«بابا مبجيش لعنا لإنه مَعندوش باب»؛ تلك هي الصورة الذهنية المتشكّلة لدى الصغيرة ميلاد عن شكل السجن، حيث وضعوا والدها قبل أن تعرفه بعقود طويلة، وقبل أن تصبح مستقبله الهارب نُطفة، استقرت في رحم والدتها سناء، لتأتي الطفلة إلى الدنيا بعد أربعة أعوام. وحتى الباب الذي كانت تدخل منه مرتين شهرياً، للقاء والدها لمدّة 45 دقيقة، من دون أن تتوهّم أنه هو منفذه للخروج إلى حيث تعيش، مثل بقيّة الفلسطينيين، في السجن الأكبر، لم يعد موجوداً بالنسبة إليها؛ فقد انتهى فصل الربيع أمس إلى الأبد، حين استشهد والدها الأسير وليد دقة، بعدما استهلك السجن ما يقرب الـ39 عاماً من حياته.لحظةُ اعتقاله، كان تذكَّرها وليد ورواها في مقابلة سابقة مع «الأخبار» قال فيها: «وأنا في هذه اللحظة (لحظة الاعتقال) كان عقلي، وربما روحي، يتأملان هذا الجسد الذي أُسِر من خارجه كأنه جسد شخص آخر، أو ربما أيضاً سلّم عقلي بعقلانيّة باردة بأن الجسد الممدَّد في سيارة الجيب مقيداً لم يعد من مسؤوليته، لأنه مهما أجهد خلاياه فلن يكون قادراً على أن يمنع ما قد يلحقونه به من ألم». هكذا، بدا وليد مثل ظاهرة طبيعية تحدث مرّة كل ألف عام، ولذلك، لم يشأ أحد أن يصدّق أنه سيموت في سجنه، حتّى بعدما باغته السرطان، وبدأت حالته تتدهور منذ سبعة أشهر، حيث قضى آخر أيام حياته منهكاً لا يقوى على الكلام، ولا يستطيع رؤية زوجته سناء، ولا ابنته ميلاد، ولا يحصل على أدوية تسكّن آلام مرضه العصية على الاحتمال.
منذ شهرين، أتمّت ميلاد الرابعة. آنذاك، زيّنت أمها البيت في عيدها، وإلى اليوم ترفض الطفلة إزالة الزينة؛ إذ لا تزال تنتظر والدها ليأتي ويحتفل معها. تعلّمت ميلاد الكتابة أخيراً، وصارت تعرف كيف تخط كلمتي أبي وأمي على جانبي علم فلسطين الذي رسمته بيدها قبل أيام. بالأمس، بعث بن غفير بعناصر شرطته من العرب، ليقفوا مقابل شقيق وليد، أسعد دقة، بالقرب من باحة منزل العائلة، ويخاطبوه بالعربية المخلوطة بكلمات عبرية، بالقول: «هذه هي الهنحيوت (التعليمات). ممنوع بيت عزاء»، فيما الجثمان لا يزال محتجزاً في ثلاجات الموتى في درجة حرارة أربعين تحت الصفر. هكذا، يُقتل وليد مرة ثانية في غابة تُدعى «إسرائيل» يعيش فيها المستعمرون على امتصاص دماء الفلسطينيين، ولا تتمكن قوانين الغابة الكبرى التي تُدعى «العالم المتحضر» من لجمهم. ولعل في قَتل إسرائيل لوليد، بعد يومٍ واحدٍ من مطالبة «منظمة العفو الدولية» بالإفراج عنه، رسالة تحمل الرقم مليون، بأن هذه الغابة الكُبرى لا تفهم سوى لغة القوة.
ومعنى تلك القوة، كما شرحها وليد في رسالة بعثها من سجنه لمّا أتمّ عامه العشرين فيه، هو التالي: «أعترف بأنني لم أخطط لأي شيء، لا لأن أكون مناضلاً أو عضواً في فصيل أو حزب ولا حتى لأن أتعاطى السياسة، ليس لأنّ كل هذا خطأ، أو أنّ السياسة أمر منكر ومبغوض كما يحلو للبعض أن يراها، بل لأنها كانت بالنسبة إلي مواضيع كبيرة ومعقدة، أنا لستُ مناضلاً أو سياسياً مع سبق الإصرار والترصد، بل أنا ببساطة كنت من الممكن أن أكمل حياتي كدهّان أو عامل محطة وقود كما فعلت حتى لحظة اعتقالي، وكان من الممكن أن أتزوج زواجاً مبكراً من إحدى قريباتي كما يفعل الكثيرون، وأن تنجب لي سبعة أو عشرة أطفال، وأن أشتري سيارة شحن وأن أفهم بتجارة السيارات وأسعار العملات الصعبة... كل هذا كان ممكناً إلى أن شاهدت ما شاهدت من فظائع حرب لبنان وما أعقبها من مذابح صبرا وشاتيلا... لقد خلقت في نفسي ذهولاً وصدمة». وفقاً لتعريفات وليد، «الكف عن الشعور بالصدمة والذهول، والكف عن الشعور بأحزان الناس... أي ناس، وتبلّد المشاعر أمام مشاهد الفظائع... أي فظائع، كان بالنسبة إلي هاجساً يومياً، ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي. إنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة، وجوهره الجسدي هو العمل، وجوهره الروحي هو الإحساس، والإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة البشرية».
اسم وليد كان ضمن قائمة الأسرى الذين قد يفرج عنهم إذا ما توصّلت المقاومة ودولة الاحتلال إلى صفقة تبادل ضمن المحادثات الدائرة منذ أشهر، لكن وقت وليد كان من دم. لقد استُشهد الستيني بالقتل البطيء، ليكوَّم فوق جثامين الأسرى في ثلاجة الموتى وهو يرتدي القميص البني نفسه الذي ألهمه في العشرينيات من عمره. آنذاك، وقفت إحدى مكلومات مجزرة صبرا وشاتيلا فوق جثث الشهداء، باحثة عن قريب لها «لابس قميص بنّي»، لتثير بوجعها وصرختها: «وينك يا الله؟» الغضب في نفس «أبو ميلاد»، وتوحي إليه بخطف وقتل جندي صهيوني ومبادلته بأسرى فلسطينيين، في عملية ظلّت «تحزّ في نفس» إسرائيل، حتى يوم استشهاده وحيداً في سجنه.