من ضحية للنازية تكسب تعاطف الغرب وتسليحه وموقفه، إلى مرتكب للهولوكوست الجديد ضد الفلسطيني. ضحية تحوّل إلى جلاد، والغرب الإمبريالي الذي تسبّب في كونه الضحية يدعمه بكل قوة وهو جلاد.
* كاتب فلسطيني وأسير سابق