باريس | مساء يوم الـ 24 من نيسان، اتّحد طلبة جامعة «سيانس بو» المرموقة في باريس، والمعروفة بتميّزها في مجال العلوم السياسية والاجتماعية، في تحركات تضامنية مع فلسطين، متّخذين من الحرم الجامعي مقرّاً لنشاطهم، حيث أقاموا معسكراً ليلاً، وأعربوا بحزم عن دعمهم للقضية الفلسطينية، رافعين أصواتهم لإجبار الجامعة على الاستجابة لنداءاتهم. وحمل الطلبة المحتجّون ثلاثة مطالب: أولاً، عقد اجتماع مع الإدارة المركزية لاتخاذ موقف واضح من قِبَل الجامعة، والتنديد بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال في غزة، مثلما سارعت إلى إدانة «الغزو الروسي» لأوكرانيا منذ بدايته؛ وثانياً، إجراء تحقيق شامل مع أيّ جامعة أو شركة متواطئة في استمرار الإبادة وانتهاكات حقوق الإنسان في غزة، بهدف إجبار الأخيرة على قطع أيّ روابط مع الاحتلال، جنباً إلى جنب وقف الإجراءات التأديبية التي اتُّخذت في حق الطلبة الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية داخل الحرم الجامعي، على اعتبار أن مثل تلك الممارسات تنتهك حرية التعبير التي تدّعي الجامعة التمسّك بها.وفي مواجهة هذه النداءات، حاولت إدارة «سيانس بو» المراوَغة والتهرّب من تقديم إجابات. فتجاهلت، على مدى الأشهر الستة الماضية، مناشدات طلبتِها، ولجأت إلى التصريحات «الفاترة»، التي لم ترقَ حتى إلى مستوى إدانة إسرائيل بشكل مباشر، واعتمدت لغة «ملطّفة» تقلّل عمداً من خطورة الوضع الراهن. وهكذا، أثارت ازدواجية المعايير الفاضحة تلك غضباً كبيراً لدى شريحة واسعة من الطلبة، ولا سيما أن الإدارة عمدت، في أعقاب «غزو أوكرانيا»، إلى قطع العلاقات مباشرة مع العديد من المؤسسات الروسية. وبالإضافة إلى ذلك، سلّط إعلان الإدارة عن قائمة بـ«الشركات الشريكة» لها الضوء على الموقف الأخلاقي للجامعة؛ إذ تضمّنت اللائحة شركات كانت «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» (BDS) قد بلّغت، في وقت سابق، بأنها متواطئة في قمع الفلسطينيين، ومن بينها شركتا «كارفور» «وأكسا».
كذلك، اتّخذت الإدارة مجموعة من الخطوات التصعيدية المثيرة للقلق، من خلال اللجوء إلى تكتيكات التخويف والقمع؛ فاستدعت الطلبة للاستجواب، وبدأت تحقيقات تهدف إلى قمع الحركة المناهضة للحرب داخل الحرم الجامعي. وبلغ هذا النهج القاسي ذروته، في أعقاب احتلال الطلبة قاعة «إميل بوطمي»، التي اتّخذت، في 12 آذار الماضي، اسم «قاعة غزة»، علماً أنّها تُعدّ موقعاً تاريخياً، شهد نشاطاً كبيراً خلال حرب فييتنام عام 1968، وخُلّد لاحقاً باسم «قاعة تشي غيفارا».
ومع استمرار المواجهة بين الإدارة والهيئة الطالبية، بقي المخيّم رمزاً للعزيمة الثابتة، وشهادة حيّة على التضامن المستمرّ والسعي الدؤوب لتحقيق العدالة. واللافت أن احتلال القاعة كان مدبّراً بسرّية بالغة، وبدقّة تنفي كونه «عفوياً». ففي الواقع، وقبل يومين فقط، مهّدت الهمسات بين عدد من الطلبة الذين يُعَدّون مصدر ثقة، الطريق أمام التحرّك التضامني غير المسبوق. وفي وقت لاحق، أدخل نحو 60 طالباً الخيام وأكياس النوم بسرّية إلى حرم الجامعة، متجاوزين الإجراءات الأمنية، من خلال تهريب المستلزمات مع أغراضهم «الاعتيادية». وحوالي الساعة الخامسة مساءً، ظهرت «أغورا التضامنية» في الساحة الرئيسيّة لحرم «سانت توماس» الجامعي، التي تزيّنت بعلم ضخم لفلسطين، رفرف جنباً إلى جنب اللافتات الصغرى الأخرى والكوفيات. كما تمّ تركيب نظام صوتي «دي جي»، ومكبّرات صوت ضخمة، بثّت الموسيقى الإلكترونية وأغاني فيروز، وبالطبع، الأناشيد الفلسطينية. كان التجمّع عابراً للحدود، وجمع طلبة من خلفيّات متنوعة، أحدهم ألقى خطاباً عن الأوضاع في فلسطين، كما تمّ الاتصال، عبر تطبيق «زوم»، بصديق مشترك لعدد من الطلبة، وهو من خانيونس، ومع منظمات طالبية فلسطينية من «فرع منتون» التابع لـ«سيانس بو»، والمتخصّص في دراسات الشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط.
اتّخذت إدارة «سيانس بو» مجموعة من الخطوات التصعيدية المثيرة للقلق من خلال اللجوء إلى تكتيكات التخويف والقمع


وفي حوالي الساعة 7:30 مساءً، اجتمع الطلبة وصوّتوا لمصلحة استمرار احتلال القاعة ليلاً. فبدأ بعضهم في نصب الخيام، بينما «احتل» آخرون الكافيتيريا، التي دفع اقتراب امتحانات نهاية العام، العديد منهم إلى الدرس داخلها. كان تنظيم هذه المبادرة مميّزاً إلى حدّ كبير، ذلك أنه لم يأتِ بمبادرة «اللجنة الفلسطينية» فحسب، بل بدعم من النقابات الطالبية البارزة مثل «الاتحاد الطالبي»، «ومتضامنون»، والاتحاد النسوي «غارس». وقدّمت الأخيرة دورة تدريبية قصيرة حول العنف الجنسي، فيما قدّمت نقابة «متضامنون» إرشادات شاملة في شأن الإجراءات القانونية في حالة التدخّل الإداري الذي يستلزم اتّخاذ إجراءات من جانب الشرطة. كما زوّدت الحاضرين بتفاصيل عن محامية متخصّصة في تدابير مكافحة القمع، وحثّت المشاركين على كتابة اسمها ورقمها على أذرعهم.
وفي وقت لاحق، أي حوالي الساعة العاشرة مساءً، أثارت شائعات حول وجود ما يقرب من 10 سيارات للشرطة «CRS» خارج الحرم الجامعي، شعوراً بالخوف في أوساط الطلبة. وهي مخاوف بدّدتها التطمينات التي قدّمتها الإدارة فوراً إلى ممثّلي النقابات، بأن وجود الشرطة ليس بهدف قمع الاحتجاج. وعلى الرغم من هذه التطمينات، أعلنت الإدارة، حوالي الساعة الحادية عشرة، نيّتها استخدام قوّة الشرطة لإخلاء المبنى. وتمّ إصدار إنذار نهائي، عند الساعة الـ 11:30، منح الطلبة 20 دقيقة فقط للتباحث في ما بينهم. وشملت التحذيرات، بشكل خاص، الطلبة المنحدرين من دول غير أوروبية في جنوب الكرة الأرضية، والذين تمّت مطالبتهم بـ«إعطاء الأولوية للسلامة الشخصية والخروج على الفور» منذ الإنذار الأول. وعلى الرغم من استمرار الضغط، بقيت مجموعة من الطلبة خارج الكافيتريا وحول الخيام المجاورة. وفي تمام الساعة الـ12:30 ليلاً، حصلت المواجهة المتوقّعة، عندما دخل ضباط الشرطة إلى الجامعة، مطالبين الطلبة بإخلائها. وفي مواجهة ذلك، اختار معظم الطلاب البقاء، ما دفع الجامعة إلى توجيه سلسلة من الإنذارات النهائية. وأخيراً، غادرت مجموعة من الطلاب، من ضمنهم أنا، وانتظرنا أصدقاءنا خارج الجامعة، حيث وقفت أكثر من 30 شاحنة شرطة، وأكثر من 100 ضابط شرطة، وألوية مكافحة الجريمة، والدرك وشاحنات مخصّصة للاعتقال. وتخلّلت عملية الإخلاء مظاهر عنف جسدي، حيث تم إخراج الطلاب الباقين قسراً من المبنى من قِبَل قوات إنفاذ القانون.
على أن الطلاب استكملوا، في اليوم التالي، نشاطهم، إذ سيطروا على مدخل الحرم الجامعي القديم في شارع «27 سانت غيوم» من الداخل، مندّدين بشدّة بممارسات الشرطة في الليلة السابقة. من جهتهم، اختار العديد من الأساتذة الانضمام إلى الطلاب، في مشاهد شبيهة بتلك التي شهدتها جامعة «كولومبيا». ويأتي تضامن أعضاء من هيئة التدريس، في وقت يعاني فيه المعلّمون في فرنسا والغرب من الضغوط المؤسّسية، ويتردّدون في إدانة جرائم الحرب الموثّقة في إسرائيل، على الرغم من أن الكثيرين منهم يشاركون الطلاب مواقفهم.
ويُعدّ احتلال الحرم الجامعي المشار إليه بمثابة صدى مباشر لأعمال الاحتجاج المماثلة التي شهدتها، في البداية، جامعة «كولومبيا» في نيويورك، قبل أن تشمل الجامعات في سائر أنحاء الولايات المتحدة. وإلى جانب الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في «تحفيز» هذه الاحتجاجات، فإن حركة التضامن الطالبي العابرة للحدود متجذّرة بعمق، من خلال شبكة قوية من الطلبة، تشكّلت بفضل برامج «الشهادات المزدوجة» الممتدّة عبر المحيط الأطلسي. والجدير ذكره أن جامعة «سيانس بو» هي من الجامعات التي تسهّل مثل هذه التبادلات الأكاديمية بين القارات، وتعزّز التعاون مع مؤسسات مثل «كولومبيا»، في دراسات البكالوريوس والدراسات العليا. وعلى سبيل المثال، شارك اثنان من أصدقائي المقرّبين، الذين عرفتهم ودرست معهم في «حرم مينتون» التابع لـ«سيانس بو»، بين عامَي 2018 و2020، في معسكر التضامن مع غزة في «كولومبيا». وبالمثل، درست مريم علوان، وهي من المنظّمين البارزين للاحتجاجات في «كولومبيا»، في «حرم مينتون» أيضاً، مع بعض المنظّمين الموجودين حالياً في باريس. وفي تغريدة، أعربت علوان عن فخرها بمشاهدة توسُّع الحركة التضامنية لتشمل أوروبا، مؤكدةً أن الأحداث الأخيرة «تمثّل رسمياً انتشار الاحتجاجات إلى أوروبا. فخورة للغاية بزملائي»، ومعتبرةً أن هذا يؤكد «الترابط بين الناشطين الطلبة في جميع أنحاء القارتين».
وعلى الرغم من ارتباط جامعة «سيانس بو» التاريخي بالنخبوية والمصالح الحكومية، فإن جملة من القيم والقناعات الثابتة تدفع تحرّكات الطلبة الأخيرة. وفي السابق، تردّدت أصداء تحركات طالبية، من مثل احتجاجات أيار 1968 ضدّ حرب فييتنام، في قاعات حرم «سيانس بو»، «ورابطة اللبلاب» على حدّ سواء، وكانت بمثابة تذكير قويٍّ بقدرة الطلبة على تشكيل الخطاب العالمي. وحالياً، يستعمل هؤلاء الطلبة موقعهم بوعي: طالما السماء فوق غزة غائمة بسبب القصف المموَّل من الغرب، فَلْتَكن فوضى في المحيط الأطلسي، ولتكن مساءلة على النطاق العالمي.