«سجن الوطن يودي إلى الهلاككن كالسمكة في البحر حرّاً منه
وفي ترك الوطن سنة حبيب الله
وفيه شهادة بصدق النبوة»
- محمد إقبال

لو كنت رحّالة أوروبياً من القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر (ميلادي)، لنذرت حياتك لزيارة أعظم مدن الإمبراطوريات الإسلامية آنذاك. ولوجدت نفسك تتنقل بين مدن غرب آسيا وشمال الهند، ليس لأنها أجمل مقاصد متذوّقي جمال فن العمارة، ولا لتذوق ألذ الأطباق الشهية والمتنوعة التي لا تعرفها في بلادك، بل لأنك على الأرجح تاجر تحاول استغلال تدفق سيل الفضة من أميركا الجنوبية إلى غرب أوروبا، للحصول على امتيازات تجارية في أكبر أسواق العالم القديم. ولأن الصين مغلقة بوجهك ستجد أن الأَولى محاولة اكتساب أفضلية في مدن الإمبراطوريات الإسلامية، التي لا تمانع مرورك ولا تغلق الأسواق في وجهك. وفي حينه لاخترت أن تمضي الجزء الأكبر من حياتك في محاولة زيارة إسطنبول وحلب ودمشق والقاهرة وتبريز وأصفهان ودلهي ولاهور وبيجابور وأيوديا؛ حيث ستبدي ذهولك من فنون العمارة وتعبّر عن تلذّذك بأنواع الطعام، ومن ثم تكتب كتاباً قد يُستعمل في بناء أسس الاستشراق. و«أيوديا» - وهو تعريب اسم عاصمة إمارة عوض (أوده)، إحدى أغنى إمارات الهند المسلمة في ذلك الزمن- مهمّة في هذا المقال. فقد كان زائر هذه المدينة سيقف طويلاً، عند حلوله فيها، أمام مشهد ثلاث قبب تعلو قمّة على كتف ضفاف نهر «سارايو». وترتفع القبب الثلاث على مجموعة من الأقواس التي تحيط بصحن مركزي محاط بالممرات التي تؤدي إليه من الفناء الخارجي. هذا المبنى البديع، المبنيّ على طراز عمارة إمارة دلهي خلال فترة السلالة التغلقية (1320-1413 م.)، كان «المسجد البابري».
ولكنّ السائح اليوم في الهند لن يتوجه إلى «أيوديا»، التي تقع في ولاية «أتر برديش» في شمال البلاد، وإن حصل أن وجد نفسه في المدينة فلن يرى المسجد البابري. فقد عمد متعصّبون هندوس إلى تدميره في عام 1992، بعد صراع، امتد مدةَ قرن ونيف، تمحور حول طبيعة الموقع الدينية. فالهندوس يعتبرون الموقع موضع ولادة الإله رام. ومنذ ثلاثة أسابيع فقط، افتتح رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي معبد رام في مكان المسجد البابري. المسجد البابري مثال جليّ على ما خسره مسلمو شبه القارة الهندية بعد انهيار إمبراطورية مغول الهند (1526-1857م). علماً أن معظم المسلمين- ولا سيما المسلمين العرب - لا يولون عظيم الاهتمام لدراسة هذه الإمبراطورية وتأثير سقوطها على مسلمي العالم، ولا يرون في انهيارها خسارة كبيرة. وهذا الانطباع يترسّخ إذا ما قارنّا هذه الرؤى بمرثيات المسلمين عن حروب الاسترداد الإسبانية وسقوط غرناطة. وقد يكون لهذا الأمر سببان: الأوّل متعلّق باللغة، فكل الآثار الأدبية المغولية مؤلّفة باللغة الفارسية الدريّة، بينما الآثار الأدبية الأندلسية كانت مدوّنة بالعربية. وهذا يسهّل وصول مدوّنات واقع الإسلام في الأندلس إلى أكبر عدد من المسلمين. والسبب الثاني أكثر ارتباطاً بموضوع المقالة، وهو كما سنشرح يتمحور حول مسار تعريف مسلمي الهند لأنفسهم في مرحلة ما بعد الدخول في حالة الترهل المغولي مروراً بانهيار الإمبراطورية ووصولاً إلى بدايات القرن العشرين.
الوطن بالنسبة إلى هذه الجماعة هو جغرافيا محدّدة ترتبط بها هويتها. ووجود هذه الجماعة هو التعبير الأقصى عن أنه إلى اليوم لا يزال معظم الفلسطينيين ينتمون إلى وطن ولم تكسرهم إرادة المستعمر


وإذا ما تسامرنا مع أحفاد قادة مسلمي الهند خلال تلك الفترة لأخبرونا بأن مأساة مسلمي شبه القارة انتهت عام 1947، مع انفصال باكستان عن الهند. ولأضافوا أن أجدادهم حكموا أغنى إمبراطورية في العالم، حين بدأت شركة الشرق الهندية الدخول إلى شبه القارة، وسردوا لنا أخبار الإمارات المسلمة الغنية وقصورها وعمارة مدنها وربما أيضاً فنّدوا صناعة الملبوسات الهندية التي نافست ملبوسات الثورة الصناعية. ومن ثم سينتقلون ليخبرونا بأنّ أجدادهم وجدوا أنفسهم أقلية وازنة فاقدة للامتيازات والحقوق بعد الاحتلال البريطاني، فما كان من حل إلّا الانفاصل بعد الاستقلال. ولكن هذه السردية مثال واضح على أن لا حتميات «عادلة» في التاريخ، وأن تفسير الجماعات للوعود الإلهية هي في معظم الأوقات بناءات تعكس سياقات نخبها.
محمد إقبال كان شاعراً وفيلسوفاً وسياسياً مسلماً من شبه القارة الهندية توفي عام 1938. ولكن في الذاكرة الوطنية الباكستانية، محمد إقبال بطل قومي ومنظّر أسّس لمفهوم وطن مركزي لمسلمي شبه القارة الهندية. وإذا ما أخذنا مجمل إنتاج إقبال الأدبي لوجدنا أنّه نظّر لأمّة بلا وطن- كما يشرح فيصل دفجي في «أمة الظل: صناعة الهند الإسلامية». أمة لا يجب أن ترتبط بإقليم بعينه وتالياً لا يجب أن ترتبط بالأرض. ولكن في الحقيقة ما بناه إقبال من مجال تنظيري «إسلاميّ» كان نتيجة الانحدار التدريجي لواقع مسلمي الهند بعد الاحتلال البريطاني، فبالرغم من كل جهود نخب المسلمين للتأقلم مع الاحتلال وتبعاته، لم يتمكنوا من استعادة الدور الذي لعبه المسلمون في القرون الثمانية السابقة. والواقع الذي بدأوا يواجهونه مع نهايات القرن التاسع عشر، هو أنّه لم يعد للمسلمين مكان في الفضاء السياسي الذي صنعوه- أي الهند. وهذا ما دفع بإقبال ومعاصريه من النخب المسلمة في الهند إلى التحلل من فكرة الارتباط بالأرض كوطن. وبينما جنح إقبال نحو اعتبار الإسلام كأمّة عابرة للانتماءات الوطنية-القومية وللارتباط بأي أرض غير مقدّسة، استعان آخرون بأدبياته وفلسفته للدفع نحو البحث عن وطن بديل، وطن يشعر فيه مسلمو الهند بالأمان النسبي أمام تضاؤل دورهم، وتالياً موقعهم وأمنهم الشخصي في «الهند البريطانية». وأصبح البحث عن وطن يُعد بحثاً عن جغرافيا مناسبة في شبه القارة تكون ركن القوة الذي يرتكز إليه المسلمون، فكانت فكرة باكستان- بشقّيها الشرقي (بنغلادش اليوم) والغربي (باكستان الحالية).

«مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوا المطر
شدة ياسمين»
- مظفر النواب

المحصّلة كانت هجرة أكثر من سبعة ملايين ونصف مليون مسلم من قراهم ومنازلهم ومزارعهم وتجاراتهم في الهند والانتقال إلى شمال غرب شبه القارة أو شمال شرقها، في واحدة من أكبر عمليات النزوح في القرن الماضي. ولم يصل إلا خسمة ملايين ونصف مليون إلى مقاصدهم في باكستان، حيث أصبح الباقون في عداد مفقودي الأثر. ولزيادة توضيح حجم الخسارة العامة، يكفي الإشارة إلى أن عدد سكان أراضي باكستان قبل الانفصال كان يقارب 32 مليون نسمة. بالنسبة إلى نخب مسلمي الهند في وقتها، هذا العمل كان انتصاراً سياسياً كبيراً حمى مسلمي الهند من الإلغاء. وإن كان كذلك، فهو في الوقت عينه دليل على إرث من تراكم المواقف والسياسات الخاطئة التي أدّت إلى تدهور أوضاع عموم مسلمي شبه القارة الهندية.
منذ بداية الصراع مع العدو الصهيوني، كانت تغلب على أدبياته فكرة حتمية هزيمة الكيان وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم. في يومنا هذا، ومع دخول العدوان الإسرائيلي شهره الخامس، بدأ حجم الدمار الذي حلّ بقطاع غزة يلقي بثقله على مشهد اليوم التالي للحرب. ومع الدمار يتقدّم، في الإعلام الموالي للعدوان، النقاش حول ذلك اليوم، ومصير الملايين من الفلسطينيين المقيمين في القطاع: هل يُهجّرون؟ وكم العدد المطلوب تهجيره أو المقبول تهجيره؟ ويقوم مؤيدو العدوان بالترويج لهذه السيناريوهات كأنها أمر واقع، بينما يضيع جلّ المتابعين من المتعاطفين والمؤيدين للقضية الفلسطينية بين سندان حتمية العودة ومطرقة الدمار والحديث عن التهجير. وهنا يتولّد مشهد الحزن لدى محبّي فلسطين، بالأخص عند غير المنخرطين في الجماعات التي تتبنّى المقاومة.
في هذه اللحظات هناك الآلاف من الشبان الفلسطينيين الذين يتجنّدون للقتال في ميدان من أخطر ميادين القتال عبر التاريخ. وخلف هذه الآلاف هناك مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يخوضون صراع الصمود ويقهرون الخوف من الموت قصفاً وقنصاً. هذه الظاهرة هي الدليل الأمضى على أنّ في فلسطين اليوم جماعة واضحة المعالم، جماعة تمتد بين الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات. وقد اختارت هذه الجماعة المقاومةَ سبيلاً لها. هي مرتبطة بالأرض، وأرضها ليست فلسطين، الكيان السياسي الوهمي أو الركن القومي الآمن، أرضها هي قرية كل فرد من أفراد الجماعة وحارات المدن التي هُجّروا هم أو أهلهم منها والدور التي تركوها خلفهم. الوطن بالنسبة إلى هذه الجماعة هو جغرافيا محدّدة ترتبط بها هويتها. ووجود هذه الجماعة هو التعبير الأقصى عن أنه إلى اليوم لا يزال معظم الفلسطينيين ينتمون إلى وطن ولم تكسرهم إرادة المستعمر.
ولكنّ الحرب الدائرة اليوم في غزة تمتد على بقع واسعة من جغرافيا غرب آسيا، وهناك عشرات الآلاف من الشباب العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين الذين يتجنّدون في مختلف الميادين. مقاتلون أشدّاء يخوضون القتال ضد الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتحدة الأميركية. وهو قتال حقيقي، يواجهون فيه أحدث التكنولوجيا وأشد الأسلحة فتكاً، يقتلون ويُقتلون، ويغيّرون المعادلات. وهؤلاء أيضاً ينتمون إلى جماعات تحتضنهم وتخوض معهم ومن خلفهم الحرب. وهؤلاء المقاتلون في فلسطين وباقي الساحات إنّما هم المعبّرون عن الوعي السياسي والتاريخي لهذه الجماعات.
هناك سياسة إعلامية تتبعها كل قوى محور المقاومة -وهي عادة مهمة أثبتت محوريتها في تعبئة القوى البشرية في الجماعات- هي عبارة عن توثيق ونشر وصايا الشهداء. هذه الوصايا التي يصوغها أصحابها، تعبّر مفرداتها بكل بساطة وقلة تكلّف عن أهم مورد في بلادنا. تعبّر عن إنسان يحاول أن يعكس الإرث المتراكم من القرارات المحورية والسياسات التي أدّت إلى الهزائم، وتعبّر عن جماعات عبّأت أفرادها في عملية بناء إرث آخر مختلف. والواقع هو أن كتابة أو تلاوة الوصية فعل شديد الوطأة على صاحبها، بالأخص إن كان يكتبها تحسباً للموت قتلاً في معركة، احتمالات عودته منها حين تحصل ليست عالية. وهكذا لحظات، يخرج أصفى ما في سريرة الإنسان، الأهداف الأسمى والأولويات الأعلى، وهذا ما يحرص المرء على نقله أو تسليمه لورثته. وهذا الإرث هو الذي يلتقي مع إرث شهداء آخرين ليراكم إرث الجماعة. وهنا الشهادة هي عين ذوبان الذات بذات الجماعة، والإرث الفردي هو عين إرث الجماعة المتراكم على مدى عقود وحروب.
هؤلا ء الممتشقون سلاحهم اليوم في غرب آسيا يشكلون بأفعالهم أسس الإرث الذي سيتسلّمه أبناء وأحفاد كل أفراد الجماعة التي ينتمون إليها. إرثهم الحفاظ على الأرض واستعادتها من أقسى استعمار في التاريخ، وإن نجحوا فقد يبنون إرثاً آخر هو الحفاظ على موارد الأرض التي حرّروها وربما قد يسلمون الجماعة إرث التحرر الوطني وانتزاع موقع ريادي في العالم. هذا إرث لن تفهمه نخب تجلس في ظلال جُدُر القواعد الأميركية في المنطقة. إرث هذه النخب ينضح عجزاً وبكائيات محصّلتهما الركون إلى تضعضع الجماعات والتفريط بالأرض. شخصياً لا أعتقد بأن هناك حزناً جماعياً أشبه بالحزن على فقد الأرض والجغرافيا، لأن إرث فقد الأرض هو فقد الهوية والمكانة واحتمالات المستقبل.

«مو حزن
لكن حزين
مثل بلبل قعد متأخر
لقه البستان كلها بلايا تين»


* باحث لبناني