منذ انطلاق طلائع الاكتشافات الجغرافية والاجتياح الأوروبي الإمبريالي للعالم، شهدت البشرية ظاهرة الاستيطان الكولونيالي الإحلالي، والتي تعني احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بأخرى، وتاريخ بآخر؛ وكل عنصر من هذه العناصر إبادة قائمة بذاتها. وكان ذلك أحد معالم خروج أوروبا إلى العالم باعتباره مجالاً مفتوحاً للتمدد والهيمنة والاستيطان والإبادة، برؤية كونية إمبريالية تنزع القداسة عن الإنسان والطبيعة، وتختزل العالم فتلغي الخصوصيات والثقافات والحضارات الأخرى، وتبلغ ذروتها في مفاهيم وممارسات الترشيد العلماني المتوحش في علاقته بالإنسان والطبيعة. هكذا، اتخذ الصعود الأوروبي من «الاكتشافات الجغرافية»، ومبدأ الحرب العادلة، وعبء الرجل الأبيض، مستنداً لشرعنة الغزو والاحتلال، ومبرراً لاحتلال قارات العالم وإبادة سكانها، وإخراج ثرواتها إلى المتروبوليتان الأوروبي، وإقامة كيانات استيطانية أوروبية في ما وراء البحار، لتتقاسم الإمبرياليات قارات العالم.في هذه المرحلة الإمبريالية الميركانتيلية، تكوّنت لدى الأوروبيين ثروات هائلة نتجت منها ثورة صناعية ورأسمالية بمنظوماتها وأزماتها المزمنة، وقامت منظومات سياسية وتشريعية ودستورية لاستدامة المشروع الإمبريالي الرأسمالي، فيما بعضها لا يبتعد في جوهره كثيراً عن الفاشية. كما قامت مشروعات استيطانية كبرى في القرون الماضية في الأميركتين وأستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا. وارتبط نجاح تلك المشروعات بالقضاء على جماعات السكان الأصليين، بالحصار والاستغلال والإبادة والمسخ الثقافي. أما المشروعات التي لم تتمكن من القضاء على السكان الأصليين، كما في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا، فقد تفككت وتمت تصفيتها بعد نضال طويل وتضحيات هائلة.

أساطير الاستيطان
الحقيقة أن الصهيونية ليست جزءاً من العقيدة اليهودية، بل هي التجلي الإمبريالي لـ«علمانية» فاشية شاملة علمنت الديانة اليهودية وسخّرتها لخدمة مشروع استيطاني. فالصهيونية تنزع القداسة عن كل شيء، وتلغي أي تاريخ لفلسطين وشعبها خارج سياق تاريخ يهودي مزعوم في فلسطين، كما تختزل خصوصيات الجماعات اليهودية في العالم وثقافاتها لاختلاق قومية يهودية. والحقيقة الأخرى أنه ليست هناك أمة أو قومية يهودية أصلاً، بل هناك جماعات يهودية متعددة تنتمي بشكل أصيل وحقيقي إلى مجتمعاتها التي عاشت فيها مئات السنين.
قد يظن البعض أن الديباجات والأساطير المؤسسة لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، تخصه دون غيره من مشروعات الاستيطان الأوروبي، نظراً إلى توظيف اليهودية والتوراة في الأول. لكن الحقيقة أن الاستيطان الأوروبي قد سبق الصهاينة في استعارة ديباجاته من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها ومُثُلِها وجغرافيتها. فالمهاجرون الأوروبيون البروتستانت، الذين استمدوا رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية من نصوص التوراة، بيوريتانيون وحجاج ومعمدانيون وإيفانجيليون، تماهوا تماماً مع الروح العبرية لقصص العهد القديم وأحداثه، واعتبروا أنهم قد خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية التي لا علاقة لها بمصر الحالية) إلى أرض الميعاد. لا بل إن بعض المستوطنين الأوروبيين الأوائل كتب عهداً على السفينة التي ذهبوا بها إلى أميركا الشمالية، يشبه عهد الإله «يهوه» للشعب اليهودي في العهد القديم، وهاجروا إلى أميركا الشمالية لأنهم أرادوا تأسيس ما سموه «إسرائيل الجديدة» في العالم الجديد.
التأزم الراهن يطال النظام الدولي الخاضع لهيمنة قوى الاستيطان العالمي ودخولها طور التآكل


طمس إنسانية المُستعمَر
فشل المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني الإحلالي في فلسطين في القضاء على شعبها، وهو المشروع الوحيد القائم حالياً، حيث يتجه نحو الانحطاط الإستراتيجي مع نهوض شعوب المنطقة وتراجع الهيمنة الإمبريالية الغربية، وتتعرض مرتكزاته للاهتزاز والتآكل. بدأ هذا المشروع كصورة من التوسع الأوروبي عبر البحار في إقليم من «التخوم»، وهو يشهد حالياً طاقة استيطانية بالغة في الضفة الغربية المحتلة، وذلك مؤشر مهم إلى استسلام النظام الإقليمي العربي الذي يغذي صعود اليمين الديني وتطرفه، والذي يرى الفرصة سانحة لحسم الصراع نهائياً، واقتلاع شعب فلسطين من الضفة، بالاستيلاء على أرضه وتهجيره، بل وتصفية السلطة الفلسطينية رغم أدائها دوراً مهماً في تأمين الاحتلال.
في نص لافت، يتحدث الكاتب الإسرائيلي، ألبرت ميمي، مؤلف كتاب «المُستعمِر والمُستعمَر» (1957)، عن طمس المسْتعمِرين لإنسانية المستعمَرين، وأن الاستعمار يرفض الإقرار بإنسانية المستعمَرين بزعم أن من العبث محاولة التنبؤ بأفعالهم. كما يُخيّل للمُستعمِر أن نوازع غريبة ودوافع مقلقة تسيطر على المُستعمَر، وأنه بالضرورة غريب أو شاذ جداً. وإذ ينكر إنسانية الشعوب الواقعة تحت سيطرته، فهو يعتبر أن العنف البالغ والإبادة هما اللغة الوحيدة التي قد تفهمها هذه الشعوب. وهذا يحيل إلى عقيدة القوة والعنف والردع وإستراتيجياتها، والتي تؤكد أن الكيان الاستيطاني إجمالاً، والصهيوني بخاصة، ليس إلا تشكيلاً من عصابات القتل والسطو المسلح، يكرّس الفصل العنصري كدَولة مارقة تأسست بالعنف، من دون وجه حقٍّ، على حساب شَعبٍ آخر، هو صاحب الأرض.

عداء وإنكار التاريخ
الحقيقة أن نفي وجود السكان الأصليين وإنكار التاريخ مستقران في العقل الإمبريالي، وخاصة البريطاني. فقد بدا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل، أكثر تطرفاً عندما كان في الثلاثينيات وزيراً للمستعمرات، يتعهد المشروع الصهيوني في فلسطين، ويحوّله من «وطن قومي يهودي» إلى دولة يهودية، منكراً وجود شعب فلسطين وحقوقه، قائلاً إن «وجود الكلب في البيت لا يعطيه حقاً في البيت». لا بل إن وثائق الانتداب البريطاني لفلسطين تنكر وجود المسيحيين ولا تشير إلى شعب فلسطين إلا بتعبير «المحمديين»؛ وبالتالي لا علاقة لهم بالأرض. واستمر الإنكار بعد قيام الكيان الصهيوني عقوداً عدة، ونتذكر هنا رئيسة وزراء الكيان الصهيوني، غولدا مائير، صاحبة الصورة الشهيرة التي تَظهر بالمنظار المقرّب، مصحوبة بسؤال: أين هم الفلسطينيون؟ ومقولتها المشهورة عن اللاجئين الفلسطينيين: الكبار يموتون والصغار ينسون.
وقد تطور هذا الإنكار بعد «اتفاق أوسلو» بثلاثة عقود إلى دعوة إلى التهجير والإبادة على النحو الذي تشير إليه تصريحات وزير المالية الصهيوني، بتسلئيل سموتريتش، عن أن «العرب اخترعوا شعباً وهمياً (شعب فلسطين) من أجل التصدي للحركة الصهيونية». وقد خيّر سموتريتش الفلسطينيين في الضفة الغربية بين الخضوع التام للاحتلال أو الهجرة أو الهزيمة والقتل. لكن التطور الأبرز كان إقرار قانون القومية اليهودية (2017) كقانون أساسي (دستوري) ينفي حق تقرير المصير على أرض فلسطين لغير اليهود، ويلغي الصفة الرسمية للغة العربية ويكرّس يهودية الدولة. ويتتابع ذلك المسار، وخاصة بعد حدث 7 أكتوبر 2023، ومن محطاته تصريحات وزير التراث، عميحاي إلياهو، حول محو غزة من الوجود بالسلاح النووي، وأن على إسرائيل «إيجاد طرق مؤلمة للفلسطينيين أكثر من الموت» لهزيمتهم وحسم المعركة معهم وكسر معنوياتهم، كما فعلت الولايات المتحدة باليابان.

تأزم مشروعات الاستيطان
أوردت «محكمة العدل الدولية» تصريحات قادة إسرائيل في بيانها الأول في 26 كانون الثاني 2024، كمؤشرات دالة على توجه الدولة الإسرائيلية بأعلى مستوياتها نحو الإبادة الجماعية والتحريض عليها، وهي: تصريح رئيس الدولة بأن «كل الشعب الفلسطيني مسؤول. ليس صحيحاً أن المدنيين لم يكونوا على علم بما حدث. نحن في حالة حرب، وسنحارب حتى نكسر عظامهم»، وتصريح وزير الدفاع عن «لن يكون هناك كهرباء أو طعام أو وقود. لقد أمرت بتجاوز كل المحظورات. نحن نحارب حيوانات بشرية. لن تعود غزة إلى ما كانت عليه. سنقضي على كل شيء»، وتصريح وزير الطاقة سابقاً والخارجية الآن عن أن «على كل المدنيين في غزة المغادرة. لن يحصلوا على قطرة ماء أو بطارية واحدة حتى يغادروا العالم».
وهكذا، تتوالى الشواهد والتوجهات نحو نهج الإبادة، وتتجسد في ممارسات أدت إلى كارثة إنسانية ومقتلة هائلة ودمار شامل في قطاع غزة، بشكل لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية. أيضاً، تتوالى المؤشرات على تأزم مشروعات الاستيطان ودخولها طور النهاية والتفكك مع تصاعد مستويات العنف، وصولاً إلى الإبادة الجماعية والتدمير الشامل لحياة الشعوب الأصلية، كما يحدث في فلسطين المحتلة. ولا مبالغة في القول إن التأزم الراهن يطال النظام الدولي الخاضع لهيمنة قوى الاستيطان العالمي، ودخولها طور التآكل، وانهيار المنظومة الأخلاقية ومأزق العنف العدمي، وأهم تعبيراته: حروب بلا نهاية وتأليه العدم، وحرب الإبادة الجارية في غزة أبلغ دليل!

* باحث في التاريخ والاجتماع