لم تعد مفردة «التماهي» بين الغرب وإسرائيل قادرة على وصف المشهد السياسي والدولي المرتسم جرّاء الحرب الوحشية المفتوحة على غزة، بمدنييها العُزّل أولاً وعمرانها الفقير ثانياً ومقاوميها الأبطال أخيراً. فالإحاطة بحقيقة المشتركات التي أفضت إلى فضح الوجوه ومعها كامل أهداف السياسات الغربية إلى جانب الكيان باتت تتطلب ما هو أبعد وأبلغ من مفردة التماهي. فالمفردة هذه، على دقتها وسعة معناها، تبدو قاصرة، وهي فعلاً كذلك، عن تفسير «المتغيّرات» الجوهرية، (هذا إذا كانت هناك من متغيّرات جوهرية أصلاً غير افتضاح الهشاشة الإسرائيلية) التي حدت بقادة الغرب وساسته إلى ارتكاب ما ارتكبوه لجهة هذا الاستعراض الفظّ والسافر لعدوانيتهم الكامنة، (غير الخافية إلا على بعض التُّفَّه من أصحاب الفهم البسيط، أو المرتزقة المأجورين) وسرعة وجماعية تقاطرهم إلى تل أبيب، وتوليهم المباشر لمهمة إعلان الحرب ورسم مخططاتها وتوفير مواردها.طبعاً، المسألة، وعلى ما بات واضحاً، أبعد من القول بأن تطوراً في الموقف قد طرأ، أو بأن متغيّراً جديداً قد وقع، وهو ما فرض بالتالي على هذه السياسات أن تبالغ في تعرّيها المشين من أردية الكذب المهترئ والنفاق المهلهل، بل ومن كل ما وسم توجهاتها السابقة أو المعلنة من «تحفظ» مزعوم. مسارعة الغرب بعسكره وساسته وإعلامييه... أي بقضّه وقضيضه، وقبل «انبلاج الفجر» الغزاوي، إلى التخفّف الكامل من «أثقال» مراعاتهم الشكلية لمفاهيم ومبادئ القانون الدولي وعهوده ومواثيقه... ولا نقول للشعور العربي أو الإنساني الذي لا جدال في أن لا وجود له في قاموس هؤلاء الذين أذاقوا العالم، كل العالم، الويلات وأغرقوه في الدماء، كان أكثر من لافت. فالجهر الغربي بالمكنونات العدائية العميقة، ولو أنها كانت معروفة للقاصي والداني، ولكل من له صلة ولو واهية بالشأن العام العربي أو الدولي، يقول ما يتجاوز اللحظة، وما تضمّنته من تطورات أفضت إلى نجاح المقاومة الباهر وتمكّنها من تسديد الضربة العسكرية الكبيرة، ويضيء على ما هو أبعد من الانحياز وأخطر منه. صحيح أن الانحياز الغربي إلى إسرائيل ليس بالجديد ولا بالطارئ، بل هو مألوف ومتوقع. لكنه، مع ذلك، لم يسبق له أن بلغ هذا الحد الكاسر مع «القواعد». وهو، إذ يتجرّأ، اليوم، ويكسر معها ومع الأعراف التي طالما طبعت سياساته المنحازة، التي غالباً ما كان يجري تمريرها بحيل السياسة وألاعيب الدبلوماسية، بل وحتى تبريرها بأكاذيب من نوع الجهل وعدم المعرفة. فإنه اليوم، ومن خلال تبنّيه العلني للحرب الإسرائيلية، وإبداء الاستعداد السافر لخوضها في الميدان، يفضح ما كان موارباً لجهة أن هناك فعلاً ما هو أبعد من كل ما سبق. وهذا الأبعد يشي أو يفضح بأن هناك ثمة جذراً أساساً لكل هذا الانحياز الذي يواصل العرب، نتيجة لذيلية حكامهم وتفاهة مسؤوليهم، دفع أثمانه الباهظة من مصالحهم ومستقبل وجودهم. والأرجح أن الجذر العميق لكل هذا الانحياز السابق، والتماهي اللاحق، والذي يتجاوز المصالح المشتركة، أو التكفير عن المسؤولية الغربية المباشرة والمسكوت عنها تجاه المحرقة الأوروبية، يكمن في أن ثمة «كراهية» غربية متأصّلة وموروثة وذات امتدادات عميقة وعميقة جداً تجاه العرب.
أما في أسباب هذه «الكراهية»، وهي حتماً سياسية وإن اختُرعت لها جذور «ثقافية» مفبركة، والانحياز الناجم عنها، فالأكيد أن لا صلة مباشرة لها باليوم ولا بمجرياته البطولية التي تصنعها بنادق المقاومة وتضحيات مناضليها. البحث الجدي عن الأسباب لا بد أن يقودنا نحو الماضي القريب أو ربما البعيد. ففي الحاضر، أي حاضر يسكن الماضي أو بعضه. وفي طيّات الماضي ربما أمكن العثور على بذور هذه الكراهية الغربية العمياء، والحقد الدفين، ورغبة الانتقام التي لا ترتوي برغم كل الدماء العربية المسفوحة والمسفوكة سواء في فلسطين أو في غيرها من الأصقاع التي وصلتها رياح «التمدين» الغربية وعواصفه، كالعراق وسوريا واليمن... وهنا يجدر بالمعنيين من العرب، ونحن منهم، العودة إلى التاريخ علّهم يعثرون على الأسباب السياسية، الكامنة خلف هذا العداء الغربي المتأصّل تجاه المنطقة وأهلها، إذ ربما وجدوا أنها ذات صلة ما بالمشروع العربي الوحدوي شبه الوحيد الذي قاده جمال عبد الناصر أو ربما بما هو أبعد زمنياً ومكانياً، خصوصاً أن إعمال العقل لفهم أسباب هذا الانحياز الغربي اللامحدود والتماهي المصاحب له لا بد أن يقود إلى ما هو جوهري في عقل هذا الغرب ووعيه. والأرجح أن ثمة ما هو «قديم» وراسخ في هذا الوعي المسكون بروح الانتقام ورغبة التشفّي، برغم كل دعاوى العقلانية المزعومة، بل ويجعله يبدي هذا القدر من الكراهية اللامحدودة. فالقول بالمصالح ومفصليتها في رسم السياسات، ودور الغرب ووظيفته في تمكين إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي ومسؤوليته عن هذا التمكين وإدامته، على صحته ودقته، لم يعد يكفي لتفسير هذه النقلة «المجنونة» التي أقدم عليها قادة الغرب، والتي دفعته إلى حد تصدّر المشهد وتولّي إعلان الحرب الشاملة على كامل المنطقة وأهلها.
إن الموقف الغربي المعلن اليوم يتجاوز الانحياز إلى إسرائيل، والوقوف إلى جانبها فحسب، إلى الوقوف أمامها والقتال نيابة عنها، وهو الموقف الذي لا شك في أنه يفوق كل ما كانت تريده إسرائيل أو تحلم به أو تطمح إليه. فالحرب الجارية على غزة اليوم، هي، في الشكل كما في المضمون، حرب على كامل المنطقة العربية، وهي حرب غربية بكل الأبعاد والمواصفات، وتتجاوز هدف الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل والمصلحة في إنقاذها ومداواة جراحها الثخينة. إنها صورة من صور الرغبة الغربية الدفينة بالإطباق الكامل على المنطقة والسيطرة التامة عليها وفرض الاستسلام على أهلها والشطب الكامل لهويتها العربية الذي يشكل شطب الهوية الفلسطينية وتذويبها أحد ممراته الإجبارية. إنه السياق الناظم والتفسير الممكن لخطة التهجير الكبير لأهل غزة، والتي لا تكتفي بمحاكاة تهجيرَي «النكبة» و«النكسة» بل تتفوّق عليهما بالسعي إلى التبديد الكامل لكامل الشعب الفلسطيني، وهو ما يجري اليوم العمل عليه سياسياً من خلال الضغط على الدول المجاورة، وعسكرياً من خلال عمليات المحو الممنهج والإبادة الجارية لكامل العمران الغزاوي.
في الغضون، يواصل «قادة» العدو الإسرائيلي الفعليون من مقرهم المركزي في العاصمة الأميركية واشنطن، وبالتنسيق المتزامن مع باقي الولايات التابعة في أوروبا، من لندن إلى باريس إلى برلين وصولاً إلى... تل أبيب، مروراً ببعض المخافر الفرعية في الرياض والدوحة وأبو ظبي ورام الله، قيادةَ وتنفيذ الحملة العسكرية البربرية على مدنيّي غزة ونسائها وأطفالها وشيوخها. وحين يقال إن واشنطن هي عاصمة إسرائيل، وإن تل أبيب هي مجرد مركز الولاية المسماة إسرائيل، فلا خطأ مطبعياً ولا إنشائياً. بل هو ربما كان أقرب الأوصاف للإحاطة بالواقع الذي تكفّل بايدن وتابعوه في الولايات الأوروبية وعواصمها بتقديمه بأقذر ما يمكن أن يكون من خلال المشاركة في وضع خطة الإبادة الجاري تنفيذها وبنشاط محموم في غزة وعموم فلسطين.
المعركة مع إسرائيل هي معركة مع كامل الغرب، والعكس صحيح. ولا خيار لنا غير الانتصار... وإننا لفاعلون حتماً. إنه وعد المقاومة ووعد سيّدها ووعد وحدة ساحاتها وصلابة محورها وبأس رجالها القابضين على الجمر، الجمر الذي لا بد له مع تعاظم نيرانه الغزاوية ومعها نيران باقي الساحات المتمّمة أن يشعل الأفق ويزيّنه بأحلام التحرير الذي لم يعد ببعيد.