بينما تقع منطقتنا تحت هجومات استعماريّة مستمرّة ومتواصلة، تغيّب أكثريّة المدارس وأكثر الإعلام هذا الواقع عن الفكر الاجتماعيّ، عن الطلّاب والأهل، وعن مجالات النقاش الثقافيّ، بل وصل البعض إلى قمع كلّ مجال للنقاش في هذا الواقع تحت مسمّى «اللغة الخشبيّة»، بمعنى أنّ الزمن في رأيهم (المنفصل عن الواقع) تجاوز هذا الخطاب، بينما قتل آلاف المدنيّين الفلسطينيّين من شعبنا الذي يقوم به الاستيطان العنصريّ التدميريّ في فلسطين المحتلّة مع «المتوحّشين» الحقيقيّين الذين يقدّمون له الدعم، يوضح من جديد أنّ حرب الاستعمار علينا قائمة على قدم وساق، وأنّ العدوّ الصهيونيّ يمثّلها اليوم بشكل صاف. أمام هذا الواقع، نجادل في هذه المقالة أنّ الكنائس مقصّرة في الطلب من مؤمنيها الالتزام الإيمانيّ بالمساهمة الفاعلة في رفع الظلم القائم بمشروع الاستعمار.

في رأيي، على الكنيسة، بلسان الناطقين باسمها، أن تنأى عن توجيه المؤمنين إلى مشروع سياسيّ أو حزبيّ، فهدف الكنيسة أن تحفظ الإيمان الفاعل وأن تكون مجالاً لكي يبقى المؤمنون مخلصين ليسوع ومحبّين له. لكنّ محبّة المسيحيّين يسوعَ لها أبعاد اجتماعيّة سياسيّة اقتصاديّة، ليس بمعنى المشروع، ولكن بمعنى التوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في هذا العالم. لا يمكن لمؤمن يرى أنّ الله محبّة وبالتالي أنّ المحبّة هي طريقة الحياة الإلهيّة، وأنّه ليحيا بالفعل ينبغي أن يتمرّن على عيش المحبّة في هذه الحياة (وهذا برأيي لبّ الإيمان المسيحيّ متجسّداً ومضغوطاً في جملة)، أن يكون لا مبالياً في هذه الأرض، وما يجري فيها من سياسة واجتماع واقتصاد. إنّ الإيمان المسيحيّ يفرض الالتزام فرضاً في وجوه الحياة كافّة، يفرض طريقة حياة تريد أن تُمسك بهذه الأرض وأن تجبلها مع يدَيّ الخالق لكي تصير تباشير سماء، قدر الممكن، قبل اليوم الأخير، وإلّا كان الإيمان وهماً وهروباً من المسؤوليّة. لهذا السبب من واجب الكنيسة أن تلاحظ مواطن الظلم في المجتمع وأن تدعو مؤمنيها إلى الالتزام الجذريّ برفع الظلم، بالطريقة التي يرتؤونها.
هدف الالتزام هو الدفاع عن الحياة بتحويل هذه الأرض إلى مكان مشاركة، كتعبير عن المحبّة، إذ لا محبّة دون مشاركة. فكما أنّ محبّة الآب والكلمة والروح القدس قائمة في وحدانيّةٍ هي المشاركة في كمالها، كذلك يكون مسعى المؤمنين على هذه الأرض. كلّ ما هو بتضاد مع المحبّة المشارِكة هو ظلمٌ مضاد للمسيحيّة، وتنبغي مواجهته بإيمان ملتزم يسعى إلى العدالة على الأقلّ وإرساءِ أسس المحبّة في المجتمع، في النُّظُم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. المحبّة المشارِكة هي التي تحدّد عدالة القضية التي يسعى الإنسان من أجلها. فمثلاً، نظام اقتصاديّ ينفع 1% من السكّان ويُفقِر معظمهم هو نظام مضادّ للمسيحيّة وينبغي تغييره لصالح نظام يعكس المشاركة في خيرات الأرض وما عليها، فهي في النهاية للّه، ونحن نتشارك فيها. وعلى ذلك قِس وقيسي.
لكن، كلّ ذي عقل يعلم أنّه دون قوّة لا يمكن الوصول إلى عدالة، ولذلك يجب رفض الاستكانة والخنوع للظلم وأن نفهم أنّ النضال هو الوسيلة الوحيدة لممارسة القوّة. أن تكون القوّة قوّةَ نضالٍ عنفيّ أو لا عنفيّ، فهذا أمر يمكن بحثه. وبما أنّ هناك وصيّة بعدم القتل وتأبى الكنيسة في تعليمها الرسميّ أن تدعو إلى العنف (وهذا أمر جيّد)، وحتّى الذين مثلي يقولون بجواز استخدام العنف لرفع الظلم يعلنون أنّ القتل يبقى شرّاً دائماً، وأنّ استعماله هو اضطراريّ لردّ شرّ أعظم على أن يكون مضبوطاً أخلاقيّاً ومرتبطاً بهدف التحرير؛ يكون لزاماً على الكنيسة في الحدّ الأدنى أن تشجّع وتعلّم المؤمنين على رفض الخنوع أمام الظلم، والتمسّكِ بالعمل لردع الظالم وفرضِ العدالة عن طريق قوّة نضال لا عنفيّ منسجم مع المبادئ المسيحيّة. هذا أقلّ الإيمان. غياب التوجيه، كما هي الحال اليوم، أدّى إلى نتيجتين كارثيّتين؛ الأولى في الحرب اللبنانيّة ألا وهي ميليشيات مسلّحة ارتكبت مجازر ولا تزال تشيع الحقد والعنصريّة، والثانية اليوم، ألا وهي غياب أيّ حضور مسيحيّ جماعيّ فاعل في النضال اللاعنفيّ ضدّ الظلم. يمكن للنضال أن يكون عنفيّاً أو لا عنفيّاً في أفق عدالة تجسّد المحبّة المُشاركة، أمّا غياب النضال ضدّ الظلم فهو خيانة لرسالة الإنجيل.
في موضوعنا اليوم، ألا وهو الاستعمار الأوروبّي والأميركيّ المتمثّل بمشروعه المدمّر في المنطقة الذي يمثّله نظام الاحتلال العنصريّ، فإنّ الكنائس مدعوّة لغرس وعي الظلم القائم هذا، وللطلب رسميّاً من مؤمنيها بأن يلتزموا النضال لرفع هذا الظلم عن شعبنا وأرضنا في فلسطين. هذا واجب إيمانيّ، وهو أيضاً يمثّل جواباً إيمانيّاً على أمرين: الأوّل هو الدعوة التي وجّهها المجتمع الفلسطينيّ عام 2009 إلى كلّ المجتمعات كي تساهم برفع الظلم والقتل والتنكيل، وبالتحرير عن طريق المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة، والثاني هو الدعوة التي وجّهتها الكنائس رسميّاً من خلال نداء «كايروس فلسطين» لدعم المقاطعة كطريقة نضال لا عنفيّ (دون أن تغلق الباب على النضال العنفيّ) من أجل تحرير الفلسطينيّين عن طريق هزيمة المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ ونظام الفصل العنصريّ القائم في فلسطين المحتلّة.
إن كان الواجب الإيمانيّ المسيحيّ هو دائماً تجسيد المحبّة على هذه الأرض، وبالتالي السعي إلى تحقيق العدالة وطرق المشاركة في الخيرات، فإنّ دعوة الكنائس في بلادنا رسميّاً لمؤمنيها للالتزام بالمقاطعة الشاملة لكيان الاحتلال الصهيونيّ ستكون جواباً كنسيّاً طبيعيّاً على نداء إخوتهم وأخواتهم في فلسطين المحتلّة، ويعبّر بشكل مباشر عن الإيمان المسيحيّ بأنّ كلمة الله تجسّد وأحبّ العالم حتّى بذل نفسه لأجله. وبالإضافة إلى الدعوة هذه، من واجب الكنائس الأنطاكيّة الرسميّة أن تلتزم بالعمل الفاعل العلنيّ في الغرب، بواسطة مطارنتها وكهنتها ولاهوتيّيها، وشرح واقع فلسطين والاحتلال العنصريّ الصهيونيّ ودفع الكنائس الغربيّة كي تلتزم بمقاطعة الاحتلال. هذا واجب صعب، صليب، ينبغي للكنيسة أن تحمله كي تدافع عن الحياة في فلسطين.
نعم تنأى الكنيسة بنفسها عن تفاصيل المشاريع السياسيّة والحزبيّة والاقتصاديّة، ولكن ينبغي لها ألّا تنأى عن تعليم أنّ الإيمان التزام بتجسيد المحبّة ومواجهة كلّ ما هو ضدّها، ينبغي ألّا تنأى عن الدعوة العلنيّة لمناهضة الاستعمار المدمّر لشعوبنا، خاصّة بعدما صدر نداء «كايروس فلسطين»، وإلّا تكنْ تنأى عن مسيحها المصلوب المرسوم على وجوه المظلومين.
الوقت قد حان لإصدار الكنائس المسيحيّة الأنطاكيّة، مجتمعة أو متفرّقة، نداء إلى مؤمنيها كي يلتزموا يوميّاً بمقاطعة الكيان الاستعماريّ المحتلّ وأن يصبحوا مشاركين فاعلين مع الجميع في المقاطعة، لأنّ هذا يكون جواباً حقيقيّاً متجسّداً في لحم هذا العالم لمحبّتهم ليسوع المسيح، وسعيهم إلى تجسيد محبّتهم له بتعميد العالم ليصير مكان مشاركة، ليصبح كنيسة بالمعنى العميق للكلمة، تجمع أبناء وبنات الله جميعاً في وحدة محبّة راسخة في العدالة والمشاركة، فيعمّ السلام.

* كاتب وأستاذ جامعي