لا بدّ من التمييز بين الحكومات الاستعماريّة والمواطنين؛ فالحكومات تعلم تماماً الحقائق على الأرض، ولكنّها تقف إلى جانب الجريمة والوحشيّة لمصالح ماليّة تنفع عادة قلّة قليلة من المتولّين في بلدانها. الناس في معظمهم يعيشون جماعات، وقوّة الانصياع للجماعة لا يمكن الاستخفاف بها، ونجد كأفراد صعوبة كبيرة في مخالفة جماعاتنا. لهذا لوسائل الإعلام أثر كبير في توجيه الحسّ الجماعيّ نحو توافق مطلوب من الحكومات. وقد رأينا أنّ وسائل الإعلام الغربيّة تعمل في التوجّه نفسه، كأنّها أوركسترا واحدة تستخدم تعابير شبيهة تجرّم جهة وتبرّئ جهة في حربين خلال السنتين الأخيرتين: اجتياح روسيا لأوكرانيا، ومحاصرة كيان الاحتلال الاستعماريّ والأبرتهايد الصهيونيّ لمليونَي مدنيّ فلسطينيّ وتجويعهم ودكّهم بمختلف أنواع الأسلحة في غزّة. وفي كلّ حالة كانت أبواق الإعلام تتناغم مع المسؤولين الحكوميّين في غرب أوروبا وأميركا الشماليّة وتتصرّف في طريقتين عكسيّتين بحيث تدعم أوكرانيا وتدين الهجوم الروسيّ تحت شعار دعم الحرّية مقابل الطغيان، وتسوّغ للاحتلال جرائمه بحقّ جميع الفلسطينيّين تحت شعار تجريم «حماس» والحرب عليها. لكنّ الأمر المشترك بين الحالتين هو نزع الأحداث من سياقها بحيث لا يعود مفهوماً في الحالتين لماذا اجتاحت الحكومة الروسيّة أوكرانيا، ولماذا تسلّلت «حماس» وخطفت مستوطنين من مستوطنات الاحتلال (التي تجري إعادة تسميتها في بعض وسائل الإعلام بالضيع أو المدن).الإنسان عادة لا يريد أن يموت ولا حتّى أن يُقتل، وبالتالي لا يحبّ الحرب؛ ولهذا تحتاج الحكومات الراغبة بالحرب، إلى إقناع مواطنيها بضرورة القتال وتصويره على أنّه ضرورة لا بدّ منها «للدفاع» عن النفس: الحكومة النازيّة في الحرب العالميّة الثانية أحرقت البرلمان لتصوّر ذلك على أنّه هجوم خارجيّ، والحكومة الأميركيّة أغرقت سفينة أميركيّة قبالة فيتنام لتتّهم فيتنام بالقيام بذلك وتبرّر دخولها الحرب، وكذلك فعلوا أخيراً في العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة. واليوم في غزّة فعلت دولة الاحتلال مع حكومات الاستعمار بترداد كذبة قطع رؤوس الأطفال لتسويغ كلّ ما حصل لاحقاً ويحصل اليوم.
وعدا دور الإعلام والسينما في تسويغ الحروب، هناك دور في شحذ العنصريّة بواسطة رسم صورة نمطيّة لشعوب بأكملها وديانات بأكملها. أفلام ستيفن سبيلبرغ، وهو داعم لكيان الاحتلال، تعجّ بالعرب الهمجيّين «المتخلّفين»، إذ لا نفهم حتّى أسباب عنفهم في سياق الفيلم (أفلام إنديانا جونز، و«العودة إلى المستقبل» الجزء الأوّل على الأقلّ، على سبيل المثال). مسلسلات رعاة البقر التي شاهدناها في بداية السبعينيات تنتهي بخلاصة واحدة: الهنود الحمر متوحّشون وقتلهم ضرورة، وخلاصة الأفلام الهوليووديّة لعقود خلت كانت أنّ البشر ذوي البشرة السوداء عنيفون، إلى اليوم يخشى بعض المهاجرين من بلادنا من زميل إنسان أسود البشرة، ويُسبغون على الجسم الأفريقي سمات العنف دون أيّ سبب، عند سؤال أحدهم عن الأسباب يعيده إلى خشيته من ضخامة الجسم مثلاً، وقد يكون المتكلّم ضخم الجسم أساساً ولكن لا يرى لا في جسمه ولا في كلامه عنفاً.
الصورة النمطيّة تأثيرها هائل في المخيّلة ويمكن بناؤها عبر السنين، ثمّ تحفيزها من جديد بسرعة: اليوم تخشى الطالبات المتحجّبات في جامعات الغرب بحقّ من تداعيات الأحداث في فلسطين لأنّ صورة الإسلام النمطيّة كديانة عنف تمّ تحفيزها من جديد (الأخبار الملفّقة حول اغتصاب وقطع رؤوس لا يزال الصهاينة هنا يردّدونها مع أنّه قد تبيّن بطلانها)، ومعظم الناس في الغرب باتوا جاهزين لقبول استخدام العنف المفرط ضدّ الفلسطينيّين، وللتبرير اليوميّ لوحشيّة الاحتلال والتقليل من أثره على المدنيّين (آليّات التشكيك تأتي من خلال التشكيك في أرقام الضحايا الفلسطينيّين بإرفاق أرقام وزارة الصحّة بعبارة «التي تديرها حماس»، مثلاً، أو بنقل أوتوماتيكيّ للقصف الصهيونيّ دون إظهار الأثر الإنسانيّ في وجوه أمّهات وأطفال وأقارب الضحايا، أو بإتباع كلّ خبر يظهر فيه القصف الصهيونيّ بقصّة طويلة عن عائلة مخطوف صهيونيّ وأفراد عائلته وأقاربه وصوره مع الأطفال. المسؤولون الرسميّون من عمدة مدينة إلى حاكم ولاية إلى رئيس وزراء في كندا يتّهمون المتظاهرين بأنّهم يدعمون «حماس»، ووسائل الإعلام تردّد ذلك بكلّ خسّة (على سبيل الإبلاغ البريء) لتخويف الناس من التظاهر.
لم يخترق إعلامنا المجتمعات الغربيّة، وعدا الحضور الفرديّ فإنّ الحضور الثقافيّ الجماعيّ للمهاجرين في الغرب ضعيف؛ ورغم ذلك هناك مئات الآلاف في كلّ بلد يخرجون إلى الشوارع ليدعموا حقّ الشعب الفلسطينيّ في الحياة بكرامة حرّاً على أرضه. ولا يفهم خبرة الفلسطينيّين ومعاناتهم من الداخل، أكثر من الشعوب التي اكتوت بالاستعمار المباشر، ولا تزال تحت تهديد عدائيّته ووحشيّة جشعه، أكان السكّان أصليّين في شمال أميركا وجنوبها، أم أفارقة في أفريقيا أو أميركا الشماليّة، أو أميركا اللاتينيّة. في دفاعنا عن ذاتنا، الحلفاء مهمّون، الإعلام مهمّ، الحجّة مهمّة، ولكنّ الأهمّ هو الانتصار على الأرض، هو الكلمة الفصل، بلادنا فشلت في الدفاع عنّا (حتّى اليوم طائرات العدوّ تهاجم أينما شاءت دون قدرة دفاع جويّة لدينا لتحمينا) ولكنّ شعبنا نفسه يبتكر الوسائل للدفاع عن الحياة وللنصر، وليدفع الموت القادم من الاستعمار إلى أن يحين موعدنا مع هزيمته النهائيّة. الأحياء منّا واعون أنّهم يحيون في الفسحات الضئيلة بين هجمات الاستعمار. شعبنا الجميل والكريم يخترع الحياة كلّ يوم. ولكن كيف نمنع الموت عن الأبرياء، هذا الذي يمزّق الملايين الذين يرون بأمّهات عيونهم الموت القادم من الوحش الصهيونيّ-الشمال الأميركيّ-الأوروبيّ كلّ دقيقة، أمّا حكّام العار في بلادنا وبعضهم يشارك في مذبحة غزّة فسندفن ذكرهم في أحطّ مكان في تاريخ شعوبنا، وستسقط أنظمتهم لا بدّ مع سقوط نظام الاحتلال، وهذا الأخير قادم لا محالة.
الفرنجة بقوا في قلاعهم العسكريّة أكثر من مئة عام ورحلوا. دولة ديموقراطيّة واحدة على فلسطين الحرّة من البحر إلى النهر هي الحلّ الإنسانيّ الحقيقيّ الوحيد لتحقيق كلّ حقوق الشعب الفلسطينيّ بكامله ولإرساء السلام القائم على العدل والمساواة بين البشر. كلّ ما هو أقلّ من ذلك هو غير أخلاقيّ لأنّه غير عادل.

* كاتب وأستاذ جامعي