أنهت إيران ردّها الواسع على قاعدتَين جويتَين إسرائيليتَين داخل فلسطين المحتلّة، بعد تمهّل استمر أياماً في أعقاب استهداف إسرائيل قنصليتها في دمشق، لتترك الكرة في ملعب تل أبيب، التي تتصارع مع نفسها وشركائها الأميركيين إزاء أصل الردّ على الردّ، وعلى طبيعته ومداه، في إطار معضلة تقدير موقف ثنائية: ضرورة الردّ لإعادة ترميم مكانة الدولة، وضرورة أن لا يؤدي الردّ إلى ردود مقابلة يبدو أن إسرائيل تقدّر من الآن حدوثها، وقد لا تقتصر على الجبهة الإيرانية. هكذا، وخلافاً لوضع إيران في مرحلة الإعداد لردّها، فإن تأخُّر إسرائيل في الردّ على الردّ، يعبّر عن المعضلة المشار إليها، وعن عوائق مانعة، أكثر من كونه تأمُّلاً وبحثاً في خيارات، وذلك بعدما تحدّثت تل أبيب عن ردّ «محتوم» عندما كان الردّ الإيراني لا يزال في مرحلة الحرب النفسية التي أجادها الإيرانيون.وعلى رغم أن التهديد الإسرائيلي قبل الهجوم الإيراني جاء ليخدم هدفاً ردعيّاً، إلا أنه كان ولا يزال يعبّر عمّا يجب على إسرائيل فعله في المقابل للحؤول دون تكرار الهجمات. والواقع أن هناك الكثير ممّا يمنع الردّ على الردّ، أو في حدّ أدنى يحول دون رفع مستواه إلى الحدّ الذي يعيد إلى إسرائيل مكانتها الردعية، وهو أهم أهداف أيّ ردّ قد تلجأ إليه. وفي هذا السياق، فإن لدى إسرائيل مروحة خيارات نظريّة قد تلجأ إلى أحدها، فيما هناك مروحة موانع أيضاً، فضلاً عن التجاذب الحالي في قرارها، والذي يستند إلى معادلة الجدوى مقابل الكلفة، علماً أن الكلفة نفسها غير يقينية، في ظلّ ترجيح رد إيراني جديد على الرد الإسرائيلي، أي إعادة الكرة مرّة أخرى إلى ملعب تل أبيب، التي سيكون عليها في حينه أن تتّخذ قرارات أصعب وأكثر إحراجاً ممّا هو عليه الحال الآن.
وضمن الخيارات الإسرائيلية (المتناسبة)، إمكانية توجيه ضربة صاروخية توازي الضربة الإيرانية، ضد قاعدة عسكرية أو اثنتَين إيرانيتَين، أو أن تنفّذ هجوماً جويّاً خاطفاً من خارج الأراضي الإيرانية، أو ضربة عبر سلاح البحر والغواصات الإسرائيلية، سواء كانت صاروخيّة أو غيرها، على أهداف بحرية و/ أو برية إيرانية. أما الضربة الأمنية، مع بصمة إسرائيلية منخفضة، واردة أيضاً، وهو ما تجيده إسرائيل في حالات مشابهة. إلا أن ما يصعّب القرار على صانعه في تل أبيب، أن بلورته لا تتحدّد في الأخيرة، بل بـ«التشاور» مع الراعي الأميركي، صاحب القول الفصل في هكذا قرارات، كونه الحامي والمدافع، عمليّاً وسياسيّاً، وفق ما تأكَّد في سياق الردّ الإيراني، علماً أن إسرائيل ستكون عرضة لأضرار أكبر وأوسع وأكثر خطورة إنْ عاندت وتحدّت الإرادة الأميركية في الدفع نحو منع التصعيد الإقليمي الذي لا يخدم أجندة واشنطن في هذه المرحلة.
إسرائيل ستكون عرضة لأضرار أكبر إنْ عاندت وتحدّت الإرادة الأميركية في الدفع نحو منع التصعيد الإقليمي


وفي هذا العامل تحديداً، الذي يُعدّ أكثر أهمية من أيّ عامل آخر، ثمة لغط تجدر إزالته بالآتي:
- لن تعارض أميركا، إسرائيل، في توجيه ضربة إلى إيران، صغيرة أو كبيرة، لو قدّرت أن تبعاتها محدودة، وأن الكلفة أقلّ من الجدوى فيها، ليس ربطاً بالمصالح الأميركية فحسب، بل وأيضاً بأثمان تقدّر واشنطن أن تل أبيب ستدفعها، وهي جزء لا يتجزأ من مصالحها هي.
- لو قدّرت أميركا أن تداعيات الضربة الإسرائيلية منتفية أو محدودة أو يمكن تحمّلها، وأن لا مخاطرة فيها، فستكون هي مَن يدفع إسرائيل إليها.
- لو قدّرت إسرائيل أن تداعيات هجومها ضدّ إيران محدودة مع ثمن منخفض وبلا ردود فعل قاسية أو مخاطرات، لن تستمع إلى التحذيرات الأميركية، وستلجأ إلى تنفيذ اعتدائها بلا إبطاء.
لكن هل يعني ذلك أن إسرائيل ستحتوي الضربة الإيرانية؟ هذا الأمر مشكوك فيه؛ فدافع تل أبيب يصل إلى السماء، وإنْ كانت العوائق كثيرة ومن شأنها الحؤول دون بلورة الردّ على الردّ سريعاً. وفي مطلق الأحوال، وفي سياق اجتراح قرارات الردّ على أفعال عدائية، سواء كانت آتية من دول أو من كيانات غير دولتية، تبحث طاولة القرار في ما بعد الردّ، مع تحديد ماهيته ومستواه، وإلى أيّ مدى يدحرج الردود بين الجانبَين، وهذه هي حالة إسرائيل الآن، كونها تعلم أن ردّها على الردّ سيؤدي إلى ردّ إيراني مقابل، الأمر الذي سيضعها في الموقف الحالي من جديد، مع أثمان أعلى وأكثر تأثيراً. وفي المقابل، لن تنتهي مفاعيل سلّة الفوائد الاستراتيجية التي تتلقّاها إيران جرّاء ردّها على الهجوم الأخير، في حال تنفيذ التهديد الإسرائيلي، بل ستزداد العوائد في أعقابه، خاصة إن قرّرت طهران الرد على الرد الإسرائيلي.