في اليوم الـ175 للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدت الصورة أكثر تعقيداً من ذي قبل بالنسبة إلى طرفي الصراع، وتوقّعاتهما مما يجري في الميدان نفسه أو على المستوى السياسي الموازي له. فالمفاوضات في الدوحة فشلت في جولتها الأخيرة، بسبب وجود هوة كبيرة بين توقعات العدو لمواقف حركة «حماس» وبين حقيقة هذه المواقف، إلا أنها لم تنتهِ كلياً. وفي المقابل، ظهرت مبالغة في موقف المراهنين على سقوط حكومة بنيامين نتنياهو نتيجة الخلاف حول تجنيد المتدينين اليهود (الحريديم)، إذ يبدو أن أطراف الائتلاف متمسّكة به، رغم خلافاتها حول هذه المسألة.وفي سياق تلك التعقيدات، يمكن إيراد أربع ملاحظات:
أولاً: لا يوجد في مسألة تجنيد «الحريديم»، رغم أهميتها ودلالاتها، ما يؤشر إلى الأزمة التي كان ينتظرها البعض، أي إسقاط حكومة نتنياهو، وفقاً لديناميكيات السياسة الداخلية في إسرائيل؛ إذ على النقيض من ذلك، تشير الأزمة إلى أن أعضاء الائتلاف متمسكون بائتلافهم وبقائهم فيه، حتى مع التباين في مواقفهم، بل خلافهم الحاد، حول هذه المسألة. ويبدو أن نتنياهو يدير الخلاف بما يكفل أن لا يتسبّب له ولحكومته بـ«وجع رأس» حقيقي، من شأنه تهديد الحكومة، وهو يعتمد التسويف وشراء الوقت بلا قرار فعلي، الأمر الذي يؤجّل الاستحقاق عملياً، على غرار ما كان يُعمل به منذ عقود: إعفاء «الحريديم» من ناحية فعلية من التجنيد، مع وعود نظرية بتجنيدهم ضمن آلية يصار إلى بلورتها في السنوات المقبلة. على أن أهمية أزمة التجنيد الآن، تكمن في كشفها مواقف مركّبات حكومة نتنياهو، من الائتلاف نفسه واستمرار وجوده وإرادة الامتناع عن إسقاطه، أكثر من كونها تكشف الموقف من تجنيد «الحريديم» نفسه. وهذا، بدوره، يرتدّ، في طبقة ثانية من الدلالات، على الحرب، من حيث كون العامل الداخلي الذي راهن البعض عليه، عاجزاً أو ممتنعاً، في هذه المرحلة على الأقل، عن إسقاط نتنياهو.
ثانياً: رغم فشل مفاوضات الدوحة في التوصل إلى اتفاق جزئي لتبادل الأسرى، مع هدنة مؤقتة لأسابيع طويلة نسبياً، إلّا أن المفاوضات نفسها لم تنتهِ، بدليل بقاء وفد تقني إسرائيلي في الدوحة، لمواكبة أي مستجدّ قد يطرأ على مسار التفاوض، من شأنه إعادة إطلاقه من جديد، رغم الخلاف الكبير في مواقف أطرافه. وكان واضحاً من أداء الوفد الإسرائيلي، الذي تلقّى هذه المرة تفويضاً أوسع نسبياً مما سبق، وجود هوة بين الواقع وتقدير «تل أبيب» له، خاصة في ما يتعلّق بسقف مواقف «حماس»، والتي قدّر العدو أنها ستكون ليّنة ومستجيبة للشروط الإسرائيلية مهما علت، ليُفاجأ بموقف صلب جرى تليينه لتسهيل التوصل إلى هدنة فحسب، من دون التنازل عن الشروط الرئيسية التي جرى تأجيل بعضها إلى المراحل التالية. ولعلّ هذه الهوة هي التي تسبّبت في منع التوصل إلى اتفاق، ما يشير إلى استمرار فشل استخبارات إسرائيل في تقديرها نيّات الطرف الثاني وقدراته، على غرار فشل تقدير القدرة والنيّة، اللتين سبقتا عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين أول الماضي. والسؤال الآن: هل يُعاد إحياء المفاوضات من جديد وفقاً لسقوف توقّعات أدنى من الجانبين؟ التقديرات ترجّح ذلك، وإن كان عامل الخشية من تبعات شهر رمضان سقط من حسابات الأطراف، وتحديداً الوسطاء، الذي بات توثّبهم أقلّ من ذي قبل.
التهديد باجتياح رفح يأتي في خدمة المفاوض الإسرائيلي أكثر من كونه في سياق غزو وشيك


ثالثاً: تحوّل الجيش الإسرائيلي إلى المرحلة الثالثة من العملية البرية في شمال القطاع ووسطه، عبر القتال بوتيرة أدنى من ذي قبل، مع التشدّد في التوغّلات بين الحين والآخر، وإقلاق السكان وترهيبهم ومنع عودتهم إلى مناطقهم التي نزحوا عنها، ومواصلة التضييق على من بقي منهم لدفعهم إلى الرحيل عنها. وتعمل الآن في القطاع أربعة ألوية قتالية فقط، تتولى الأمن وعمليات التوغّل المحدودة الموضعية والهادفة، ضمن مهمة الإبقاء على القتال لمنع الروتين، والتحوّل إلى استقرار ميداني نسبي في مرحلة ما بعد انتهاء العمليات البرية الكبرى. وفي الموازاة، ينفّذ الجيش مخططاته لفرض وقائع ميدانية يصعب التراجع عنها أو تغييرها في أي اتفاق لاحق، ومن ضمنها عمليات الهدم والتجريف في المناطق المتاخمة لحدود غزة بعمق كيلومترين، لزوم إنشاء حزام أمني بالنيران أو عبر الوجود المادي المباشر للقوات الإسرائيلية، بوصف ذلك خط دفاع إضافياً يحول بين الفلسطينيين والمستوطنات، في ظل عدم وجود أي ترتيب سياسي وأمني للقطاع، في اليوم الذي يلي الحرب.
رابعاً: ما زالت منطقة رفح، أقصى جنوب القطاع، مهدَّدة بشن عملية عسكرية برية على غرار ما حصل في شمال غزة ووسطها. والواقع أن هذه العملية تحوز تأييد الغالبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي، ومعظم أطراف القوس السياسي، وإن اختلفت دوافع مواقفهم، بين مصلحة شخصية، كما هو حال نتنياهو، أو مصلحة أيديولوجية، كما هو حال اليمين الفاشي في ائتلافه، أو نتيجة تردّد وخشية من معاندة الجمهور وتوقعاته منهم، كما هو حال بني غانتس وغادي آيزنكوت. ومع ذلك، فإن التهديد الدائم بغزو رفح، في هذه المرحلة على الأقلّ، يأتي في خدمة المفاوض الإسرائيلي أينما حلّ، سواء في باريس أو الدوحة أو القاهرة، أكثر من كونه في سياق غزو وشيك والتمهيد له؛ إذ لا وجود لمؤشرات ميدانية إلى استعداد لمثل هذا السيناريو، إضافة إلى وجود موانع سياسية معتدّ بها، وتحديداً الموقف الأميركي الرافض للغزو.