يكثر طرح التساؤلات عمّا إذا كان «الوسطاء» سينجحون في بلورة صفقة تبادل أسرى جزئية، تشمل هدنة مؤقّتة، في ظل عراقيل لا يمكن حصرها. وإذ لا تتوفّر إجابات شافية، فإن هدنة قد تتبلور، ربّما خلال أيام، أو أنها قد لا تتبلور إطلاقاً. إلّا أن الأهمّ، بالنسبة إلى المراقبين والمعنيّين والجمهور، هو الإحاطة بمقدّمات الصفقة، والتي تكشف حجم العراقيل التي حالت إلى الآن دون تطبيق الهُدن، على رغم وجود إرادة لدى البعض في التوصّل إليها. وفقاً لإمكانات إسرائيل وحدود قوّتها، وإنْ بمعيّة الولايات المتحدة عسكريّاً وسياسيّاً، انتهت المهمّة المقدور عليها بالنسبة إليها، فيما باتت دولة الاحتلال تخاطر الآن بأن تحدّ، نتيجة الإصرار على مواصلة الحرب، من تأثير الإنجازات التكتيكية المتحقّقة على بلورة ترتيبات اليوم الذي يلي في قطاع غزة، سياسيّاً وأمنيّاً. ومن شأن النتيجة الميدانية، المبنيّة على تلك الحدود كما على صمود المقاومة الفلسطينية، أن تفرض على إسرائيل البحث في مخارج سياسية للحرب، طالما أن هذه الأخيرة لم تَعُد قادرة على تحقيق المزيد. والجدير ذكره، هنا، أنه على رغم أن ما تحصّل لإسرائيل ميدانيّاً، بعيد نسبيّاً عن الأهداف الابتدائية، أي القضاء على حركة «حماس» واستعادة الأسرى الإسرائيليين، إلّا أنه قادر على التأثير، أقلّه نظريّاً، في بلورة اليوم التالي، بما يتوافق أكثر مع المصلحة الإسرائيلية قياساً بما كان عليه الوضع قبل السابع من أكتوبر، وهو ما يراهَن عليه إسرائيليّاً، على رغم أن أغلب ما قامت به دولة الاحتلال (قتل المدنيين والتدمير الممنهج للدور السكنية والبنية التحتية المدنية في غزة)، لا يعدو كونه أفعالاً عدائية يراهَن عليها أيضاً في استعادة الردع، وتثبيت الهدوء لسنوات، وإن من دون إنهاء وجود «حماس» وعودة الأسرى، بلا شرط أو مقابل.وفيما كان يفترض بأصحاب القرار في تل أبيب، أن يسارعوا إلى ترجمة ما أُنجز، سياسيّاً، والانكفاء عن حرب باتت كلفتها السياسية والميدانية أعلى من عوائدها، إلا أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لا يزال يعرقل ذلك كونه يخشى انهيار حكومته والتوجّه نحو انتخابات جديدة تطيحه من السلطة، فيما لا يريد شركاؤه في الائتلاف اليميني فقدان فرصة طرد الفلسطينيين وتقتيلهم وإبعادهم عن الأرض التي يريدون «استعادتها» بموجب الالتزام الأيديولوجي الفاشي، وإنْ على حساب إسرائيل الدولة. ولذا، يجري صدّ محاولات إنهاء الحرب، بما يخالف الرأي المهني السائد في المؤسستَين الأمنية والعسكرية، اللتين لا تريان فائدة منتظرة من تمديد القتال. لكن، كيف لنتنياهو وشركائه أن يخرقوا القواعد ويفرضوا أجندتهم على طاولة القرار؟ وكيف لهم أن يصرّوا على «الانتصار الكامل»، الذي لا يبدو قابلاً للتحقيق؟ يعود ذلك إلى عوامل عدّة، من بينها امتناع الجانب الأميركي عن تسليط ضغط حقيقي لإنهاء الحرب، وإنْ من موقع إعانة إسرائيل على نفسها من أجل مصلحتها؛ وأيضاً، فقدان قواعد اللعبة الداخلية السياسية أدواتها الكافية لإطاحة نتنياهو وائتلافه، خاصة مع انقسام معارضي الحكومة، الذين تشير استطلاعات الرأي إلى تأييد غالبية الجمهور لهم.
لا يوجد دافع معتدّ به لدى نتنياهو وشركائه للتراجع عن التعنّت


كذلك، لا يزال الجمهور الإسرائيلي على تأييده العارم لاستمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها الابتدائية: سحق «حماس»، واستعادة الأسرى بالقوّة، علماً أن غالبية هذا الجمهور باتت متموضعة أكثر على يمين الخريطة السياسية في إسرائيل، وهي ترفض إنهاء القتال، وإن كانت تتطلع إلى تغيير في رأس السلطة، واستبدال نتنياهو وشركائه. أما الحَراك الداخلي، من مسيرات وتظاهرات ووقفات احتجاجية أمام منزل نتنياهو وعدد من وزرائه، فليس سوى للمطالبة بالمضيّ في صفقة تبادل، تؤدي إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، من دون أن تكون له صلة بالحرب وطريقتها وأهدافها، ومن دون أن يعني أصلاً أن هناك احتجاجاً على استمرارها. والأمر نفسه ينسحب على أطياف القوس السياسي، إذ إن غالبيتها، إنْ لم تكن كلّها، تريد، نتيجة الخشية من الناخبين، استمرار الحرب إلى حين تحقيق الانتصار الكامل، وإنْ كان هناك مَن يطلب وقفات قتالية لتبادل الأسرى، ومن ثم استكمال القتال، في مقابل الموقف الأكثر تشدّداً وحضوراً، أي استكمال الحرب وإنْ على حساب الأسرى. أما المؤسسة العسكرية والأمنية، فتتجاذبها عوامل متعدّدة ومتعارضة: شعور بالذنب والفشل نتيجة السابع من أكتوبر، وسعي لإعادة إسرائيل إلى مكانتها لدى نفسها ولدى الآخرين، وإدراك لكون الحرب أنهت مهمّتها، وبات استمرارها يقضم إنجازاتها.
يفسر كل ما تقدّم، المفارقات في الأسبوعين الأخيرين: تقترب صفقة تبادل الأسرى ومن ثم تبتعد؛ يضغط الجانب الأميركي لإنهاء الحرب لأن في ذلك مصلحته ومصلحة إسرائيل الدولة كما يراها، لكنه يرفع الصوت بلا أفعال؛ يهاجم منافسو نتنياهو سياسة الأخير بلا رفع الصوت عالياً، لأن الجمهور الإسرائيلي لا يريد إنهاء الحرب، فيما أقرباء الأسرى يتلقّون دعماً وتفهُّماً من عموم الإسرائيليين، من دون أن يؤدي ذلك إلى أيّ تغيير في التوجّه العام المؤيّد. وممّا يساعد نتنياهو أيضاً، الانسحابات الإسرائيلية من معظم الأماكن المدينية والعمرانية في شمال قطاع غزة ووسطه، إضافة إلى امتناعه إلى الآن عن ضمّ منطقة رفح إلى العملية البرية، الأمر الذي يؤدي حكماً إلى منع الاحتكاك المباشر اللصيق مع المقاومين الفلسطينيين، وبالتبعية منع سقوط خسائر معتدّ بها في صفوف الجنود. أيضاً، فإنه وبعد عدّة أشهر من الحرب الوحشية، تراجعت القدرة الفلسطينية على الإطلاق الصاروخيّ، الأمر الذي يُفقد المقاومة واحداً من أهمّ عوامل التأثير لديها.
وبالنتيجة، لا يوجد دافع معتدّ به لدى نتنياهو وشركائه لإنهاء تعنّتهم، والكفّ عن عرقلة مسارات تسووية مرحلية ومؤقتة، على رغم ترحيل حركة «حماس» جانباً من شروطها الابتدائية إلى الاتفاق الأكبر اللاحق على صفقة ثانية من شأنها أن تنهي الحرب. وعليه، فإن فرص نجاح المفاوضات تعادل فرص الفشل، ما لم يطرأ تبدّل في موقف الأطراف المؤثّرة في قرار تل أبيب، وتحديداً الجانب الأميركي.