لوحة آرثر بلفور، لصاحبها فيليب دي لازلو، المرسومة عام 1914 والموجودة داخل كليّة ترينيتي في «جامعة كامبريدج» تعرّضت للتخريب يوم الجمعة الماضي على يد ناشطة تنتمي إلى مجموعة اسمها «الفعل الفلسطيني». في فيديو موثّق انتشرَ على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ظهرت فتاةٌ (من مجموعة تُدعى «الفعل الفلسطيني») وهي تلطّخ بورتريه بلفور، ثم تمزّق اللوحة بالسكين. دي لازلو (1869-1937) المولود في هنغاريا، الذي صار لاحقاً مواطناً بريطانياً، بدأ مسيرته فوتوغرافياً، قبل أن يتحوّل إلى رسّام بورتريهات. عندما كان رسم البورتريه محصوراً بطبقة اجتماعية رفيعة دون سواها، كان شغل دي لازلو منصبّاً على رسم الأرستقراطيين، والمنحدرين من سلالة الملوك، وأصحاب المكانة المحسوبة، مثل كونت النمسا فرانز جوزيف الأول أو إليزابيت ملكة اليونان. غير أنّ هذا الفنّ موسوم بصبغة تجعله في الأوساط الطليعية والراديكالية نافراً، ذلك أنّ موضوعه مرتبطٌ بالأيديولوجي أولاً، ثم إنّ جماليّاته تمثّل ذائقة الطبقات العليا، وهو ما يفتح الشهية، لا إلى تشويه مثل هذه الأعمال فقط، بل إلى تخريبها وتدميرها، فماذا لو كان لهذا الفنّ بورتريهاً لآرثر بلفور شخصيّاً؟لم يمضِ الكثير من الوقت على تخريب اللوحة حتى أصدرت مجموعة «الفعل الفلسطيني» بياناً تبنّت فيه «الفعلة». أعادت المجموعة في بيانها التذكير بدور بلفور «الذي كان مسؤولاً في الخارجية البريطانية، وأعطى وعداً بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، حيث غالبية الفلسطينيين لم يكونوا يهوداً»، من دون أن تغفل دور بريطانيا التي تبنّت «الوعد»، ورعت عمليات التهجير، ومهّدت للكيان الإحلالي أن يشقّ طريقه، منذ إعلان بلفور وعدَه (1917) حتى النكبة (1948). المسؤولون في كامبريدج أدانوا الحادثة، فيما التحقيقات لا تزال جارية، وفقاً لما صرّحت به الشرطة، ولم يُحتجز أحدٌ حتى الآن.


منذ أسبوع تقريباً؛ قبل تخريب لوحة دي لازلو بأربعة أيام، توجّهت مجموعة «الفعل الفلسطيني» إلى مصنع سميث الذي يزوّد طائرات إف 35 بقطع، وحطّموا واجهاته، كتبوا جملاً تُندّد بالحرب على غزة وحمَّلوا المصنع مسؤوليةَ الإبادة الحاصلة. المقصود أنّ سجلّ مجموعة «الفعل الفلسطيني» لم يكن خالياً من الممارسة الاحتجاجية قبل نهار الجمعة الفائت، لكنّ الظاهر أنّ المجموعة قرّرت صقل «أفعالها»، وقطع شوطٍ جديدٍ في الاشتباك. على ما يبدو، بات للاحتجاج المعاصر شكلٌ جديدٌ، يأخذ من الأعمال الفنّية وسيطاً لإيصال غرضه، والظاهر أننا أمام فعل احتجاجي جديد، لا يكتفي بالتخريب فقط، بل يتحدّى أيضاً سلطات نخبويّة عريقة لها حيّزها وجماليّاتها وأيديولوجيتها.
على الأرجح، لا علاقة مباشرة تجمع بين «الفعل الفلسطيني» ومجموعة «أوقفوا النفط» التي اعتادت منذ عام 2022 مهاجمةَ المتاحف وتخريب اللوحات الفنّية. ورغم ذلك، ثمّة رابطٌ قد جمع بينهما، وهو ما يجعلنا نأخذ مسألة التخريب الحاصل على نحو جدّي، كأنّ ثمّة تقاطعاً بين طبيعة هذا التخريب والفنّ بحد ذاته، ما يخولنا أن ننظر إلى الممارسة الاحتجاجية الراهنة، المحمّلة برسائل سياسية، على أنّها شكل من أشكال الممارسة الفنيّة. ذلك أننا في الحالتين، مع كلٍّ من «الفعل الفلسطيني» و«أوقفوا النفط»، أمام ذوات رافضة، متمرّدة، تتنازع مع حاضرها وتطرح تعقيداته بـ«أفعال» حادة تُماثل حِدّة هذه التعقيدات. هي ذوات رافضة ومتمرّدة تتحرك في وجه أعمال فنّية وقعت في الرتابة، والجمود، والتقديس، حتى صارت مجردة إلا من «قيمتها» و«معياريتها»، ما يخدم شبكةَ العلاقات المسيطرة على السوق الفنّي، وبطبيعة الحال، على السياسة العالمية. على هذا النحو، فإنّ المس «بقيمة» تلك الأعمال في عقر دارها لهو التكلّم عبرها وليس معها، إذ هي تُدير أذنها الصمّاء إلى العالم، فلا داعي لإيقاظها، بل لتخريبها، وهذا الصدام في عمق التأويل هو مكمَن الفنّ.
إذا كانت المدن تتحوّل في الأوقات السياسية الساخنة؛ أي عندما تعتريها التظاهرات وتغمرها الاحتجاجات، إلى ما يشبه المتاحف والمعارض، حيث نرى الجدران وقد أصبحت فسحات لأشكال تعبيرية مختلفة، كالتدوين أو الخربشة أو الرسم، وتتغيّر معها شوارعها حيثما تصبح أشبه بالمسارح، فبإمكان رمي الحساء على لوحة الموناليزا؛ المرأة الذي صارت صنماً يقدّم نفسه محطّاً للفرجة، معلماً سياحياً يُدرّ أموالاً على المتاحف، أن يُعدّ أيضاً، بحد ذاته، عملاً فنّياً. لا دخل هنا لتعريفات الفنّ المعاصر المليء بحركات مماثلة، ولو اضطرّنا الأمر، يُمكننا ذكر براين إينو؛ الفنّان الأميركي الذي بالَ في «نافورة» مارسيل دوشان، مُعلناً بذلك موقفه الساخر من الفنّ الحديث، في خطوة أصرّ النقّاد على أنها فنيّة في الصميم. غير أنّ الموضوع متعلّقٌ بالدرجة الأولى بدور الفنّ بوصفه مولِّداً للصدمة، أداةً لخلخلة المألوف وزعزعة الثابت، ويُقال فيه: إنّه التطهير، تعرية الوعي الزائف، فعل ثوري، مضاد للكآبة... سبق أن نظّرت مدرسة الشكلانيين الروس للأدب على أنّه «مسألة تتعلّق بما يفعله الناس بالكتابة، بقدر ما تتعلّق بما تفعله الكتابة بالناس»، فدخولك قاعة السينما يختلف عن خروجك منها. ليس الفنّ كمحفّز للصدمة، أو إعادة إنتاج الدهشة، تمثيلاً ومحاكاةً أكثر مما هو أثر، على أنّ انسحاب هذا الأثر يدفع إلى القيام بفعل مؤثر، وهكذا دواليك.
تخريب لا يحتاج إلى تسويغ، مهما ذكرت الصحافة أنّ عمر اللوحة يتجاوز المئة عام

لذلك، فإنّ الأسئلة على شاكلة هل يبقى العمل الفنّي الذي يُوظّف في خدمة السلطة، أو عندما يتحوّل بنفسه إلى سلطة تتكوّر على نفسها، منعزلة داخل متاحف وغاليريهات؛ أهم شأناً من تعقيدات الخارج بكل ما يحويه هذا الخارج، قادراً على أن يكون فناً؟ ستردّ عليها مجموعة «أوقفوا النفط» نفياً، مع الكثير من حساء البطاطا. أما مجموعة «الفعل الفلسطيني»، فقد كان جوابها عن تساؤل ما هو «الجميل» (الفنّي) في آرثر بلفور: لماذا تعلّق صورته على الجدار وليس على المشنقة؟ هل يُعقل أن يكون جدار اللوحة محاكياً لمناخات المتاحف، في حين يكون الجدار في فلسطين سجناً؟ الجدار الذي كان وراء عملية السابع من أكتوبر أساساً، ولأنّ وجوده اشترط فكرةً «فنّية» تتيح للمحاصرين وراءه تجاوزه، كان على متجاوزيه شنق وعد بلفور بالوسائل والطرق المتاحة، للتخلّص من جميع الجدران المشيّدة.
ماذا يمكن للفن أن يقدّم في زمن الفاجعة؟ وعندما يقدّم الفنّ إنتاجه، هل يمكن أن ينأى عن التخريب والعنف؟ وإذا كانت الحرب قائمة ولا وقت للانشغال بهذه المواضيع، ألا تُعدّ الأفعال التخريبية التي تحمل صوت من يتعرّض للإبادة، وتترك وراءها أثراً، مهما كان ضئيلاً، فنية بطريقةٍ ما؟ وإلّا علامَ يقوم «الحنينُ» الثوريّ؟ وما معناه؟
يفتح السابع من أكتوبر مرّة جديدة كوّة في الجدار. هذه المرة، مع مجموعة «الفعل الفلسطيني»، حين دخل الصوت إلى «جامعة كامبريدج» واقتلع بلفور من المكان الذي يرقد منذ قرن من الزمن. تاريخ الفنّ يخبرنا أنّ مثل هذه الأفعال دائماً ما تكون مرافقة للعمل العسكري وتسير بالتوازي معه. هذا التخريب معلّل، ولا يحتاج إلى تسويغ، مهما ذكرت الصحافة أنّ عمر اللوحة يتجاوز المئة عام وتحسّرت عليها، فهذا دليل على أنّ التخريب أصاب هدفَه بدقّة.