رام الله | أثار مشروع القرار الذي مرّرته الولايات المتحدة، أول من أمس، في مجلس الأمن الدولي، والذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، على أن «يؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الأسرى الإسرائيليين» المحتجزين لدى المقاومة في قطاع غزة، عاصفة من ردود الفعل والتحليلات، والتي قد يكون أقربها إلى الواقع أن بنيامين نتنياهو يتعامل مع واشنطن «بنفس الطريقة التي يتعامل بها المراهق المدلّل مع والديه: بالتمرد الدائم». وفي المقابل، بدت الخطوة الأميركية بمثابة رسالة شديدة اللهجة إلى الابن، نتنياهو، وعنوانها أن ثمة فرصاً لتسليط مزيد من الضغوط الدولية على حكومته، ما لم يساوق الطروحات الأميركية بخصوص مسار الحرب وكيفية انتهائها. ومن هنا، لا يبدو مستغرَباً اعتبار نتنياهو القرار صفعة له، ومسارعته إلى تنفيذ تهديده الذي كان أطلقه قبل التصويت، بإلغاء سفر وفد إسرائيلي إلى الولايات المتحدة في حال لم تستخدم الأخيرة «الفيتو»، وهو ما جرى مباشرة بعد التصويت، حيث أصدر مكتب نتنياهو بياناً رفض فيه قرار مجلس الأمن، واعتبر تعامل واشنطن معه تراجعاً عن سياستها في الأمم المتحدة، وإضراراً بالمجهود الحربي الإسرائيلي.على أن إحجام واشنطن عن استخدام «الفيتو» ضد القرار، لا يمكن عدّه تبدلاً جذرياً في موقفها إزاء استمرار الحرب، كونها لا تزال تمدّ العدوان الإسرائيلي على القطاع بالدعم السياسي والعسكري والمالي، فضلاً عن أنها رفضت تضمين القرار جملة «وقف دائم» لإطلاق النار. وفي السياق، أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، أن واشنطن ستواصل «حماية ظهر إسرائيل» - في الوقت الذي وصف فيه قرار نتنياهو بالمخيّب للآمال -، علماً أن الولايات المتحدة تزوّد الكيان بنحو 3.8 مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن صفقات أسلحة أخرى ومزايا أمنية، وهي عطايا بلغ مجموعها أكثر من 300 مليار دولار (معدّلة حسب التضخم) منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أن قرار نتنياهو إلغاء سفر الوفد الذي كان سيبحث الخطط البديلة من اجتياح مدينة رفح، لم يرُق الوزير في «كابينت الحرب»، بيني غانتس، الذي كان بدأ أصلاً التلويح بالانسحاب من الحكومة، على ضوء نية الأخيرة تمرير قانون إعفاء «الحريديم» من التجنيد، طالباً من نتنياهو التوجه بنفسه إلى واشنطن لإجراء مباحثات مباشرة مع أكبر حليف إستراتيجي لإسرائيل.
والظاهر، على ضوء ما تقدّم، أن القرار سيلقي بتداعيات جديدة على حكومة نتنياهو، على رأسها تعميق عزلة الأخير دولياً، ووضع «تل أبيب» في مسار تصادمي مع واشنطن، إرضاء لحلفاء رئيس الحكومة اليمينيين، والذين لولاهم لسقط الائتلاف. وفي هذا الإطار، رأى عضو «الكنيست»، شيلي تال ميرون، أن «إخفاق نتنياهو السياسي يضع إسرائيل أمام خطر وجودي حقيقي ويجعلها معزولة عالمياً»، محذّراً من أن «المسار التصادمي مع البيت الأبيض سيجلب كارثة على إسرائيل». كما رأى رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، أن «قرار مجلس الأمن يعكس أزمة عميقة مع واشنطن، والمطلوب اتخاذ قرارات صعبة، وهي ضرورة إجراء انتخابات فوراً»، مشدّداً على أن «هذا الإجراء المبكر هو ما سيُخرج إسرائيل من أزمتها العميقة». وفي الاتجاه نفسه، رأت وزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، أن «وجود صدع مع واشنطن أفضل ما يمكن أن تحصل عليه حماس، نتنياهو يقودنا إلى ذلك».
انتقد محللون في الصحف الإسرائيلية، الصادرة أمس، قرار نتنياهو إلغاء إرسال الوفد إلى واشنطن


في المقابل، هاجم وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الأمم المتحدة، مستخدماً، في منشور على حسابه في موقع «إكس»، تعبيراً عبرياً عكف رئيس حكومة إسرائيل الأول، دايفيد بن غوريون، على استخدامه، وهو «أوم شموم»، ويقصد به أن «منظمة الأمم المتحدة منظمة فارغة ومتداعية». وأشاد بن غفير بقرار نتنياهو، قائلاً: «من الجيد اتخاذ قرار عدم إرسال الوفد، والانتظار خطأ، وعلى الجيش اجتياح رفح الآن». ورأى وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، بدوره أن «القرار الأميركي بعدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن يصبّ في مصلحة حماس، ويضر بجهود إعادة الرهائن وتحقيق الاستقرار في المنطقة عبر القضاء على القوى المتطرفة وتعزيز القوى المعتدلة. ودولة إسرائيل لن تتوقف حتى القضاء التام على حماس وإعادة الرهائن». وأضاف أن «علاقتنا مع الولايات المتحدة كانت دائماً علاقة شركاء وليست علاقة دولة راعية. وهذه ليست المرة الأولى التي يُطلب فيها من حكومة إسرائيلية اتخاذ قرارات تتعارض مع موقف الإدارة الأميركية. كان هذا هو الحال مع قرار إقامة الدولة، وهذا هو الحال في كثير من حروب إسرائيل». وتابع: «هذا هو الحال الآن مع قرارنا مواصلة قتال النازيين من داعش وحماس حتى النصر الكامل. إنني أؤيد قرار رئيس الحكومة وأدعو في هذه اللحظة الوجودية جميع القادة في إسرائيل إلى التسامي فوق الاعتبارات السياسية الضيقة، والوقوف خلف الحكومة وزعيمها حتى النصر».
على المقلب نفسه، رأى وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، أن «عدم استخدام الفيتو خطأ يزيد من صعوبة تحرير المخطوفين، وأميركا تريد تحرير المخطوفين، ولكن الرسالة التي أرسلتها خطأ، وحماس تستغل حق النقض لتجنّب دفع أي ثمن لوقف إطلاق النار». لكن زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، وإن رأى أن قرار مجلس الأمن ليس له أي معنى عملي، إلا أنه نبّه إلى أن «الخلاف مع واشنطن ضار وغير ضروري، وكان من الممكن تجنبه، والأزمة التي يقودها نتنياهو مع واشنطن سيئة لإسرائيل»، مضيفاً أن «هذه الأزمة كان من الممكن إدارتها بشكل مختلف». وقال: «مسموح في بعض الأحيان أن تقول لا للأميركيين. إن إسرائيل هي بالفعل دولة مستقلة، ولسنا بحاجة إلى إذن من أحد للدفاع عن أنفسنا»، مستدركاً بأن «من الأفضل إبقاء الخلافات في غرف مغلقة، ومن الأفضل تنسيق كل شيء مع أكبر قوة في العالم وأهم حليف لنا».
من جهتهم، انتقد محللون في الصحف الإسرائيلية، الصادرة أمس، قرار نتنياهو إلغاء إرسال الوفد إلى واشنطن. وأشار المحلل العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، إلى وجود «قلق كبير» في قيادة جهاز الأمن الإسرائيلي من «تراجع العلاقات مع الولايات المتحدة وتدهور مكانة إسرائيل الدولية». وأوضح أن «التخوف السائد لدى جميع الذين يشغلون المناصب المركزية، هو أننا في بداية تحولات ستستمر لسنين، ومن أنه سيكون من الصعب جداً وقفها. ومن شأن ذلك أن يعرّض إسرائيل لحملات مقاطعة، ومحاكمة ضباط في لاهاي، وفتور في العلاقات مع دول صديقة». ورأى المحلل السياسي في صحيفة «معاريف»، بِن كسبيت، بدوره، أن قرار نتنياهو «دليل على أن هذا الرجل فاقد للأهلية. فنتنياهو يُهين الإدارة الأميركية ويفعل ذلك بلا سبب». ورأى أن هدف رئيس الحكومة الأساسي من إثارة أزمة مع الإدارة الأميركية هو «صرف الأنظار عن قانون التهرّب من الخدمة العسكرية للحريديين وتركيزها على الصراع بينه وبين بايدن. وهو مستعد للتضحية بالعلاقات مع الولايات المتحدة مقابل فذلكة إعلامية لسياسة داخلية قصيرة الأمد. وقد فقد قدرته على ترجيح الرأي. وكل يوم آخر لهذا الرجل في الحكم هو ضرر استراتيجي لمستقبل إسرائيل».
ولم يكن انتقاد صحيفة «يديعوت أحرونوت» أقل لذعاً، إذ نشرت رسماً كاريكاتورياً لذراع نتنياهو الصغيرة وهي تصارع يد بايدن الأكبر حجماً، حيث بالكاد تطوّق قبضة الأول إصبع الثاني. وفي الصحيفة نفسها، سخر الكاتب ناحوم برنياع من قرار نتنياهو، متخيّلاً مشهد تلقّي أركان الإدارة الأميركية لقرار إلغاء الزيارة، قبل أن ينفجروا ضحكاً ساخرين. وتابع أن «نتنياهو يتعامل مع أميركا بنفس الطريقة التي يتعامل بها المراهق المدلل مع والديه: بالتمرد والإهانات والفضائح الدائمة»، لافتاً إلى أن «إسرائيل تحولت إلى عبء انتخابي في حملة انتخابية صعبة (لبايدن)».