يؤدّي العدوان الصهيوني على قطاع غزة إلى أضرار هائلة تصيب الاقتصاد الإسرائيلي بقطاعاته كافة، وتفوق ما تكبّده العدو في كل حروبه السابقة. لا توقعات بأن ينهار اقتصاد العدو، لكن الثابت والأكيد أنه يُستنزف، وهذا ما سيظهر بوضوح عندما تضع الحرب أوزارها، وتتكشّف الخسائر الفعلية والنهائية - المباشرة وغير المباشرة - وسط عاصفة من تبادل الاتهامات وتقاذف المسؤوليات والبحث عن مصادر للإيرادات وتقليص العجوزات. ثمة ثابتة أخرى، وهي أن الدعم الأميركي لن يتوقف. لكن الأموال الآتية من الخارج ستنطوي على تداعيات من نوع مختلف يظهر في التضخّم. وفي الأحوال كلها، لن يكون اقتصاد العدو الإسرائيلي بمأمن من الخسائر والتداعيات التي ستعيده بالتأكيد إلى الوراء.يقدّر بنك «هوعليم» الصهيوني كلفة الخسائر بما لا يقل عن 27 مليار شيكل (6.8 مليار دولار إذا كان سعر صرف الشيكل 3.97 لكل دولار). وتستند هذه التوقعات، إلى بيانات معهد دراسات الأمن القومي عن أكلاف إسرائيل في حرب لبنان الثانية (تموز 2006) التي استمرت 33 يوماً، وبلغت 9.4 مليار شيكل أو ما يعادل 2.4 مليار دولار آنذاك، أي 1.3% من حجم الناتج المحلي لذاك العام والمقدّر بنحو 185 مليار دولار. ويقدّر البنك خسائر عملية «الرصاص المصبوب» (كانون الأول 2008 – كانون الثاني 2009) بنحو 3.3 مليار شيكل (835 مليون دولار)، فيما بلغت خسائر حرب غزة 2014 التي استمرت 51 يوماً نحو 3.5 مليار شيكل، أو 0.3% من الناتج المحلي الإسرائيلي الإجمالي.
ويقول كبير الإستراتيجيين في بنك «هوعليم» مودي شفرير: «يمكن الافتراض (بتقدير تقريبيّ كثيراً) أن كلفة الحرب الحالية ستبلغ ما لا يقلّ عن 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني زيادة في عجز الموازنة بما لا يقل عن 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي العام المقبل، علماً بأن تقديرات أحدث أشارت إلى أن الخسائر ستبلغ 11% من الناتج المحلي.
أدّت حروب إسرائيل الماضية إلى شلل جزء من النشاط الاقتصادي من دون أن تستمر طويلاً. لكن عملية 7 تشرين الأول 2023 وما تبعها من حرب إسرائيلية، ألحقت ببنية الاقتصاد الإسرائيلي خسائر كبيرة. فقد أُقفل مطار بن غوريون والمطارات المحلية وسط إسرائيل وجنوبها جزئياً أمام الاستخدام التجاري بعدما ألغت شركات طيران عالمية رحلاتها إلى الكيان. ويعمل مطار بن غوريون حالياً بـ40% من طاقته الاستيعابية، وتراجعت أسهم شركتي طيران «العال» و«يسرائر» بنسبة 16%. كذلك ألغيت الحجوزات في الفنادق بعدما نصحت دول كثيرة مواطنيها بعدم السفر إلى دولة الاحتلال، علماً أن قطاع السياحة الإسرائيلي يمثّل 3.6% من مجموع القوى العاملة. وأعلنت شركات عالمية إغلاقاً مؤقتاً لمتاجرها في دولة الاحتلال (منها شركة الملابس الإسبانية العملاقة Inditese أنديتكس التي تملك 84 متجراً في دولة الاحتلال).
وإلى جانب انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المستوطنات، وانقطاع الطرق بينها، وإقفال المدارس، أُغلق عدد من الشركات والمحلات التجارية. كما أعلنت هيئة الرقابة على المصارف الإسرائيلية أن الجهاز المصرفي سيعمل على نحو محدود في ما يتعلق باستقبال الزبائن، وهبط مؤشّر بورصة تل أبيب «35 Tase»، الذي يقيس أداء أكبر 35 شركة مدرجة في البورصة، بنسبة 6.65% أثناء التعاملات، قبل أن يقفل منخفضاً بنسبة 8.4%. وتراجع الشيكل الإسرائيلي أمام الدولار إلى أدنى مستوى له منذ 8 سنوات، وسط اندفاع دولة الكيان إلى ضخّ 45 مليار دولار أميركي لحمايته من الانهيار. وأقدمت حكومة العدو على إصدار سندات خاصة بجمع التمويل من الإسرائيليين المنتشرين حول العالم، ومحفظة هذا النوع من السندات تبلغ 5.4 مليارات دولار وتستحق في 31 كانون الأول المقبل، وهي تمثّل 12% من الدين الحكومي الخارجي وفقاً لـ«رويترز».
اضطراره إلى استدعاء نحو 300 ألف جندي احتياطي، أدى عملياً إلى تركهم لوظائفهم. وقد نشر الاقتصادي «ليف دراكر» توقعاته لتداعيات الحرب مقدراً خسارة في الناتج تتراوح بين 2% و3% من الناتج، وتراجعاً في توقعات النمو لعام 2023 من 2.7% إلى 2.5%، و3.1% إلى ما بين 0.5% و1.5% فقط في 2024.
وبالطبع سيزداد الإنفاق الحكومي الإسرائيلي وكذلك عجز الميزانية، وأعلن وزير المالية أن كلفة الحرب اليومية على غزة تقدر بنحو 246 مليون دولار، متوقعاً أن تصل الكلفة الإجمالية إلى 17 مليار دولار وتعديلات جذرية على موازنة 2023 - 2024، علماً بأن شركة «شيفرون» الأميركية علّقت عمليات إنتاج الغاز الطبيعي من حقل تمار الذي ينتج بين 7.1 مليون و8.5 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي.
هذه الخسائر تثير أسئلة كبيرة عن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على التحمل. فهو اقتصاد نما في السنوات العشرة الأخيرة بمعدل وسطي يبلغ 7.12%، والناتج الإجمالي الإسرائيلي، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي لعام 2019، يساوي 14% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية مجتمعة و17% من الناتج المحلي للدول العربية الثماني الغنية (بما فيها دول الخليج)، ويساوي 89% من الناتج المحلّي لأربع عشرة دولة عربية، و26 ضعفاً ونصف الناتج المحلي للفلسطينيين. ونصيب الفرد من الناتج في كيان العدو بلغ 52.170 دولار في 2021. وهو اقتصاد متنوّع يسهم في نموّه سلّة واسعة من القطاعات: التكنولوجيا، صناعة الإلماس، البرمجيات والاتصالات والمواصلات المتطورة، الصناعات ذات التقنية العالية المدعومة من رأس المال الاستثماري القوي الذي أطلق عليه «وادي السيليكون الإسرائيلي والسياحة».
في المقابل، تنامى الدين الداخلي الإسرائيلي من 11% من الناتج في العقد السابق على تفشي جائحة كورونا، ليبلغ بحلول عام 2020 نحو 71.7%، أو ما قيمته 302 مليار دولار، وهو الرقم الأسوأ منذ 2010 وفقاً لـ«يديعوت أحرونوت»، وهذا ما علّق عليه المحاسب العام في وزارة المالية بالإشارة إلى ضرورة «زيادة الإيرادات الضريبية وخفض النفقات»، علماً بأن الدين الخارجي لإسرائيل بلغ في نهاية 2020 نحو 16.8 مليار شيكل (50 مليار دولار). أما فوائد الدين، فبلغت 38 مليار شيكل في 2020 (12 مليار دولار) أي 2.74% من الناتج.
وإذا كانت تقديرات وزير المالية الإسرائيلي بأن كلفة الحرب ستصل إلى 17 مليار دولار، فمن أين ستأتي الأموال إلى إسرائيل؟
سيتم من المصادر التالية:
1- الدعم الأميركي بعدما قررت الولايات المتحدة تقديم 14.3 مليار دولار إلى إسرائيل. واشترت عدة ولايات أميركية سندات إسرائيلية بعد انخفاض الشيكل وهروب استثمارات وانخفاض قيمة السندات، وأطلقت شركات أميركية حملات لجمع الأموال مع بداية موسم إعلانها الأرباح.
2- استخدام الاحتياطي من النقد الأجنبي الذي سجّل في نهاية حزيران 2023 نحو 201.8 مليار دولار، اضطرت الحكومة إلى استخدام نحو 45 مليار دولار منه للدفاع عن انهيار الشيكل.
3- زيادة الواردات الضريبية وخفض الإنفاق الحكومي على البنى التحتية والشؤون الاجتماعية.
4- زيادة الدين العام.
والمصادر الثلاثة الأخيرة ستؤدي حتماً إلى تراجع الاقتصاد الإسرائيلي وزيادة الدين العام وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية، وهذا حتماً سيؤدي إلى التضخم وعدم استقرار اجتماعي وزيادة التوتر السياسي. لكن تبقى أميركا في الميدان وستعمل على إنقاذ إسرائيل اقتصادياً، لأن اقتصاد الكيان يعتبر جزءاً من اقتصاد العالم الرأسمالي الغربي. أما على أرض الواقع، فإن كل هذا الاستنزاف أساسه هجوم صغير من جناح واحد من جبهة المقاومة، فكيف ستكون كلفة الهجوم الشامل؟ ما يقلق الكيان هو استمرار مثل هذا الاستنزاف، إذ إن قدرة تحمّله ستتضاءل بمرور الوقت وستتراكم الخسائر والتشوّهات الاقتصادية في بنيته كلما كان هناك احتمال لتكرار المعارك.

* النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة في لبنان