منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، باتت الجامعات الأميركية ساحة للتوتّر بين الطلاب الأميركيين المؤيّدين لفلسطين، وزملائهم الداعمين لإسرائيل. وقد بدأ الأمر، منذ ذلك الوقت، يرخي بظلاله على الجدل في شأن حرية التعبير المتاحة في الأوساط الطالبية والأكاديمية للإدلاء بمواقف مؤيّدة للحقوق الفلسطينية، غالباً ما توصم بـ"الإرهاب"، أو انتقاد السياسات الإسرائيلية، والذي درج العرف السياسي الأميركي على وصفه بـ"معاداة السامية".
كيف تطوّر الحَراك الطالبي في الولايات المتحدة؟
ذاك التوتّر، المتّصل بجدليّة الحريات في جامعات الولايات المتحدة، والذي كان من المفترض أن ما عُرف بـ"تقرير لجنة كالفن" في ستينيّات القرن الماضي، قد حسمه، حين شدّد على أهمية التعددية في البيئة الأكاديمية والتعليمية، انساقت معه السلطات الأميركية وبعض إدارات الجامعات سريعاً، وفي طليعتها جامعة "كولومبيا"، نزولاً عند رغبة كبار المتموّلين الصهاينة، الذين يساهمون بنسبة كبيرة من أموال التبرعات لكبريات المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة. وهكذا، بدأت تلك الإدارات تغيير تعاملها مع الآراء المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، فارضةً تدابير عقابية في حق أصحابها، كالمنع من توظيفهم (في أكثر من 20 شركة محاماة)، والسعي إلى تقييد نشاطاتهم السياسية، وفرض حظر على عدد من المنظمات التي ينضوون في إطارها، على غرار جمعية "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، بدعوى "مكافحة معاداة السامية". والجدير ذكره، هنا، أنه بعد أسبوعين فقط على بدء إسرائيل حملة القصف على غزة، سُجّل ما يزيد على 260 حالة قمع أو تعنيف لفظي ومعنوي تعرّض لها ناشطون أميركيون شاركوا في فعاليات احتجاجية مناهضة للعدوان، أو نظّموا عرائض ضدّ كيان الاحتلال، وهي الفترة نفسها التي أَظهرت تراجع ثقة الأميركيين بنظام التعليم العالي القائم في بلادهم، بوصفه "بيئة تعليمية حرّة"، إلى مستويات قياسية لامست الـ 36%.
يبدو بايدن أكثر تركيزاً على السياسات الحزبية، واسترضاء القوى النافذة الداعمة لإسرائيل


وفي السياق نفسه، ومع اشتداد الضغوط على الطلاب وهيئات التدريس في الجامعات، على حدٍّ سواء، على غرار تهديد مجموعة من رجال الأعمال الصهاينة بسحب تبرعات بقيمة 100 مليون دولار من جامعة "بنسلفانيا"، كجزء من المساعي لتبنّي مواقف أكثر انحيازاً لإسرائيل، ارتفعت المطالبات المنادية بإقالة رئيسة الجامعة المذكورة، إليزابيث ماغيل، وأيضاً رئيسة جامعة "هارفرد"، كلوديا غاي، ورئيسة "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، سالي كورنبلوث. على إثر ذلك، استُدعيت السيدات الثلاث إلى جلسة "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية" أمام "لجنة التعليم والقوى العاملة" في الكونغرس، على خلفية اتهامهنّ بـ"الإخفاق في حماية الطلاب اليهود في الحرم الجامعي"، علماً أن تلك اللجنة هي نفسها التي استدعيت إليها رئيسة جامعة "كولومبيا"، نعمت شفيق، قبل أيام، بعد الاحتجاجات الأخيرة التي ترافقت مع اتّساع رقعة التظاهرات المندّدة بدعم واشنطن للعدوان على غزة، وبصورة غير مسبوقة، في أروقة الجامعات والمدارس الأميركية.

ما التأثير المتوقع للحراك الطالبي في سياسة بايدن؟
يتخوّف البعض من انعكاسات ما يجري في الجامعات الأميركية على فرص إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن لولاية ثانية، وخاصة في أوساط الشباب، بسبب مُضيّه في دعم الحرب على غزة. وأظهرت استطلاعات الرأي استمرار تقدّم غريمه الجمهوري، دونالد ترامب، عليه بنسبة 44% للأول، مقابل ما نسبته 46% للثاني، وفق استطلاع للرأي أجرته شبكة "إن بي سي نيوز" بين الـ 12 والـ 16 من الشهر الجاري. كذلك، أَظهر استطلاع آخر للرأي أن ما لا يقلّ عن 61% من الأميركيين يؤيّدون وقف الحرب في غزة. في المقابل، يرى آخرون أن البيت الأبيض يقلّل من شأن تلك التظاهرات، ويعمل على إفراغها من مضمونها، على أمل "قولبتها في سياق مؤامرتي" ضدّ إسرائيل أمام ناخبيه.
في هذا الإطار، نقل موقع "بوليتيكو" عن مسؤول في حملة بايدن الانتخابية، معنيٍّ بقطاع الشباب، تأكيده أن الحَراك الطالبي في الجامعات لا يشكّل عائقاً أمام إعادة انتخاب الرئيس الحالي، أو تقليصاً لحظوظه في الحصول على نسبة وزانة من أصوات الناخبين الشباب. وبرّر المسؤول اعتقاده بالإشارة إلى أن "أولئك الذين يقومون بالاحتجاجات، لا يعدّون كونهم مجموعة فرعية من الناخبين، وقد حصلوا على قدْر غير متناسب من التغطية الإعلامية، قياساً بنفوذهم السياسي الفعلي (المحدود)". وتابع أن "ما يحدث في غزة ليس القضية الأهمّ بالنسبة إلى الناخبين الشباب"، مستدلّاً على ذلك بنتائج استطلاع أجرته جامعة "هارفرد" أخيراً، وقد أظهر أن القضايا الاقتصادية تشكّل الهاجس الأكبر لِما نسبته 28% من الشباب الأميركي، مقارنة بـ 8% منهم وضعوا إنهاء الحرب في غزة كأولوية، بالنسبة إلى خياراتهم الانتخابية. وبحسب مراقبين، فإن تكاتف البيت الأبيض مع مساعي الكونغرس الرامية إلى فرض عقوبات على الشعارات المرفوعة في جامعات البلاد، والمطالِبة بوقف الحرب على غزة، يُظهر أن بايدن، أسوة بمحازبيه في الكونغرس، يبدو أقلّ اهتماماً بالمسائل المتعلّقة بحقوق الإنسان، وحرية التعبير أو حتى سلامة الطلاب في الحرم الجامعي، وأكثر تركيزاً على السياسات الحزبية، واسترضاء القوى النافذة الداعمة لإسرائيل.
لكن "بوليتيكو" أشار إلى اعتبارات قد تخالف ما تذهب إليه تقديرات مسؤولي الحملة الانتخابية لبايدن في هذا الشأن، مبيّناً أن الرئيس الأميركي لا يزال يتخلّف في استطلاعات الرأي في أوساط الناخبين الشباب، ويفشل في الحصول على مستويات تأييد مماثلة لدى تلك الفئة، على غرار ما حصده في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. وأضاف الموقع أن اللامبالاة التي طبعت موقف بايدن من الحَراك الطالبي المشار إليه "أثارت قلق بعض (قيادات) الديموقراطيين"، مشيراً إلى أن أولئك يحدوهم الاعتقاد بأن "ردود الفعل المترتّبة على موقف الإدارة من الحرب في غزة يمكن أن تحرم الرئيس الأميركي الحالي من ولاية ثانية".