قبل نحو أسبوعين، رحل جدّي، موسى محمد السهلي، والد أمي، من مواليد قرية بلد الشيخ قضاء حيفا عام 1935. وقد تهجّر إلى سوريا وعاش لاجئاً مع عائلته، وكان عمره في حينها 13 عاماً. وقبل أن يكمل العشرين، تزوّج، ورزق بـ 3 ذكور و5 بنات. وفي مطلع التسعينيّات توفّيت جدّتي كاملة، فتزوّج بعدها ورُزق بولد آخر. لم يعش جدّي في المخيمات. سكن في السنوات الأولى للجوء في إحدى حارات المزة القديمة، حاله حال العديد من اللاجئين الفلسطينيين، الذين انتقل بعضهم لاحقاً إلى المخيم، وظل بعضهم الآخر في الحيّ، وبعض قليل انتقل إلى مناطق أخرى في المزة وغيرها داخل دمشق. ولكون أمي تزوجت أبي وانتقلت للعيش في المخيم، حيث كانت عائلة جدي لأبي تقيم بعدما تركوا المزة بعد انهيار بيت اللبن فوق رأسهم، ولدت أنا، فلم أقابل جدي كثيراً، ولم أكبر في كنفه، لكنّني كبرت في كنف جدتي جميلة والدة أبي، فحملت منها الكثير الكثير من عطايا الجدات. لكن قبل سنوات قليلة، جلست مع جدي في بيته، وسجّلت معه بعض الحوارات عن قريتنا، فوجدتني أمام رجل يتذكّر كل شيء، كأنه البارحة كان هناك. في تلك الجلسة التي أعتبرها من أهم اللقاءات مع جدي، عرضت أمامه سجلّ أرشيف عائلتنا الموجود في الجامعة الأميركية في بيروت «Al-Sahli Family Collection, 1841-1947»، والذي قدّمه أحد أفراد العائلة واسمه تميم السهلي. وبدأت بطرح أسئلة عليه عن بعض الأسماء الواردة في هذه المجموعة الأرشيفية، وعن بعض الأراضي و«صكوك» ملكيتها ضمن الأرشيف، فتكلّم وتكلّم وتكلّم. لم أستغرب حديثه على الإطلاق، فكنت قد اعتدت على الفلسطينيين من كبار السنّ الذين أقابلهم، وأوجّه لهم أسئلة مركّزة للحديث عن مدنهم أو قراهم، وعن ذاكرتهم في فلسطين. لكن المدهش بالنسبة إليّ في حينها، أنها كانت المرة الأولى التي أستمع فيها إلى جدّي يتحدث عن قريته. كنت أدرك أنه رجل ذكيّ، ولديه ذاكرة ممتازة، انتبهت إليها من خلال الكثير من الأحاديث التي كان يعود فيها بذاكرته إلى سنوات خلت، لكنها كانت أحاديث عابرة، لم تكن تلفت انتباهي.
رافقت جنازة جدي مع الجميع الذين خرجوا في جنازته. وخلال الدفن وبعده، استوقفني كثيراً أن يدفن رجل خارج قريته وخارج دياره التي يجب أن يستريح فيها إلى الأبد. فكأنّ هذه القضية في حياة الفلسطينيين تفصيل لا يريد أحد الحديث عنه، ولا الذهاب في نقاشه، ربما لأن الموت مشكلة الأحياء، وليس مشكلة الموتى. وربّما لأن نقاش عودة الأحياء إلى ديارهم مؤجّل إلى حين، وربّما وربّما. تستوقفني هذه الفكرة عند كل موت لفلسطيني، ولا سيما هؤلاء الذين ولدوا في فلسطين، قبل أن يكون الاحتلال، وتكون دولته. هؤلاء الموتى، ربّما لن يشعروا بكلام الشعراء عن البرد الذي سيعيشه الميت في تراب غريب، فهذا الأمر يعني الأحياء أيضاً، ويعني الشاعر أكثر. لكن في تراجيديّتنا الفلسطينية، الموت يعني التفكير بالحق، حق الفلسطيني في أن يكون في دياره، في حياته وموته، وربما لذلك قال جدي قبل موته بساعات «خدوني عالبيت»، رغم أنه كان في بيته، إلا أنه أراد العودة إلى البيت، أيّ بيت؟ لا شكّ عندي أنه كان يقصد بيته في بلد الشيخ.
رحل جدي، وربما هو آخر رجل من عائلتي الفلسطينية من مواليد الثلاثينيات من القرن الماضي، وربما هو آخر ذاكرة تتذكّر قريتنا بالتفصيل، قريتنا بلد الشيخ قبل أن تصير «تل حنان»، وقبل أن يسكنها أناس أتوا من أماكن مختلفة من العالم، لتتحول بأيديهم وبنكرانهم لذاكرة أهلها إلى مستوطنة لا تشبه ماضيها القريب.
تتبّعت كثيراً ما حلّ بالقرية. قرأت، شاهدت، استمعت، جالست كبار السن، لذلك أعرف ماضي القرية، وربما لو قيّض لي الذهاب إليها، فأنا سأعرف فيها الماضي، أما حاضرها فليس مني ولست منه، لكنه لي.
جدتي جميلة هي أخت جدي موسى، وتكبره بأكثر من عشر سنوات، عرفا بلد الشيخ، قريتنا في حيفا جيداً، ومن معرفة جدّتي بها، عرفت تاريخاً ليس مكتوباً في الكتب، كنت أشاهده في تقاسيم وجهها، في المشهد الغريب قبل موتها بساعات، وهي «تقشّر» البرتقالة في بيت عمي، وفي صورة قديمة أفترضها لنساء القرية وهن يزرعن، حافيات، ويحملن الماء. أحبّ أن أتوهّم أن جدتي بينهن، وربما هي الصغيرة بينهن، فيوماً ما، حين أعود إلى هناك، سأبحث عن تلك الفتاة الصغيرة، وأقول لها مرحبا يا جدّتي، لقد عدت.