لا يَظهر أُفُق الحرب من خلال تحوّلات المسار العسكري فحسب، بل من تقاطُع جملة مسارات، تعمل على تصعيب تحقيق الدولة الصهيونية أهدافَها من حرب الإبادة التي تشنّها حالياً على الفلسطينيين في غزّة. نقطة الارتكاز هنا تتمثّل في التدخّل البرّي الذي أُريد منه ردّ الاعتبار إلى هيبة الجيش الصهيوني، بعدما استطاع مقاتلو المقاومة الفلسطينية هزَّها على نحوٍ لم يحدث سابقاً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. الصعوبة التي بدا أنّ التدخّل سيواجِهها، مع «التوغُّل أكثر» داخل حدود القطاع وبدء الالتحام الجدّي مع دفاعات المقاومة الفلسطينية، لم تكن وحدَها السبب في تعقيد المسار العسكري، إذ ثمّة، بالإضافة إلى ذلك، تعقيدات سياسية، بدأت تظهر من جرّاء الضغوط التي تواجهها إدارة بايدن لتسريع وتيرة الخروج من مأزق الحرب.

انقلاب المشهد
التصوُّر الذي كان قائماً قبيل بدء التدخّل البرّي بإمكانية إلحاق هزيمة كبيرة بـ«حماس»، بمجرّد دخول الجيش الإسرائيلي إلى القطاع وبدء عملياته هناك، اصطدَمَ ليس فقط بجاهزية المقاومة الفلسطينية، بل أيضاً بالفاتورة الباهظة لحرب الإبادة التي سبقت التدخُّل نفسه. التوسُّع الكبير في وتيرة القتل الجماعي، لتشملَ المرافق المدنية والنشاطات الإغاثية والطبية، بما في ذلك المستشفيات وسيارات الإسعاف والإعلاميين، تزامَنَت مع تصاعُدٍ مماثِل في وتيرة العمليات ضدّ الجنود الإسرائيليين داخل القطاع. تضافُرُ الأمرين، في سياق انتقال «إسرائيل» من مرحلة إلى أخرى في الحرب، أضفى شرعية أكبر على بطولات المقاومة الفلسطينية، لتصبحَ، حتى بالنسبة إلى شرائح غربيّة كانت متشكِّكة في البداية، بمثابة درع حماية للفلسطينيين جميعاً من توحُّش آلة الحرب الصهيونية. هذا لم يناقِض أو يعاكِس فحسب السردية الغربية التي أُشيعت في البداية، عقب هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات الغلاف، عن «حماس»، بل أعاد الاعتبار إلى السياق الأساسي الذي تحدُث فيه المواجهة، باعتباره صراعاً بين مستعمِر ومُستعمَر، لا بين جيشٍ يحمي مدنيّيه من «أعمال القتل» وحركة مسلحة «تسبَّبت بهذه الأعمال». اتضاح الصورة أكثر، على ضوء تزايُد الوحشية الصهيونية، ساعَدَ في تفكيك السردية الغربية، إن لم نَقُل الأورومركزية، بحيث بدأت قطاعات واسعة هناك بأخذ مسافة بداية عن الرواية الصهيونية، قبل أن تكتشف، مع بداية التدخُّل البرّي، أنّ من يقود أعمال المقاومة وحماية المدنيين، في الحقيقة، هم الفلسطينيون، وليس العكس. والحال أنّ أهميّة ذلك ليست في المنظور الغربي الأورومركزي بحدّ ذاته، حتى المؤيّد منه للفلسطينيين، بقدر ما هي في المساعَدة التي يقدِّمها، وهي كبيرة، لمجهود محاصَرة «إسرائيل»، وتقويض السردية التي تقدُّمها عن نفسها، في سياق صراعها مع المقاومة الفلسطينية ومع الفلسطينيين والعرب عموماً.

الأثَر السياسي لانضباط أداء المقاومة
تأثيرُ ذلك رمزياً، على المواجهة الميدانيّة، كان كبيراً. وقد ظَهَر منذ اليوم الثاني للتدخُّل، حين واجهت آلة الحرب الصهيونيّة أولى خسائرها الكبيرة، مع المقتَلة التي حصلت لجنود لواء جفعاتي وهم متحصّنون داخل مدّرعة «النمر». التزامُن بين العمليّة والتصعيد الكبير في الاحتجاجات العالمية ضدّ الحرب، جَعَلَ إمكانية التعاطُف، في الغرب، مع قتلى الجيش الإسرائيلي، أصعَبَ من ذي قبل بكثير. الرفض لاستمرار الحرب، في حالة كهذه، قد يتحوّل، في أيّ لحظة، ليس إلى تأييد لأعمال المقاومة الفلسطينية بالضرورة، بل إلى تساهُلٍ مع الأضرار المتزايدة التي توقِعها بالجيش الإسرائيلي، بما في ذلك إعطاب مدمّرة «النمر» وقتل كلّ هؤلاء الضباط والمجندين الإسرائيليين داخلَها.
والحال أنّ أداء المقاومة الفلسطينية يعزّز من هذه الوجهة، لناحية انحصار قتالِها والتحامِها بالقوات الإسرائيلية بالجبهة، ولا سيّما على تخوم القطاع حالياً، حيث ليس ثمّة مدنيون على «الجانب الآخر»، بل أهدافٌ عسكرية تتحرّكُ في ميدانٍ خالٍ من التداخلات بين المدنيين والعسكريين. ويمكن القول انّ هذا الجانب هو أكثر ما يفيد المقاومة في معركتها الحاليّة، لأنّ تفوُّقَها فيه بدأ يزعج الحكومات والدوائر الغربية التي تدعم الحرب بالكامل. هؤلاء تحديداً هم الذين يملكون قرار الحرب، وبالتالي يجدون أنّ الاستمرارية في دعمها بحيث تفضي إلى إضعاف «حماس»، عسكرياً وسياسياً، لن تكون ممكنة من دون تغيير جوهري في الأداء القتالي للجيش الصهيوني، ولا سيّما على الجبهة المدنية. التوصيات التي بدأت تخرج عن إدارة بايدن، بالفصل بين الجبهتين العسكرية والمدنية لدى اختيار الأهداف و«تنسيق الأعمال العسكرية» ضدّ الفلسطينيين، تؤكِّد على هذه الوجهة، من دون أن تكون بالضرورة عاملاً مساعِداً على كبح الحرب نفسِها. إذ لا تزال النية قائمة بمنع وقف إطلاق النار حتى تحقيق الهدف المُعلَن من التدخّل البرّي، والمتمثّل في إضعاف حكم حركة «حماس»، إن لم يكن «إسقاطه بالكامل»، كما يؤكّد مجلس الحرب الصهيوني. وهو ما يمكن اعتباره جوهر الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في المنطقة، حيث تحاول الإدارة، تحت ضغط الاحتجاجات الدولية المناهضة للحرب، التوفيق بين ضبط الأداء الميداني للجيش الصهيوني، بحيث تكون فاتورة الضحايا من المدنيين أقلّ، والحفاظ على جاهزية قتالية كاملة في مواجهة المقاومة الفلسطينية، ولا سيّما على الجبهة البريّة الحالية، لتكون «الأهداف» في خدمة الاستراتيجية السياسية الغربية للخروج من الحرب.

تقاطُع مسارات مناهَضَة الحرب
الحديث لا يدور هنا حول إضعاف لحركة «حماس» بل عن «إسقاطها». على أنّ ذلك ليس بالأمر باليسير، في ظلّ تصاعُد مسارات الرفض للحرب، سواء الشعبية منها أو حتى السياسية. التصوُّر الذي عبّرت عنه القيادة الأميركية للحرب بعد جمع أفرقاء السياسة في «إسرائيل» لتشكيل مجلس يدير الحرب ضدّ «حماس»، لم يضع في الاعتبار حصول انعطافات كبرى في المعركة، كتلك التي تحصل حالياً، على أكثر من مسارٍ ومستوى. التقاطُع بين أداء المقاومة الفلسطينية المتقدّم والاحتجاجات الشعبية المتعاظمة الرافضة للحرب وخشية دول الإقليم العربية على نفوذها ودورها من الخطّة الأميركية للحرب، عقّد كثيراً الخطّة التي وضعتها الإدارة الأميركية للقيادة. إذ كان التصوّر متمحوِراً حول مواجهة مقاتلي «حماس» فحسب، وإذا حصل انخراط لأطراف أخرى فسيقتصر على حلفائها في الإقليم.
حين تصل تبعات رفض السياسات المُعتَمَدة تجاه الحرب إلى هذا المستوى، داخلياً، وفي نطاق السياسة الأميركية نفسِها، فهذا يعني أنّ انعكاساتها على الإقليم، الذي بدأت منه «العاصفة»، ستكون أكبر بكثير

أمّا أن تتوسّع مروحة المواجهة، لتتجاوز الحرب نفسَها، وحتى الإقليم، وتتحوّل إلى منعطف سياسي دولي يذكِّر بمعارضة غزو العراق، فهذا ما لم يكن في الحسبان أبداً. الضغط الكبير المتولِّد عن ذلك أربَكَ أداء الإدارة، إلى حدّ وصول «التمرّد»، إذا صحّ التعبير، إلى عقرِ دارِها، حيث تواجه الخارجية الأميركية، لأول مرّة منذ عقود، حالة اعتراضية على مستوى الكوادر، تهدِّد بشلّ عملها، ليس في نطاق الأزمة الحالية فحسب بل في مفاصل مستقبلية أيضاً.

خاتمة
حين تصل تبعات رفض السياسات المُعتَمَدة تجاه الحرب إلى هذا المستوى، داخلياً، وفي نطاق السياسة الأميركية نفسِها، فهذا يعني أنّ انعكاساتها على الإقليم، الذي بدأت منه «العاصفة»، ستكون أكبر بكثير، أي إلى الحدّ الذي يهدّد بعكس مسار الحرب برمّتها. حالياً، تخوض المقاومة الفلسطينية الاختبار الأصعب، على جبهة التدخّل البرّي، وهي الجبهة التي تتمحور حولها كلّ هذه التقاطعات على مستوى العالم. أي أنّ كلّ التصعيد الحاصل في مجابهة الحرب لم يكن ممكناً من دون مناعة الأداء القتالي للمقاومة هنا، على مستوى منع الصهاينة من تطويق القطاع والتوغُّل فيه بسهولة. حتى الرفض الإقليمي الذي أبدته دول مثل مصر والأردن، لاقتراحات أميركية حول «البدائل» عن حكم «حماس»، نابعٌ من استمرارية المقاومة في تصعيب تقدُّم جيش الاحتلال داخل القطاع.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى أداء الحلفاء على المحاور التي تصل منها الصواريخ والمسيّرات لمشاغَلة الجيش الصهيوني وتشتيت تركيزِه بحيث لا يستطيع الاستفراد بالمقاومة أثناء حصول التدخّل البري. الجبهة الشمالية أيضاً محورية هنا لشدّ الأزر حيث، انطلاقاً من المنهجية المتبعة في الإشغال الناري لقوات الاحتلال، يجري تصليب القتال في الداخل أكثر، حتى لو لم يكن ثمّة ارتباط مباشر بين الجبهتين. ترابُط المسارات العسكرية بهذا الشكل يساعِد، ليس فقط على مؤازَرة المقاومة الفلسطينية في عملياتها لمنع الاحتلال من تحقيق أهدافِه من التدخّل البرّي، بل كذلك على تزخيم المسار السياسي لمناهَضة الحرب، بحيث تتحوّل الحرب إلى مشكلة للأميركيين أكثر منها للمقاومة نفسِها. التقاطُع بين كلِّ هذه المسارات، بهذا المعنى، هو الذي يسمح بفتح أفُقٍ لإنهاء الحرب، على نحوٍ لا يجعل منها مجرّد جولة جديدة مع «إسرائيل»، بل محطّة مفصلية على طريق إخراجِها، جدّياً، من معادلات الإقليم والعالم.

* كاتب سوري