في المشهد الدائم التطور لحركات المقاومة، برزت أخيراً قطيعة مذهلة بين مناهج الأجيال السابقة، الذين نشأوا في عصر أشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة CDs، وبين أبناء الجيل Z (مواليد 1997 حتى 2012). المجموعات السابقة، شاهدت واستمعت إلى الأناشيد وعمليات المقاومة وخطابات قادتها عبر أدوات الزمن الماضي. زمنٌ اتسم بـ«نوستالجيا» يشعر بها مَن هم في منتصف الثلاثين. في المقابل، يستغل الجيل Z الطابع الفوري والبصري المنتشر للمنصات الرقمية، ويستخدم الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي كأدوات للتعبير في النضال من أجل التغيير. وفي حين أن الأساليب قد تختلف من جيل إلى آخر، إلا أن السعي إلى رفع الظُلم عن الشعوب المقهورة عبر الأجيال فكرة أصيلة لا يتغيّر جوهرها، ولو صارت رسومات «أنيمي»
للوهلة الأولى، تبدو فكرة إعادة تصوّر قادة المقاومة شخصيات «أنيمي» (أسلوب من الرسوم المتحركة اليابانية) متناقضة، بل سريالية. مع ذلك، عند الفحص الدقيق، نكتشف فهماً عميقاً لقوة القصص المرئية في تشكيل الوعي الجماعي. تتمتع «الأنيمي» بقدرة فريدة على جذب الجماهير عبر الثقافات والأجيال، فهي ليست حصراً باليافعين. تمتد أهمية هذا التطور إلى ما هو أبعد من مجرد التعبير الفني، فهو يمثل تطوراً إستراتيجياً في كيفية تصوّر رموز حركات المقاومة في وعي الشباب العالمي.

العميد يحيى سريع

وفي عصر تسود فيه حرب المعلومات، تُعدّ القدرة على صياغة الروايات والرموز أمراً بالغ الأهمية. وكما استخدمت الإمبراطورية الأميركية «كوميكس» الأبطال الخارقين لإبراز قوتها ونفوذها في عقول الشباب، كان لافتاً استخدام حساب من كوريا الشمالية على منصة إكس يدعى @nationaljuche، أدوات الذكاء الاصطناعي لرسم قادة المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وإيران وقادة روسيا والصين وكوريا الشمالية في شكل «أنيمي» انتشرت على منصة التواصل. يدلّ الموقع الجغرافي لصاحب الحساب بأنّه من كوريا الشمالية، وصورة المستخدم التي يضعها هي «أنيمي» ترتدي بزّة كلاسيكية وخلفه علم بلاده. نشر عدداً من صور رموز المقاومة وقادتها مستخدماً أداة الذكاء الاصطناعي Midjourney. بما في ذلك، صور المتحدث الرسمي باسم القوات المسلّحة اليمنية العميد يحيى سريع، والناطق باسم «كتائب عز الدين القسام» أبو عبيدة، وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وغيرهم من الزعماء، ولا سيما الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
ظهور «الأنيمي» كوسيلة للتعبير عن المعارضة ومقاومة الاستعمار، يعكس تصوّراً عن «معسكر مقاومة عالمية». وسيلة أنشأت بعداً جديداً لرموز صار يمكن لشباب اليوم أن يرتبطوا بها. أبطال يحاربون الظلم والاحتلال الإمبريالي والسياسات النيوليبرالية والهيمنة الرأسمالية العالمية، وليس فقط الدفاع عن مانهاتن من الغزو الفضائي أو من الجوكر. ولمدة طويلة، روّجت قوى الهيمنة الثقافية الأميركية للقيم العسكرية، ومبررات التدخل في شؤون الدول عبر الأبطال الخارقين مثل قصص Marvel وDC Comics ورسوم «الأنيمي». وفي هذا الجانب، كان إظهار رموز المقاومة في شكل «أنيمي»، تعبيراً ماهراً عن الانخراط في حرب أيديولوجية رمزية عبر استعادة الوسائط الثقافية نفسها وإعادة اختراعها عبر أدوات القوة الناعمة والترفيه الشعبي الذي احتكرته الولايات المتحدة لمدة طويلة. عبر تقديم الأبطال المناهضين للإمبريالية بجرأة في أسلوب فن «الأنيمي» الذي يأخذ حصة وازنة من الترفيه الشبابي العالمي، يصبح لدى الشعوب المستضعفة فرصة لفرض قصص جديدة. قصص تتحدى الأساطير الإمبريالية الراسخة في العقول.

الرئيس الصيني شي جين بينغ

أحد الأسباب الأساسية التي تجعل «الأنيمي» ذا قيمة كبيرة، قدرتها الفائقة على نسج الروايات التي تنقل المشاهدين إلى عوالم غنية وخيالية، تتصارع فيها الشخصيات مع المآزق الفلسفية والروحانية والمعايير الثقافية وأعماق الطبيعة البشرية. إن ما يميز «الأنيمي» حقاً هو تطويره الكبير لشخصيات متعددة الطبقات ذات قصص درامية معقدة، ودوافع دقيقة، وأصالة تشكّل روابط لا يمكن إنكارها مع الجمهور. شخصيات كاملة تولد مع كفاحها وانتصاراتها وتطورها، تعاطفاً عميقاً واستثماراً عاطفياً من المشاهد. نسيجٌ خِيط بمهارة إلى درجة أنه لا يمكن للمرء إلا أن يجد نفسه متشابكاً مع مصائر تلك الشخصيات.
إعادة اختراع الوسائط الثقافية عبر أدوات القوة الناعمة والترفيه الشعبي الذي احتكرته الولايات المتحدة طويلاً


البحث عن الأصل الفكري لظهور تلك الصور، يعكس تحولات جيوسياسية أوسع نطاقاً نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب بدأ يشعر به ويتماهى معه جيل الشباب. عندما تبدأ الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية للأحادية العالمية بالتلاشي، فإنّ ذلك يخلق فرصاً للقوى المتنافسة والسرديات المختلفة في الظهور. بالتالي، يمكن لنا رؤية «أنيمي» رموز المقاومة المناهضين للإمبريالية عبر عدسة العالم المتعدد الأقطاب. ذلك أن قبضة الإمبراطورية على كيفية تقديم الفضائل والقيم الثقافية والهويات والعدالة، تواجه المزيد من التراجع. فقد أدت الإخفاقات والتجاوزات من تسليح الدولار عبر العقوبات والحرب على «الإرهاب» التي لا تنتهي والأزمة المالية عام 2008 إلى ظلم مستمر ضرب الهيمنة الثقافية لمؤسسات القوة الناعمة الأميركية. وأحد أوضح الأمثلة على ذلك، تراجع سوق أفلام الأبطال الخارقين حتى في الولايات المتحدة نفسها. والأرقام التي نشرها موقع «أكسيوس» في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي تؤكد ذلك. وصف التقرير القضية بـ«بعد عقد من السيطرة على شباك التذاكر، أُطيح بالأبطال الخارقين من عرش الثقافة الشعبية في 2023». صحيح أنّ بعضهم يعزو الأمر إلى ميل تلك الأفلام إلى «الصوابية السياسية» بشكل أكبر، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة تراجع السوق وتخلّي الجمهور عنه. هذا الفراغ في السردية الغربية، يمكن للقوى الإبداعية المناوئة أن تستغله لإعادة تعريف مركز القوة في العالم، أو بالأحرى مراكزها. وليس بالضرورة، في طبيعة الحال، أن يُملأ هذا الفراغ بالرموز والقادة فقط، بل يجب خلق شخصيات تجتمع فيها صفاتهم. فالفكرة هي الأصل.